قوله تعالى : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } قال ابن عباس : ذوو الحزم . وقال الضحاك : ذوو الجد والصبر . واختلفوا فيهم ، فقال ابن زيد : كل الرسل كانوا أولي عزم ، لم يبعث الله نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ، ورأي وكمال عقل ، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض ، كما يقال : اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز . وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو عزم إلا يونس بن متى ، لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ( الأنعام-90 ) . وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة مع أعداء الدين . وقيل : هم ستة ، نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، عليهم السلام ، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء . وقال مقاتل : هم ستة : نوح ، صبر على أذى قومه ، وإبراهيم ، صبر على النار ، وإسحاق ، صبر على الذبح ، ويعقوب ، صبر على فقد ولده وذهاب بصره ، ويوسف ، صبر على البئر والسجن ، وأيوب ، صبر على الضر . وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أصحاب الشرائع ، فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة . قلت : ذكرهم الله على التخصيص في قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } ( الأحزاب-7 ) ، وفي قوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً } ( الشورى-13 ) .
أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي ، حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم سبط الصالحاني ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ الحافظ ، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، أنبأنا محمد بن الحجاج ، أنبأنا السري بن حيان ، أنبأنا عباد بن عباد ، حدثنا مجاهد بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت عائشة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها ، والصبر على مجهودها ، ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم ، وقال : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل وإني والله لا بد لي من طاعته ، والله لأصبرن كما صبروا ، وأجهدن كما جهدوا ، ولا قوة إلا بالله " . قوله تعالى : { ولا تستعجل لهم } أي : ولا تستعجل العذاب لهم ، فإنه نازل بهم لا محالة ، كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم ، فأمر بالصبر وترك الاستعجال . ثم أخبر عن قرب العذاب فقال : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } من العذاب في الآخرة ، { لم يلبثوا } في الدنيا ، { إلا ساعةً من نهار } أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار ، لأن ما مضى وإن كان طويلاً كأن لم يكن . ثم قال : { بلاغ } أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم ، والبلاغ بمعنى التبليغ ، { فهل يهلك } بالعذاب إذا نزل { إلا القوم الفاسقون } الخارجون من أمر الله . قال الزجاج : تأويله : لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون ، ولهذا قال قوم : ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على مكرهم فقال : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لك - أيها الرسول الكريم - فاصبر على أذى قومك ، كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل ، أى : أصحاب الجد والثبات والصبر على الشدائد والبلاء . . وهم - على أشهر الأقوال - : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - صلوات الله عليهم جميعا - .
وقوله : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } نهى منه - تعالى - لنبيه عن استعجال العذاب لهم . أى : ولا تستعجل لهم العذاب . فالمفعول محذوف للعلم به . . ثم بين - سبحانه ما يدعو إلى عدم الاستعجال فقال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ . . } . أى : اصبر - ايها الرسول - على أذى قومك كما صبر إخوانك أولو العزم من الرسل . ولا تستعجل العذاب لهؤلاء الكافرين فإنه آتيهم لا ريب فيه ، وكأنهم عندما يرون هذا العذاب ويحل بهم ، لم يلبثوا فى الدنيا إلا وقتا قليلا وزمنا يسيرا ، لأن شدة هذا العذاب تنسيهم كل متع الدنيا وشهواتها .
وقوله - تعالى - : { بَلاَغٌ } خبر لمبتدأ محذوف أى : هذا الذى أنذرتكم به ، أو هذا القرآن بلاغ كاف فى وعظكم وإنذاركم إذا تدبرتم فيه ، وتبليغ من الرسول - صلى الله عليه وسلم إليكم .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } كلا ، إنه لا يهلك بعذاب الله - تعالى - إلا القوم الخارجون عن طاعته ، الواقعون فى معصيته فالاستفهام للنفى . .
وبعد فهذا تفسير لسورة " الأحقاف نسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده . والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات .
وقوله تعالى : { فاصبر } الفاء عاطفة هذه الجملة من الوصاة على هذه الجملة من الإخبار عن حال الكفرة في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط ، أي هذه حالهم مع الله ، فلا تستعجل أنت فيما حملته واصبر له ولا تخف في الله أحداً .
وقوله : { من الرسل } { من } للتبعيض ، والمراد من حفظت له مع قومه شدة ومجاهدة كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم صلى الله عليهم ، هذا قول عطاء الخراساني وغيره . وقال ابن زيد ما معناه : إن { من } لبيان الجنس . قال : والرسل كلهم { أولو العزم } ، ولكن قوله : { كما صبر أولو العزم } يتضمن رسلاً وغيرهم ، فبين بعد ذلك جنس الرسل خاصة تعظيماً لهم ، ولتكون القدوة المضروبة لمحمد عليه السلام أشرف ، وذكر الثعلبي هذا القول عن علي بن مهدي الطبري . وحكي عن أبي القاسم الحكيم أنه قال : الرسل كلهم أولو عزم إلا يونس عليه السلام{[10337]} ، وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورين في سورة الأنعام ، لأنه قال بعقب ذكرهم { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده }{[10338]} [ الأنعام : 90 ] . وقال مقاتل هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلاً ، وإبراهيم صبر للناس ، وإسحاق صبر نفسه للذبح{[10339]} ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال : { فصبر جميل }{[10340]} [ يوسف : 83 ] ، ويوسف على السجن وفي البئر ، وأيوب صبر على البلاء .
قال القاضي أبو محمد : وانظر أن النبي عليه السلام قال في موسى : «يرحم الله موسى ، أوذي بأكثر من هذا فصبر »{[10341]} ولا محالة أن لكل نبي ورسول عزماً وصبراً .
وقوله : { ولا تستعجل لهم } معناه لا تستعجل لهم عذاباً ، فإنهم إليه صائرون ، ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة ، فإنهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة لاحتقارهم ذلك ، لأن المنقضي من الزمان إنما يصير عدماً ، فكثيره الذي ساءت عاقبته كالقليل .
وقرأ أبي بن كعب «ساعة من النهار » . وقرأ جمهور القراء والناس : «بلاغٌ » وذلك يحتمل معاني ، أحدها : أن يكون خبر ابتداء ، المعنى : هذا بلاغ ، وتكون الإشارة بهذا إلى القرآن والشرع ، أي هذا إنذار وتبليغ ، وإما إلى المدة التي تكون كساعة كأنه قال : { لم يلبثوا إلا ساعة } كانت بلاغهم ، وهذا كما تقول : متاع قليل ونحوه من المعنى .
والثاني : أن يكون ابتداء والخبر محذوف . والثالث : ما قاله أبو مجلز فإنه كان يقف على قوله : { ولا تستعجل } ويقول : «بلاغٌ » ابتداء وخبره متقدم في قوله : { لهم } وقدح الناس في هذا القول بكثرة الحائل{[10342]} . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ، وعيسى : «بلاغاً » ، وهي قراءة تحتمل المعنيين اللذين في قراءة الرفع ، وليس يدخلها قول أبي مجلز ونصبها بفعل مضمر . وقرأ أبو مجلز وأبو سراج الهذلي : «بلِّغ » ، على الأمر{[10343]} . وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «بلاغٍ » بالخفض نعتاً للنهار{[10344]} .
«فهل يُهلَك » على بناء الفعل للمفعول . وقرأ بعضهم فيما حكى هارون : «فهل يَهلِك » ببناء الفعل للفاعل وكسر اللام ، وحكاها أبو عمرو عن الحسن وابن محيصن : «يَهلَك » بفتح الياء واللام{[10345]} . قال أبو الفتح : وهي مرغوب عنها . وروى زيد بن ثابت عن النبي عليه السلام : «فهل يُهلِك » بضم الياء وكسر اللام «إلا القوم الفاسقين » بالنصب .
وفي هذه الألفاظ وعيد محض وإنذار بين ، وذلك أن الله تعالى جعل الحسنة بعشر امثالها والسيئة بمثلها ، وأمر بالطاعة ووعد عليها بالجنة ، ونهى عن الكفر وأوعد عليه بالنار ، ( فلن يهلك على الله إلا هالك ) كما قال صلى الله عليه وسلم{[10346]} . قال الثعلبي : يقال إن قوله : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } أرجى آية في كتاب الله تعالى للمؤمنين{[10347]} .
{ فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ ساعة من نهار }
تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله : { وإذا تُتْلَى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين } [ الأحقاف : 7 ] ، وما اتصل به من ضَرْب المَثل لهم بعاد . فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما لقيه منهم من أذى ، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم . ويجوز أن تكون الفاء فصيحة . والتقدير : فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا .
وأولوا العزم : أصحاب العزم ، أي المتصفون به . والعزم : نية محققة على عمل أو قول دون تردد . قال تعالى : { فإذا عزمت فتوكّل على الله } [ آل عمران : 159 ] وقال : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } [ البقرة : 235 ] . وقال سعد بن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه :
إذا هَمَّ ألقَى بين عينيه عزمه *** ونكَّب عن ذكر العواقب جانباً
والعزم المحمود في الدين : العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة ، وقوامه الصبر على المكروه وباعث التقوى ، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] وقال : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبلُ فنسي ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] . وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف ، وعلى هذا تكون { مِن } في قوله : { من الرسل } تبعيضية . وعن ابن عباس أنه قال : كل الرسل أولو عزم ، وعليه تكون { مِن } بيانية .
وهذه الآية اقتضت أن محمداً صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه ، فصبره مثيل لصبرهم ، ومَن صَبَرَ صَبْرَهم كان منهم لا محالة .
وأعقبَ أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين ، أي الاستعجال لهم بالعذاب ، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلاً لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة .
ومفعول { تستعجل } محذوف دل عليه المقام ، تقديره : العذاب أو الهلاك . واللام في { لهم } لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله ، أي لا تستعجل لأجلهم ، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير : لا تستعجل لهلاكهم . وجملة { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله ، قال مرة بن عداء الفقعسي ، ولعله أخذ قولَه من هذه الآية :
كأنك لم تُسبق من الدّهر ليلةً *** إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وهم عند حلوله منذ طول المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة .
و { من نهار } وصف الساعة ، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئاً يشغله . فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله صلى الله عليه وسلم " وفيه ساعة يُستجاب فيها الدعاء " ، وأشار بيده يقللها ، والساعة جزء من الزمن .
فذلكة لما تقدم بأنه بلاغ للناس مؤمِنهم وكافِرهم ليعلم كلٌّ حَظّه من ذلك ، فقوله : { بلاغ } خبر مبتدإ محذوف تقديره : هذا بلاغ ، على طريقة العنوان والطالع نحوَ ما يُكتب في أعلى الظهير : « ظهير من أمير المؤمنين » ، أو ما يكتب في أعلى الصكوك نحو : « إيداع وصية » ، أو ما يكتب في التآليف نحو ما في « الموطأ » « وقوت الصلاة » . ومنه ما يكتب في أعالي المنشورات القضائية والتجارية كلمة : « إعلان » .
وقد يظهر اسم الإشارة كما في قوله تعالى : { هذا بلاغ للناس } [ إبراهيم : 52 ] ، وقول سيبويه : « هذا باب علم ما الكلم من العربية » ، وقال تعالى : { إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين } [ الأنبياء : 106 ] .
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً على طريقة الفذلكة والتحصيل مثل جملة { تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] ، { تلك أمة قد خلت } [ البقرة : 134 ] .
{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } .
فرع على جملة { كأنهم يوم يرون ما يُوعدون } إلى { من نهار } ، أي فلا يصيبُ العذاب إلا المشركين أمثالهم . والاستفهام مستعمل في النفي ، ولذلك صحّ الاستثناء منه كقوله تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه } [ البقرة : 130 ] .
ومعنى التفريع أنه قد اتضح مما سمعت أنه لا يهلك إلا القوم الفاسقون ، وذلك من قوله : { قل ما كنتُ بِدْعاً من الرسل } [ الأحقاف : 9 ] ، وقوله : { لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين إلى قوله : { ولا هم يحزنون } [ الأحقاف : 12 ، 13 ] ، وقوله : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } [ الأحقاف : 27 ] الآية .
والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي ، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد ، وما في قوله : { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } ، وبعضه مجازي وهو سوء الحال ، أي عذاب الآخرة : وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين .
وتعريف { القوم } تعريف الجنس ، وهو مفيد العموم ، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل .
والتعبير بالمضارع في قوله : { فهل يُهلَك } على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لمّا يقَعْ على إهلاك الأمم الذين قبلهم . ولك أن تجعل التعريف تعريف العهد ، أي القوم المتحدث عنهم في قوله : { كأنهم يوم يرون ما يوعدون } الآية ، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك .
والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك . وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك ، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مثبته على المضيّ لما قلّده من عبْءِ الرسالة، وثقل أحمال النبوّة صلى الله عليه وسلم، وآمره بالائتساء في العزم على النفوذ لذلك بأولي العزم من قبله من رسله الذين صبروا على عظيم ما لَقُوا فيه من قومهم من المكاره، ونالهم فيه منهم من الأذى والشدائد فاصْبِرْ يا محمد على ما أصابك في الله من أذى مكذّبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم بالإنذار "كمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ "على القيام بأمر الله، والانتهاء إلى طاعته من رسله الذين لم ينههم عن النفوذ لأمره، ما نالهم فيه من شدّة. وقيل: إن أولي العزم منهم، كانوا الذين امتُحِنوا في ذات الله في الدنيا بالمِحَن، فلم تزدهم المحن إلا جدّا في أمر الله، كنوح وإبراهيم وموسى ومن أشبههم...
وقوله: "وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ" يقول: ولا تستعجل عليهم بالعذاب، يقول: لا تعجل بمسألتك ربك ذلك لهم فإن ذلك نازل بهم لا محالة.
"كأنّهُمْ يومَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلاّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ" يقول: كأنهم يوم يرون عذاب الله الذي يعدهم أنه منزله بهم، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار، لأنه ينسيهم شدّة ما ينزل بهم من عذابه، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا، ومبلغ ما فيها مكثوا من السنين والشهور...
وقوله: "بَلاغٌ" فِيهِ وجهان: أحدهما: أن يكون معناه: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ذلك لبث بلاغ، بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، ثم حذفت ذلك لبث، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها. والآخر: أن يكون معناه: هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية، إن فكّروا واعتبروا فتذكروا. وقوله: "فَهَلْ يُهْلَكُ إلاّ القَوْمُ الفاسِقُونَ" يقول تعالى ذكره: فهل يهلك الله بعذابه إذا أنزله إلا القوم الذين خالفوا أمره، وخرجوا عن طاعته وكفروا به. ومعنى الكلام: وما يهلك الله إلا القوم الفاسقين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يُلزم الرسل الصبر من وجوه ستة: ثلاثة مما خُصّوا هم بها، لا يشرُكُهم غيرهم فيها، وثلاثة مما يشترك غيرهم فيها؛ فأما الثلاثة التي خُصّوا بها: فإحداها: أنهم بُعثوا لتبليغ الرسالة إلى الفراعنة والأكابر والجبابرة الذين كانت عادتهم وهمُّهم القتل وإهلاك من خالفهم، وعصى أمرهم ومذهبهم، فلم يُعذروا في ترك تبليغ الرسالة إليهم مع ما ذكرنا من خوف الهلاك والقتل. فأما غيرهم من الناس فقد أُبيح لهم كتمان الدين الحق عنهم حتى لا يُهلكوا. والثانية: ألزمهم الصبر بالمُقام بين أظهُر قومهم واحتمال ما كان يلحقهم منهم من الاستهزاء بهم والافتراء عليهم والتكذيب لهم وأنواع الأذى الذي كان منهم إلى الرسل، لم يأذن لهم بمفارقتهم، لذلك قال: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت} [القلم: 48] لم يكن منه سوى الخروج من بين قومه لسلامة دينه لو لم يسلم، ثم أصابه ما أصابه بذلك الخروج لما لم يُؤذن [له] بالخروج، والله أعلم. والثالثة: لم يجعل لهم الدعاء على أقوامهم بالهلاك والعذاب، وإن كان منهم من التمرّد والتعنّت ما كان. فهذه الثلاثة من المعاملة مما خصّ من الرسل عليهم السلام بها من بين سائر الناس. وأما الثلاثة التي يشترك فيها غيرهم. فإحداهما: أُمروا بالصبر على ما يصيبهم، وينزل بهم من البلايا والشدائد. والثانية: أُمروا بالمحافظة على العبادات التي جُعلت عليهم والمحافظة على حدودها والصبر على القيام بها. والثالثة: أُمروا بالصبر على ترك قضاء الشهوة وترك إعطاء النفس هواها. فهذه الثلاثة لهم في ما بينهم وبين ربهم، وهي مما يشترك فيها غيرهم. والثلاثة الأولى في ما بينهم وبين الخلق، وهم قد خُصّوا بتلك الثلاثة دون غيرهم، والله أعلم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
والصبرُ هو الوقوفُ لحُكْمِ الله، والثباتُ من غير بثٍ ولا استكراهٍ.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{فهل يهلك} بالعذاب إذا نزل {إلا القوم الفاسقون} الخارجون من أمر الله. قال الزجاج: تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، ولهذا قال قوم: ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ تَسْتَعْجِل} لكفار قريش بالعذاب، أي: لا تدع لهم بتعجيله؛ فإنه نازل بهم لا محالة، وإن تأخر، وأنهم مستقصرون حينئذٍ مدّة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها {سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ} أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة. أو هذا تبليغ من الرسول عليه السلام {فَهَلْ يُهْلَكُ} إلا الخارجون عن الاتعاظ به، والعمل بموجبه. ويدل على معنى التبليغ قراءة من قرأ: بلغ فهل يهلك: وقرىء «بلاغاً»، أي بلغوا بلاغاً: وقرىء «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام وفتحها، من هلك وهلك. ونهلك بالنون {إِلاَّ القوم الفاسقون}...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
. {بلاغ} هذا الذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ أي كفاية، أو تبليغ من الرسول عليه الصلاة والسلام.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} أي: على تكذيب قومهم لهم. وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال، وأشهرها أنهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وخاتم الأنبياء كلهم محمد صلى الله عليه وسلم، قد نص الله على أسمائهم من بين الأنبياء في آيتين من سُورَتَي "الأحزاب "و "الشورى"،... وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أي: لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم...
[وحاصل ذلك أنهم استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وفي البرزخ حين عاينوا يوم القيامة وشدائدها وطولها]...
وقوله: {بَلاغٌ} قال ابن جرير: يحتمل معنيين، أحدهما: أن يكون تقديره: وذلك لَبثَ بلاغ. والآخر: أن يكون تقديره: هذا القرآن بلاغ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فاصبر} أي على مشاق ما ترى في تبليغ الرسالة...
{كما صبر أولوا العزم} أي الجد في الأمر والحزم في الجد والإرادة المقطوع بها والثبات الذي لا محيد عنه، الذين مضوا في أمر الله مضياً كأنهم أقسموا عليه فصاروا كالأسد في جبلته والرجل الشديد الشجاع المحفوف بقبيلته...
{من الرسل} عليهم الصلاة والسلام، وقيل وهو ظاهر جداً: أن "من "للتبعيض، والمراد بهم أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيس قواعدها وتثبيت معاقدها، ومشاهيرهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين...
{ولا تستعجل لهم} أي تطلب العجلة وتوجدها بأن تفعل شيئاً مما يسوءهم في غير حينه الأليق به. ولما كان ما أمر به ونهى عنه في غاية الصعوبة، سهله بقوله مستأنفاً: {كأنهم يوم يرون} أي في الدنيا عند الموت مثلاً أو في الآخرة وقت العرض والحساب والهول الأعظم الأكبر الذي تقدمت الإشارة إليه جداً والتحذير منه لأهل المعاصي والبشارة فيه لأهل الطاعة، فأما هذه الطائفة فإذا رأوا {ما يوعدون} من ظهور الدين في الدنيا والبعث في الآخرة، وبناه للمفعول لأن المنكئ هو الإيعاد لا كونه من معين {لم يلبثوا} أي في الدنيا حيث كانوا عالين {إلا ساعة}. ولما كانت الساعة قد يراد بها الجنس وقد تطلق على الزمن الطويل، حقق أمرها وحقرها بقوله: {من نهار} ولما تكفل ما ذكر في هذه السورة من الحجج الظاهرة والبراهين الباهرة ببيان ما هو مقصودها بحيث لم يبق فيه لبس، وكان مقصودها آئلاً إلى سورة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو التوحيد اللازم منه إحاطة العلم بكل شيء وشمول القدرة لكل شيء ختمت بما ختمت به إبراهيم إلا أن للحواميم لباباً، حذف المبتدأ ومتعلق الخبر وقيل: {بلاغ} أي هذا الذي- ذكر هنا هو- من الظهور وانتشار النور بحيث يرد المنذرين ويوصلهم إلى رضى العزيز الحكيم الكافل بالنور الدائم والنعيم المقيم...
{فهل يهلك} بني للمفعول من أهلك، لأن المحذور الهلاك وإن لم يعين المهلك، وللدلالة على أن إهلاكهم عليه سبحانه وتعالى يسير جداً {إلا القوم} الذين فيهم أهلية القيام بما يحاولونه من اللدد {الفاسقون} أي العريقون في إدامة الخروج من محيط ما يدعو إليه هادي العقل والفطرة...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
اصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له وأن لا يزال داعيا لهم إلى الله وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم، وتم يقينهم، فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل. ولا تستعجل لهم..) توجيه يقال لمحمد [صلى الله عليه وسلم] وهو الذي احتمل ما احتمل، وعانى من قومه ما عانى. وهو الذي نشأ يتيما، وجرد من الولي والحامي ومن كل أسباب الأرض واحدا بعد واحد...
. (فاصبر. كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم.. تشجيع وتصبير وتأسية وتسلية.. ثم تطمين: (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار).. إنه أمد قصير. ساعة من نهار. وإنها حياة خاطفة تلك التي يمكثونها قبيل الآخرة. وإنها لتافهة لا تترك وراءها من الوقع والأثر في النفوس إلا مثلما تتركه ساعة من نهار.. ثم يلاقون المصير المحتوم. ثم يلبثون في الأبد الذي يدوم. وما كانت تلك الساعة إلا بلاغا قبل أن يحق الهلاك والعذاب الأليم: (بلاغ. فهل يهلك إلا القوم الفاسقون).. لا. وما الله يريد ظلما للعباد. لا. وليصبر الداعية على ما يلقاه. فما هي إلا ساعة من نهار. ثم يكون ما يكون ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فاصبر كما صبروا. وأولوا العزم: أصحاب العزم، أي المتصفون به. والعزم: نية محققة على عمل أو قول دون تردد...
.وعلى هذا تكون {مِن} في قوله: {من الرسل} تبعيضية. وعن ابن عباس أنه قال: كل الرسل أولو عزم، وعليه تكون {مِن} بيانية. وهذه الآية اقتضت أن محمداً صلى الله عليه وسلم من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل أمر ربه، فصبره مثيل لصبرهم، ومَن صَبَرَ صَبْرَهم كان منهم لا محالة. وأعقبَ أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين، أي الاستعجال لهم بالعذاب، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلاً لمدة صبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكسب عزمه قوة. ومفعول {تستعجل} محذوف دل عليه المقام، تقديره: العذاب أو الهلاك. واللام في {لهم} لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله، أي لا تستعجل لأجلهم، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير: لا تستعجل لهلاكهم. وجملة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار} تعليل للنهي عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله... و {من نهار} وصف الساعة، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئاً يشغله. فالتنكير للتقليل...
. {بلاغ} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا بلاغ، على طريقة العنوان ...
... {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون}...
. والإهلاك مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي، فإن ما حكي فيما مضى بعضه إهلاك حقيقي مثل ما في قصة عاد، وما في قوله: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى}، وبعضه مجازي وهو سوء الحال، أي عذاب الآخرة: وذلك فيما حكي من عذاب الفاسقين. وتعريف {القوم} تعريف الجنس، وهو مفيد العموم، أي كل القوم الفاسقين فيعم مشركي مكة الذين عناهم القرآن فكان لهذا التفريع معنى التذييل. والتعبير بالمضارع في قوله: {فهل يُهلَك} على هذا الوجه لتغليب إهلاك المشركين الذي لمّا يقَعْ على إهلاك الأمم الذين قبلهم. ولك أن تجعل التعريف تعريف العهد، أي القوم المتحدث عنهم في قوله: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون} الآية، فيكون إظهاراً في مقام الإضمار للإيماء إلى سبب إهلاكهم أنه الإشراك. والمراد بالفسق هنا الفسق عن الإيمان وهو فسق الإشراك. وأفاد الاستثناء أن غيرهم لا يهلكون هذا الهلاك، أو هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} فإن الدعوة التي تسعى إلى التغيير الشامل للحياة وللإنسان، فكرياً وعملياً، لا بد من أن تصطدم بألوف العقبات، وتواجه الكثير من المشاكل، وتلتقي بالصعوبات الكبيرة في ساحة التحديات، لتصل إلى بعض النتائج الإيجابية الحاسمة مرحلياً أو بشكل كامل. ولست بأوّل الرسل الذين يواجههم قومهم، أو تستقبلهم أمتهم بالكفر والتكذيب والعناد والاضطهاد، فاصبر كما صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، الذين ذكرهم حديث أئمة أهل البيت بأنهم هم أولو العزم، أو كما صبر الرسل من قبلك، فقد جاء عن بعض المفسرين أن أولي العزم هم جميع الرسل، ولا تتعقد وتنفعل، أو تتراجع، وتابع مسيرتك حتى النهاية، {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} العذاب فتدعو عليهم، نتيجة ضيق صدرك بهم في بعض الحالات، فإن هناك أملاً في هدايتهم للإيمان بالله والالتزام بدينه. فبعض الناس قد يحتاج إلى أمدٍ طويلٍ لتخفيف مقاومته النفسية، أو لإبعاده عن المؤثرات العاطفية، أو الرواسب التاريخية، أو فصله عن الجو الذي يعيش فيه، وغيرها من عوامل تفرض عليه عدم الإذعان للحق، ولذلك فلا بد للدعاة إلى الله من أن يرسموا خططاً متحركة على مستوى المراحل والظروف من الزمان والمكان والأشخاص، لاحتواء الساحة كلها في جميع الأوضاع. أمّا إذا أصروا على الكفر والعناد، فإن الله سوف يجمعهم لعذابه، فلا داعي لاستعجال العذاب، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ} لأن الإحساس بالحاضر الذي يختزن العذاب في داخله، ويحرق بناره كل حياة الإنسان، سوف يختصر الزمن كله في إحساس الإنسان، بحيث لا يشعر إلاّ وكأنه لم يلبث إلا ساعةً من نهار، هذا {بَلاغٌ} للناس {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الذين استحقوا الهلاك بفسقهم في العقيدة وفي العمل؟...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل) فلست الوحيد الذي واجه مخالفة هؤلاء القوم وعداوتهم، فقد واجه أولو العزم هذه المشاكل وثبتوا أمامها واستقاموا،...
وخلاصة القول: إنّ الأمر كان وما يزال كذلك ما كانت الدنيا، ولا يمكن التغلب على هذه المشاكل إلاّ بقوّة الصبر والاستقامة والثبات...
. فقد أطلق على هذه الفئة من الأنبياء (أولو العزم) والآية مورد البحث إشارة إلى هذا المعنى ظاهراً. وهي تشير ضمناً إلى أن نبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الفئة، لأنّها تقول: (فاصبر كما صبر أولو العزم). وإذا كان البعض قد فسّر العزم والعزيمة بمعنى الحكم والشريعة فمن هذه الجهة، وإلاّ فإنّ كلمة العزم لم تأتِ في اللغة بمعنى الشريعة ...
(ولا تستعجل لهم) أي للكفار لأنّ القيامة ستحل سريعاً، وسيرون بأعينهم ما أطلقوه عليها وادعوه فيها، ويجزون أشدّ العذاب، وعندها سيطلعون على أخطائهم، ويعرفون ما كانوا عليه من الضلالة والغي. إنّ عمر الدنيا قصير جدّاً بالنسبة إلى عمر الآخرة، حتى: (كأنّهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار). إنّ هذا الإحساس بقصر عمر الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، إمّا بسبب أنّ هذه الحياة ليست إلاّ ساعة أمام تلك الحياة الخالدة حقيقة وواقعاً، أو لأنّ الدنيا تنقضي عليهم سريعاً حتى كأنّها لم تكن إلاّ ساعة، أو من جهة أنّهم لا يرون حاصل كلّ عمرهم الذي لم يستغلوه ويستفيدوا منه الاستفادة الصحيحة إلاّ ساعة لا أكثر. هنا سيغطي سيل الأحزان والحسرة قلوب هؤلاء، ولات حين ندم، إذ لا سبيل الى الرجوع... وهذا يوحي بأنّ التعبير بالساعة لا تعني مقدار الساعة المتعارفة، بل هو إشارة إلى الزمان القليل القصير. ثمّ تضيف الآية كتحذير لكلّ البشر «بلاغ» لكلّ أُولئك الذين خرجوا عن خط العبودية لله تعالى.. لأولئك الغارقين في بحر الحياة الدنيا السريعة الزوال والفناء، والعابدين شهواتها.. وأخيراً هو بلاغ لكلّ سكان هذا العالم الفاني. وتقول في آخر جملة تتضمن استفهاماً عميق المعنى، وينطوي على التهديد: (فهل يهلك إلاّ القوم الفاسقون).