سورة يونس عليه الصلاة والسلام مكية وآياتها تسع ومائة إلا ثلاث آيات من قوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك . . . } إلى آخرها .
قوله تعالى : { الر } . و { آلمر } قرأ أهل الحجاز ، والشام وحفص : بفتح الراء فيهما . وقرأ الآخرون : بالإمالة . قال ابن عباس والضحاك : { آلر } أنا الله أرى ، و والمراد أنا الله أعلم وأرى ، وقال سعيد بن جبير : { الر ، وحم ، ون } حروف اسم الرحمن ، وقد سبق الكلام في حروف التهجي . { تلك آيات الكتاب الحكيم } ، أي : هذه ، وأراد بالكتاب الحكيم القرآن ، وقيل : أراد بها الآيات التي أنزلها من قبل ذلك ، ولذلك قال : { تلك } ، وتلك إشارة إلى غائب مؤنث ، والحكيم : المحكم بالحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، فعيل بمعنى مفعل ، بدليل قوله :{ كتاب أحكمت آياته } [ هود-1 ] . وقيل : هو بمعنى الحاكم ، فعيل بمعنى فاعل ، دليله قوله عز وجل : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس } [ البقرة-213 ] . وقيل : هو بمعنى المحكوم ، فعيل بمعنى المفعول ، قال الحسن : حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وبالنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه .
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة " يونس " –عليه السلام- حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية وآداب عالية ، وهدايات جامعة وإرشادات حكيمة ، وحجج باهرة ، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق . .
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها ، تكون بمثابة التعريف بها ، وبمقاصدها الإجمالية .
وأحمد الله –تعالى- أجزل الحمد وأوفاه ، أن وفقني قبل ذلك لتفسير سور : الفاتحة ، البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة " . . .
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ، وأنس نفوسنا ، إنه أكرم مسئول ، وأعظم مأمول .
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
1- سورة يونس –عليه السلام- هي السورة العاشرة في ترتيب المصحف ، فقد سبقتها سور : " الفاتحة ، البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ، الأعراف ، الأنفال ، التوبة " .
2- وكان نزولها بعد سورة " الإسراء " .
3- وعدد آياتها : تسع ومائة آية عند الجمهور . وفي المصحف الشامي مائة وعشر آيات .
4- وسميت بهذا الاسم تكريما ليونس –عليه السلام- ولقومه الذين آمنوا به واتبعوه قبل أن ينزل بهم العذاب ، وفي ذلك تقول السورة الكريمة : [ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ]( {[1]} ) .
5- وسورة يونس من السور المكية ، وعلى هذا سار المحققون من العلماء .
وقيل إنها مكية سوى الآية الأربعين منها وهي قوله –تعالى- [ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ] والآيتين الرابعة والتسعين ، والخامسة والتسعين وهما قوله –تعالى- : [ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك ، لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ] .
قال صاحب المنار : وقال السيوطي في الإتقان : استثنى منها الآيات 40 ، 94 ، 95 ، فقيل إنها مدنية نزلت في اليهود . وقيل : من أولها إلى رأس أربعين آية مكي ، والباقي مدني ، حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء .
ثم قال صاحب المنار : وأقول إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية ، وهو مما لم تثبت به رواية ، وكون المراد بالذين يقرأون الكتاب في الآية ( 94 ) اليهود لا يقتضى أن تكون نزلت بالمدينة ، وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : أن المراد بالشك فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة ، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا أشك ولا أسأل " ، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري .
وثانيهما : أن هذا المعنى نزل في سورة مكية أخرى ، كقوله –تعالى- في سورة الإسراء : [ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ]( {[2]} ) .
وقوله –سبحانه- في سورة الأنبياء : [ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ]( {[3]} ) .
والذي تطمئن إليه النفس ، أن سورة يونس جميعها مكية ، كما قال المحققون من العلماء ، لأن الذين قالوا بوجود آية أو آيات مدنية فيها لم يأتوا برواية صحيحة تصلح مستندا لهم ، ولأن السورة الكريمة من مطلعها إلى نهايتها تشاهد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية ، فهي تهتم بإثبات وحدانية الله ، وبإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم وبإثبات أن هذا القرآن من عند الله ، وأن البعث حق ، وأن ما أورده المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية ، قد تولت السورة الكريمة دحضه بأسلوب منطقي رصين . .
والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وخشوع ، يراها في مطلعها تتحدث عن سمو القرآن الكريم في هدايته وإحكامه ، وعن موقف المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ، وعن الأدلة على وحدانية الله وقدرته .
قال –تعالى- : [ الر . تلك آيات الكتاب الحكيم . أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ، أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ] .
ثم نراها في الربع الثاني منها تصور بأسلوب حكيم طبيعة الإنسان فتقول [ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما ، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه ، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ] الآية 12 .
ثم تحكي مصارع الظالمين ، وأقوالهم الفاسدة ، ورد القرآن عليهم فتقول : [ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا ، وجاءتهم رسلهم بالبينات ، وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين . ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ] .
وبعد أن تمضي السورة الكريمة في دحض أقوال المشركين ، وفي بيان الطبائع البشرية ، نراها في مطلع الربع الثالث . تصور لنا حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة الضالين ، فتقول : [ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة يمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ] .
ثم تأمر السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين بأسلوب توبيخي عمن يرزقهم من السموات والأرض ، وعمن يبدأ الخلق ثم يعيده ، وعمن يهدي إلى الحق ، فتقول : [ قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ، ومن يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ومن يدبر الأمر ، فسيقولون الله ، فقل أفلا تتقون . فذلكم الله ربكم الحق فإذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ] .
وبعد أن تتحدى السورة الكريمة المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم . وتعلن عن عجزهم على رءوس الأشهاد ، تأخذ في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تصوير جانب من أحوالهم في حياتهم وبعد مماتهم فتقول :
[ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ، كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالين . ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين . وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون . . ] .
ثم نراها في الربع الرابع توجه نداء إلى الناس كافة تدعوهم فيه إلى الإقبال على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من مواعظ فيها الشفاء لما في الصدور ، وفيها الهداية لما في النفوس فنقول :
[ يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ] .
ثم تسوق جانبا من مظاهر قدر الله النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، فتقول : [ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ] .
وفي مطلع الربع الخامس منها تحكي لنا جانبا من قصة نوح –عليه السلام- مع قومه ، وكيف أنه نصحهم ، وذكرهم بآيات الله ، ولكنهم لم يستمعوا إليه ، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان قال –تعالى- :
[ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف ، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ] .
ثم تحكي لنا جانبا من قصة موسى –عليه السلام- مع فرعون ، ومن المحاورات ، والمجادلات التي دارت بينهما ، ومن الدعوات المستجابة التي توجه بها موسى إلى خالقه ، فتقول : [ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك ، ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم . قال قد أجيبت دعوتكا فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ] .
ثم نراها في الربع السادس والأخير منها ، تحكي لنا ما قاله فرعون عندما أدركه الغرق ، كما تخبرنا عن النهاية الطيبة التي لقوم يونس –عليه السلام- بسبب إيمانهم ، ثم تسوق ألوانا من مظاهر قدرة الله ، ومن حكمه العادل بين عباده ، ومن رعايته لأوليائه ورسله فتقول : [ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ] .
ثم تختم السورة الكريمة بتوجيه نداء إلى الناس تبين لهم فيه أن من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، وأن من ضل فإنما يضل عليها فتقول : [ قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، وما أنا عليكم بوكيل . واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ] .
تلك أهم المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السورة الكريمة ، ومنها نرى بوضوح أن السورة الكريمة قد عنيت بارزة بإثبات وحدانية الله وقدرته النافذة ، وعلمه المحيط بكل شيء ، تارة عن طريق مخلوقاته التي يشاهدونها كما في قوله –تعالى- : [ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب . . . ] .
وتارة عن طريق اعترافهم بأن الله وحده هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم كما في قوله –تعالى- : [ قل من يرزقكم من السماء والأرض ، أم من يملك السمع والأبصار ، ومن يخرج الحي من الميت ، ويخرج الميت من الحي ، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ] .
وتارة عن طريق لجوئهم إليه وحده لاسيما عند الشدائد والمحن ، كما حدث من فرعون عندما أدركه الغرق .
كذلك نرى السورة الكريمة قد عنيت بدعوة الناس إلى التدبر والتفكر وإلى الاعتبار بمصارع الظالمين ، وإلى عدم التعلق بزخرف الحياة الدنيا . .
[ إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون . إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ] .
كذلك نرى السورة الكريمة قد اهتمت بالرد على الشبهات التي أثارها المشركون حول القرآن الكريم ، وحول البعث وما فيه من ثواب وعقاب . . .
فأثبتت أن هذا القرآن من عند الله ، وتحدتهم أن يأتوا بسورة من مثله فقالت : [ أم يقولون افتراء ، قل فأتوا بسورة مثله ، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ] .
كما أثبتت أن يوم القيامة حق ، وأنهم لن ينجيهم من عذاب الله في ذلك اليوم ندمهم أو ما يقدمونه من فداء فقالت : [ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ] .
هذا ، والسورة الكريمة بعد كل ذلك تمتاز بأنها قد عرضت ما عرضت من هدايات وتوجيهات بأسلوب بليغ مؤثر ، تقشعر منه الجلود ، وتلين منه القلوب ، وتخشع له النفوس . . مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله . ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
سورة يونس من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي .
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد ، وتارة مركبة من حرفين ، أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة .
فالسور التي افتتحت بحرف واحد ثلاثة ، وهى سورة : ص ، ق ، ن .
والسور التي افتتحت بحرفين تسعين ، وهي : طه ، طس ، يس ، وحم في ست سور ، هي : غافر ، فصلت ، الزخرف ، الدخان ، الجاثية ، الأحقاف .
والسور التي بتدئت بثلاثة أحرف ، ثلاث عشرة سورة ، وهى : ألم في ست سور هى : البقرة ، آل عمران ، العنكبوت ، الروم ، لقمان ، السجدة ، والر في خمس سور هى : يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر ، وطسم في سورتين هما : الشعراء ، القصص .
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما : الأعراف ، الرعد ، وسورتان بدئتا بخمسة أحرف وهما : مريم ، والشورى .
فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة .
وهذا ، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين :
الرأي الأول يرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها غير معروف ، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .
وإلى هذا الرأي ذهب ابن عباس - في إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبي ، وسفيان والثوري ، وغيرهم من العلماء . فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال : إن لكل كتاب سرا ، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور .
ويروى عن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وعن علي - رضي الله عنه - قال : " إن لكل كتاب صفوة ، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي " وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال : " سر الله فلا تطلبوه " .
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأي ، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس ، لأنه من المتشابه ، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل ، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها .
وقد أجيب عن ذلك ، بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفهم المراد منها ، وكذلك بعض أصحابه المقربين ، ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوئل السور .
أما الرأي الثاني فيرى أصحابه : أن المعنى المقصود منها معلوم ، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه .
وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتي :
1 - أن هذه الحروف أسماء للسور ، بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح " وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها ، كسورة " ص " وسورة " يس " .
ولا يخلو هذا القول من الضعف ، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح ، والغرض من التسمية رفع الاشتباه .
2 - وقيل : إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدالة على انقضاء سورة . وابتداء أخرى .
3 - وقيل : إنها حروف مقطعة ، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته فمثلا " ألم " أصلها أنا الله أعلم .
4 - وقيل : إنها اسم الله الأعظم ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلوا من مقال . والتي أوصلها السيوطي في كتابه " الإِتقان " إلى أكثر من عشرين قولا .
5 - ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور ، للإِشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها . فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة .
وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإِنصات والتدبر لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم ، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها ، فيترتب على ذلك أن يسمعوا حكما ، وهدايات قد تكون سببا في إيمانهم . ولعل مما يشهد بصحة هذا الرأي : أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة ، تتحدث عن القرآن وعن كونه معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أغلب المواضع .
ومن ذلك قوله - تعالى - : في أول سورة البقرة { الاما . ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } وقوله سبحانه في أول سورة هود : { الار كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وقوله - سبحانه - في أول سورة إبراهيم : { الار كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } وهكذا نرى أن كثيرا من السور التي افتتحت بالحروف المقطعة ، قد أعقبت هذا الافتتاح بالحديث الصريح أو الضمني عن القرآن الكريم ، وأن هذه السور إذا تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الأساسية إثبات وحدانية الله ، وإثبات صحة الرسالة المحمدية ، وإثبات أن هذا القرآن الذي هو معجزة الرسول الخالدة - منزل من عند الله - تعالى - .
هذه خلاصة لآراء العلماء في المراد بالحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية . ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب " الإِتقان " للسيوطي ، وإلى كتاب " البرهان " للزركشي ، وإلى تفسير الآلوسى .
ثم قال - تعالى - { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } .
{ تِلْكَ } اسم إِشارة والمشار إليه الآيات . والمراد بهما آيات القرآن الكريم . ويندرج فيها ىيات السورة التي معنا .
والكتاب : مصدر كتب كالكتب ، وأصل الكتب : ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط والمراد به القرآن الكريم على الصحيح .
قال الآلوسى : " وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما ، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد " .
والحكيم - بزنة فعيل - مأخذو من الفعل حكم بمعنى منع . تقول حكمت الفرس أي وضعت الحكمة في فمها لمنعها من الجموح والنفور .
والمقصود أن هذا الكتاب ممتنع عن الفساد ، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " وفي وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه منها : أن الحكيم هو ذو الحكمة ، بمعنى شاتماله على الحكمة - فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر - ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم ، بدليل قوله - تعالى - : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ } ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم والإِحكام معناه المنع من الفساد ، فيكون المراد منه أنه لا تغيره الدهور أو المراد منه براءته من الكذب والتناقض .
والمعنى : تلك الآيات السامية ، والمنزلة عليك يا محمد ، هي آيات الكتاب ، المشتمل على الحكمة والصواب المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية .
وصحت الإِشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها ، لأن الإِشارة إلى جميعها ، حيث كانت بصدد الإِنزال ، ولأن الله - تعالى - قد وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنزول القرآن عليه ، كما في قوله : - تعالى - : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ووعد الله - تعالى - لا يتخلف .
{ الر } فخمها ابن كثير ونافع برواية قالون وحفص وقرأ ورش بين اللفظين ، وأمالها الباقون إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء . { تلك آيات الكتاب الحكيم } إشارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي والمراد من الكتاب أحدهما ، ووصفه بالحكيم لاشتماله عل الحكم أو لأنه كلام حكيم ، أو محكم آياته لم ينسخ شيء منها .
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
سورة يونس . هذه السورة هي مكية قال مقاتل إلا آيتين وهي{[1]} قوله تعالى' { فإن كنت في شك } ' نزلت بالمدينة وقال الكلبي هي مكية إلا قوله ' { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به } '{[2]} نزلت في اليهود بالمدينة . وقالت فرقة نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة .
تقدم في أول سورة البقرة ذكر الاختلاف في فواتح السور ، وتلك الأقوال كلها تترتب هنا ، وفي هذا الموضع قول يختص به ، قاله ابن عباس وسالم بن عبد الله وابن جبير والشعبي : { الر } { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] و { ن } [ القلم : 1 ] هو الرحمن قطع اللفظ في أوائل هذه السورة{[5996]} . واختلف عن نافع في إمالة الراء والقياس أن لا يمال وكذلك اختلف القرّاء وعلة من أمال الراء أن يدل بذلك على أنها اسم للحرف وليست بحرف في نفسها وإنما الحرف «ر »{[5997]} .
وقوله تعالى : { تلك } قيل هو بمعنى هذه{[5998]} وقد يشبه أن يتصل المعنى ب { تلك } دون أن نقدرها بدل غيرها والنظر في هذه اللفظة إنما يتركب على الخلاف في فواتح السور فتدبره . و { الكتاب } قال مجاهد وقتادة : المراد به التوراة والإنجيل ، وقال مجاهد أيضاً وغيره : المراد به القرآن وهو الأظهر ، و { الحكيم } فعيل بمعنى محكم كما قال تعالى : { هذا ما لدي عتيد }{[5999]} أي ُمْعَتد ُمَعد ، ويمكن أن يكون «حكيم » بمعنى ذو حكمة فهو على النسب ، وقال الطبري فهو مثل أليم بمعنى مؤلم ثم قال : هو الذي أحكمه وبيّنه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : فساق قولين على أنهما واحد .
سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس ، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا . وذلك في قوله تعالى { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين } . وتلك الخصوصية كرامة ليونس عليه السلام وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك . وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها .
والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة ب{ ألر } . ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضا عن أن يقال : آلر الأولى وألر الثانية . وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة فكانوا يدعون تلك السور بآل حم وآل ألر ونحو ذلك .
وهي مكية في قول الجمهور . وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه . وفي الإتقان عن عطاء عنه أنها مدنية . وفي القرطبي عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله تعالى { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } إلى قوله { حتى يروا العذاب الأليم } وجزم بذلك القمي النيسابوري . وفي ابن عطية عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما { فإن كنت في شك إلى قوله من الخاسرين } . وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى { ومنهم من يؤمن به إلى أعلم بالمفسدين } نزلت في شأن اليهود .
وقال ابن عطية : قالت فرقة : نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها بالمدينة . ولم ينسبه إلى معين . وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة ، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئي . وسيأتي التنبيه عليه .
وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار ، ومائة وعشر في عد أهل الشام .
وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور . نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود . وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله تعالى { وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا } .
ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن ، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة ، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى { تلك آيات الكتاب الحكيم } إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله . وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله { قل فأتوا بسورة مثله } .
وأتبع بإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا .
وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره ، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته ، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله .
وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء . فذلك إبطال أصول الشرك .
وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات ، وبيان حكمة الجزاء ، وصفة الجزاء ، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس .
ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله ، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا . فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول .
فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه .
ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل .
والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر ، وما في أحوال السير في البحر من الإلطاف .
وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها ، وأن الآخرة هي دار السلام .
واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الاخرة ، وتبرؤ الإلهة الباطلة من عبدتها .
وإبطال إلهية غير الله تعالى ، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة .
وإثبات أن القرآن منزل من الله ، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة .
وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله ، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين .
وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل ، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم ، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب .
وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق .
وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون .
وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم .
ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون .
ثم استشهد على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب .
وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام ، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها ، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه .
تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة ، لا محل لها من الإعراب ، ولا يُنطق بها إلا على حال السكت ، وحالُ السكت يعامَل معاملة الوقف ، فلذلك لا يُمد اسم رَا في الآية ، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت ، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد . ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف : را . ها . يا . طا . حا . التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة .
اسم الإشارة يجوز أن يكون مراداً به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم ، فكأنها منظورة مشاهدة ، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم ، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها .
واسمُ الإشارة يُفسر المقصودَ منه خبرُه وهو { آيات الكتاب الحكيم } كما فسره في قوله تعالى : { فهذا يومُ البعث } [ الروم : 56 ] وقوله تعالى : { قال هذا فراقُ بيني وبينك } [ الكهف : 78 ] . قال في « الكشاف » : تصَوَّر فراقاً بينهما سيقع قريباً فأشار إليه بهذا .
وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى : { ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده } في سورة [ الأنعام : 88 ] . فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به . وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبي بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبي آيةً على صدقه ، كما دل عليه قوله في هذه السورة [ يونس : 15 ] { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآن غير هذا أو بَدله } فقيل لهم { تلك آيات الكتاب الحكيم } ، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة ، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه .
ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة ؛ فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي ، كما دل عليه قوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارْتاب المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] .
وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و { آيات } خبره . وإضافة { آيات } إلى { الكتاب } إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار ، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق .
ويجوز أن تجعل الإشارة ب { تلك } إلى حروف { ألر } لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالإعجاز ، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم .
فيصح أن يجعل ( ألر ) في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبراً عنه . والمعنى تلك الحروف آيات الكتاب الحكيم ، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم ، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف .
والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذّبون بأن الكتاب منزل من عند الله ، فلولا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالاً إذ هو مركب من حروف كلامهم .
والكتاب : القرآن . فالتعريف فيه للعهد . ويجوز جعل التعريف دالاً على معنى الكمال في الجنس ، كما تقول : أنتَ الرجل .
والحكيم : وصف إما بمعنى فاعل ، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها ، مثل قوله : { ومُهيمِناً عليه } [ المائدة : 48 ] ، وقوله : { وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [ البقرة : 213 ] .
وإما بمعنى مُفعَل بفتح العين ، أي مُحكَم ، مثل عَتِيد ، بمعنى مُعَد .
وإما بمعنى ذي الحِكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية ، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوُصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشىء عن البليغ كقول الأعشى :
وغريبةٍ تأتي الملوك حَكِيمة *** قد قلتُها ليقال مَن ذَا قالها
وإما أن يكون وُصِفَ بوصف منزّله المُتكلم به ، كما مشَى عليه صاحب « الكشاف » عند قوله تعالى : { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } [ يس : 1 ، 3 ]
واختيار وصف { الحكيم } من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن ؛ لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله : { الر تلك آيات الكتاب الحكيم } ، ولِما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك .
وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا : { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثتُ فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون } [ يونس 16 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
سورة يونس كلها مكية، غير آيتين، وهما قوله تعالى: {فإن كنت في شك...} إلى قوله: {فتكون من الخاسرين} [آية:94،95] فإنهما مدنيتان.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة يونس. هذه السورة هي مكية... وقال الكلبي هي مكية إلا قوله: {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به} نزلت في اليهود بالمدينة. وقالت فرقة: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة وباقيها بالمدينة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
... وسبب نزولها: أنّ أهل مكة قالوا: لم يجد الله رسولاً إلا يتيم أبي طالب، فنزلت. وقال ابن جريج: عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت. وقيل: لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} وذكر تكذيب المنافقين ثم قال: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي أرسل، وأن ديدن الضالين واحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدّماً على ذكر الرسول في آخر السورة، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
سميت به [يونس] عليه السلام، لتضمنها قوله: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هي مكية، نزلت بعد سورة الإسراء (بني إسرائيل)، وقبل سورة هود. وما رواه ابن مردويه من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس من كونها مدنية غلط مخالف للروايات الكثيرة عنه وعن غيره؛ بل للإجماع الذي يؤيده موضوع السورة من أولها إلى آخرها، فهو يدور على إثبات أصول التوحيد، وهدم الشرك، وإثبات الرسالة، والبعث الجزاء، ودفع الشبهات عنها، وما يتعلق بذلك من مقاصد الدين الأصلية التي هي موضوع السور المكية، وعثمان بن عطاء ضعيف متروك لا يحتج بروايته فيما يحتمل الصواب، فكيف ينظر إليها في مثل هذه المسألة، ولكن الرواة لم يتركوا متردما.
وقال السيوطي في الاتقان: استثني منها {فإن كنت في شك} اٍلآيتين 94 و 95 وقوله: {ومنهم من يؤمن به} [يونس: 40] الآية. قيل: نزلت في اليهود، وقيل: من أولها إلى رأس أربعين مكي، والباقي مدني. حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء اه.
وأقول: إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية، وهو مما لم نثبت به رواية. وكون المراد بالذين يقرؤون الكتاب في الآية 94 اليهود لا يقتضي أن تكون نزلت في المدينة. وبيانه من وجهين:
أحدهما: أن المراد بالشرطية فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"لا أشك ولا أسأل"، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري كما سيأتي في تفسيرها.
وثانيهما: أن هذا المعنى نزل في سور مكية أخرى كقوله تعالى: {فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم} [الإسراء: 101]، وقوله في سورتي النحل والأنبياء: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل: 43]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
نعود مرة أخرى إلى الحياة مع القرآن المكي، بجوه الخاص، وظلاله وإيقاعاته وإيحاءاته. بعدما عشنا فترة في هذه الظلال مع سورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني.
والقرآن المكي، ولو أنه قرآن من القرآن، يشترك مع سائره في خصائصه القرآنية العامة؛ وفي تفرده من كل قول آخر لا يحمل الطابع الرباني الفريد العجيب، في الموضوع وفي الأداء سواء.. إلا أن له مع ذلك جوه الخاص، ومذاقه المعين، الذي يعينه موضوعه الأساسي [وهو في اختصار: حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة العلاقات بينهما؛ وتعريف الناس بربهم الحق الذي ينبغي أن يدينوا له ويعبدوه، ويتبعوا أمره وشرعه؛ وتنحية كل ما دخل على العقيدة الفطرية الصحيحة من غبش ودخل وانحراف والتواء؛ ورد الناس إلى إلههم الحق الذي يستحق الدينونة لربوبيته].. كما يعينه أسلوب العرض لهذا الموضوع. وهو أسلوب موح، عميق الإيقاع، بالغ التأثير؛ حيث تشترك في أداء هذا الغرض كل خصائص التعبير، من البناء اللفظي، إلى المؤثرات الموضوعية على النحو الذي فصلناه من قبل، في سورة الأنعام، والذي سنلم به هنا إن شاء الله.
ولقد كان آخر عهدنا -في هذه الظلال- بالقرآن المكي سورة الأنعام وسورة الأعراف متواليتين في ترتيب المصحف -وإن لم تكونا متواليتين في ترتيب النزول- ثم جاءت الأنفال والتوبة بجوهما وطبيعتهما وموضوعاتهما المدنية الخاصة -فالآن إذ نعود إلى القرآن المكي نجد سورتي يونس وهود متواليتين في ترتيب المصحف وفي ترتيب النزول أيضا.. والعجيب أن هناك شبها كبيرا بين هاتين السورتين وتلكما في الموضوع، وفي طريقة عرض هذا الموضوع كذلك! فسورة الأنعام تتناول حقيقة العقيدة ذاتها، وتواجه الجاهلية بها، وتفند هذه الجاهلية عقيدة وشعورا، وعبادة وعملا. بينما سورة الأعراف تتناول حركة هذه العقيدة في الأرض وقصتها في مواجهة الجاهلية على مدار التاريخ. وكذلك نحن هنا مع سورتي يونس وهود.. في شبه كبير في الموضوع وفي طريقة العرض أيضا.. إلا أن سورة الأنعام تنفرد عن سورة يونس، بارتفاع وضخامة في الإيقاع، وسرعة وقوة في النبض، ولألاء شديد في التصوير والحركة.. بينما تمضي سورة يونس، في إيقاع رخي، ونبض هادئ، وسلاسة وديعة!.. فأما هود فهي شديدة الشبه بالأعراف موضوعا وعرضا وإيقاعا ونبضا.. ثم تبقى لكل سورة شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، بعد كل هذا التشابه والاختلاف!
والموضوع الرئيسي في سورة يونس هو ذات الموضوع العام للقرآن المكي الذي سبق بيانه في الفقرة السابقة.. والسورة تتناول محتوياته وفق طريقتها الخاصة، التي تحدد شخصيتها وملامحها.. ونحن لا نملك- في هذا التقديم -إلا تلخيص هذه المحتويات واحداً واحداً في إجمال، حتى يجيء بيانها المفصل في أثناء استعراض النصوص القرآنية:
إنها تواجه ابتداء موقف المشركين في مكة من حقيقة الوحي إلى رسول اللّه- [ص] -ومن هذا القرآن ذاته بالتبعية؛ فتقرر لهم أن الوحي لا عجب فيه، وأن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم. أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين).. (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات، قال الذين لا يرجون لقاءنا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله. قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله، أفلا تعقلون؟ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح المجرمون).. (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه؟ قل: فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين)..
وتواجه طلبهم خارقة مادية- غير القرآن -واستعجالهم بالوعيد الذي يسمعونه. فتقرر لهم أن آية هذا الدين هي هذا القرآن؛ وهو يحمل برهانه في تفرده المعجز الذي تتحداهم به. وأن الآيات في يد الله ومشيئته؛ وأن موعدهم بالجزاء يتعلق بأجل يقدره اللّه، والنبي لا يملك شيئا فهو عبد من عباد الله.- وفي هذا جانب من التعريف لهم بربهم الحق وحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية -: (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، لننظر كيف تعملون).. (ولكل أمة رسول، فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون. ويقولون: متى هذا الوعد، إن كنتم صادقين؟ قل: لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله، لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قل: أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً؟ ماذا يستعجل منه المجرمون؟ أثم إذا ما وقع آمنتم به؟ آلآن وقد كنتم به تستعجلون؟!).. (ويقولون: لولا أنزل عليه آية من ربه! فقل: إنما الغيب لله، فانتظروا إني معكم من المنتظرين).
وتواجه اضطراب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية -الأمر الذي يحدثهم رسول الله [ص] فيه، فيكذبون بالوحي أو يتشككون فيه؛ ويطلبون قرآناً غيره، أو يطلبون خارقة مادية تثبت لهم صحته- بينما هم سادرون في عبادة مالا يضرهم ولا ينفعهم من الشركاء، على اعتقاد أنهم شفعاؤهم عند الله؛ كما يزعمون لله الولد سبحانه بلا علم ولا بينة.. فتقرر لهم صفات الإله الحق وآثار قدرته في الوجود من حولهم، وفي وجودهم هم أنفسهم، وفيما يتقلب بهم من ظواهر الكون، وما يتقلب بهم هم من أحوال وهتاف فطرتهم وأنفسهم بربها الحق عند مواجهة الخطر الذي لا دافع له إلا الله.. وهذه هي القضية الكبرى التي تستغرق قطاعات شتى من السورة؛ والتي تتفرع عنها سائر محتوياتها الأخرى: إن ربكم اللّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه. ذلكم الله ربكم فاعبدوه، أفلا تذكرون؟ إليه مرجعكم جميعاً، وعد اللّه حقاً، إنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط، والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون. هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب، ما خلق الله ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون.
(إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون).. (ويعبدون من دون اللّه مالا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه. قل: أتنبئون اللّه بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض؟ سبحانه وتعالى عما يشركون).. (هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق، يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون).. (قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟ أم من يملك السمع والأبصار؟ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون: اللّه. فقل: أفلا تتقون؟ فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال! فأنى تصرفون؟).. (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ قل: الله يبدأ الخلق ثم يعيده، فأنى تؤفكون؟ قل: هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل: الله يهدي للحق. أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي؟ فما لكم كيف تحكمون؟ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً، إن اللّه عليم بما يفعلون).. (ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، إن يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يخرصون. هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون).. (قالوا: اتخذ الله ولداً -سبحانه- هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض، إن عندكم من سلطان بهذا؟ أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ قل: إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم، ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون).. (ألا إن لله ما في السماوات والأرض. ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون. هو يحيي ويميت وإليه ترجعون).
وتصور لهم حضور الله -سبحانه- وشهوده لكل ما يهم به البشر، وكل ما يزاولون من نية وعمل؛ مما يملأ الحس البشري بالرهبة والروعة، كما يملأه بالحذر واليقظة.. وذلك في مثل قوله تعالى في هذه السورة:
وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن. ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه. وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، إلا في كتاب مبين.
كذلك تملأ نفوسهم بالتوجس والتوقع لبأس الله في كل لحظة، ليخرجوا من الغفلة التي ينشئها الرخاء والنعمة؛ ولا ينخدعوا بازدهار الحياة حولهم فيأمنوا بأس الله الذي يأتي بغتة: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض، مما يأكل الناس والأنعام. حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازَّيَّنت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلا أو نهارا، فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون).. (قل: أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا! ماذا يستعجل منه المجرمون؟ أثم إذا ما وقع آمنتم به؟ آلآن وقد كنتم به تستعجلون؟!).
وتواجه اطمئنانهم للحياة الدنيا ورضاهم بها عن الآخرة، وتكذيبهم بلقاء الله، بتحذيرهم من هذه الطمأنينة الخادعة، ومن الخسارة في الصفقة الدون التي يرضونها، وتعريفهم بأن هذه الحياة الدينا إنما هي للابتلاء، وفي الآخرة الجزاء.. ثم تواجههم بعرض مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة؛ وخاصة ما يتصل منها بتخلي الشركاء عن عبادهم، وتبرئهم منهم إلى اللّه، وتعذر الفداء من العذاب مهما كبر الفداء: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم، تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم. دعواهم فيها: سبحانك اللهم. وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).. (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا، وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون).. (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وترهقهم ذلة، مالهم من الله من عاصم، كأنما أغشيت وجوههم قطعا. من الليل مظلما، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).. (ويوم نحشرهم جميعا، ثم نقول للذين أشركوا: مكانكم أنتم وشركاؤكم! فزيلنا بينهم، وقال شركاؤهم: ما كنتم إيانا تعبدون. فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم، إن كنا عن عبادتكم لغافلين. هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت، وردوا إلى الله مولاهم الحق، وضل عنهم ما كانوا يفترون).. (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين).. (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وقضي بينهم بالقسط، وهم لا يظلمون)..
ثم تواجه ما يترتب على اضطراب تصورهم للألوهية؛ وما يترتب على تكذيبهم بالبعث والآخرة، وما يترتب على تكذيبهم بالوحي والنذارة، من انطلاقهم في واقع الحياة العملية يزاولون خصائص الربوبية في التشريع لحياتهم، والتحليل والتحريم في أرزاقهم ومعاملاتهم وفق ما تصوره لهم وثنيتهم واعتقادهم بالشركاء الذين يجعلون لهم نصيبا مما رزقهم الله يأخذه السدنة والكهنة ليحلوا لهم ما يشاءون ويحرموا عليهم ما يشاءون.. وهي القضية الكبرى التي تلي قضية الاعتقاد وتنبثق منها: (قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا؟ قل: آلله أذن لكم؟ أم على الله تفترون؟ وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة؟ إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثرهم لا يشكرون).
والسورة تحتشد -في إبلاغ تلك الحقائق التي تحتويها وتثبيتها وتعميقها واستجاشة القلوب والعقول لها- بشتى المؤثرات الموحية، التي يحفل بها الأداء القرآني الفريد في الموضوع وفي التعبير عنه سواء. وهي مؤثرات -على عمقها وحيويتها وحركتها- تناسب شخصية السورة وطبيعتها التي تحدثنا في الفقرة الأولى عنها.. وهذه نماذج منها، نلم بها هنا إجمالا، حتى نستعرضها في السياق تفصيلا:
تحتشد السورة بمشاهد هذا الكون وظواهره، الموحية للفطرة البشرية بحقيقة الألوهية، الدالة على التدبير الحكيم، والقصد المرسوم في بناء هذا الكون وتصريفه، وفي الموافقات المبثوثة فيه لنشأة الحياة والأحياء، ولحياة الكائن الإنساني وتلبية حاجاته في حياته.. وقضية الألوهية يعرضها القرآن في هذه الصورة الحية الواقعية الموحية؛ ولا يعرضها في أسلوب الجدل الفلسفي والمنطق الذهني، والله خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم -سبحانه- أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة! وتجاوباً أعمق من منطق الذهن البارد الجاف؛ وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره؛ وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي؛ وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب.. ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية -في القرآن- بهذه اللغة المفهومة.. وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي:
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، يدبر الأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه. ذلكم الله ربكم فاعبدوه. أفلا تذكرون؟..
(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً، وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب. ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق، يفصل الآيات لقوم يعلمون. إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون)..
(قل: من يرزقكم من السماء والأرض؛ أم من يملك السمع والأبصار؟ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون الله، فقل: أفلا تتقون؟ فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فأنى تصرفون؟).
(هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا، إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون)..
(قل: انظروا ماذا في السماوات والأرض، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون)..
وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم؛ ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير، والتصريف والتسيير.. ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب؛ كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته! وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد:
(وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما. فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه! كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون!)..
(وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا! قل: الله أسرع مكرا، إن رسلنا يكتبون ما تمكرون. هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك، وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وظنوا أنهم أحيط بهم، دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين. فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق. يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون)..
وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين. آناً في صورة الخبر، وآنا في صورة قصص بعض الرسل.
وتلتقي كلها عند عرض مشاهد التدمير على المكذبين؛ وتهديدهم بمثل هذا المصير الذي لقيه من قبلهم. فلا تغرنهم الحياة الدنيا، فإن هي إلا فترة قصيرة للابتلاء. أو ساعة من نهار يتعارف فيها الناس، ثم يعودون إلى دار الإقامة في العذاب أو في النعيم!
(ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا. كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون)..
(واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت، فأجمعوا أمركم وشركاءكم، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون. فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله، وأمرت أن أكون من المسلمين. فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين)..
(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين. فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: إن هذا لسحر مبين. قال موسى: أتقولون للحق لما جاءكم. أسحر هذا؟ ولا يفلح الساحرون).. إلى قوله تعالى في نهاية القصة: وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا -حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين. آلآن؟ وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟! فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون..
(فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ قل: فانتظروا إني معكم من المنتظرين. ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا، كذلك حقا علينا ننج المؤمنين)..
وتحتشد بمشاهد القيامة، تعرض عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين، عرضا حيا متحركا مؤثرا عميق الإيقاع في القلوب. فتعرض مع مشاهد المصارع في الحياة الدنيا والتدمير على المجرمين ونجاة المؤمنين، صفحتي الحياة في الدارين، وبدء المطاف ونهايته حيث لا مهرب ولا فوت:
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون- والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وترهقهم ذلة، ما لهم من الله من عاصم، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)..
(ويوم نحشرهم جميعا، ثم نقول للذين أشركوا: مكانكم أنتم وشركاؤكم! فزيلنا بينهم، وقال شركاؤكم: ما كنتم إيانا تعبدون. فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين. هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت، وردوا إلى الله مولاهم الحق، وضل عنهم ما كانوا يفترون..
(ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به! وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون)..
ومن المؤثرات التي تحتشد بها السورة تحدي المشركين المكذبين بالوحي، أن يأتوا بآية من مثل هذا القرآن.. ثم توجيه الرسول [ص] بعد دعوتهم وتحديهم، إلى تركهم ومصيرهم -وهو مصير المكذبين الظالمين من قبلهم- والمضي في طريقه المستقيم لا يحفلهم ولا يأبه لشأنهم.. والتحدي ثم المفاصلة والاستعلاء على هذا النحو مما يوقع في قلوبهم أن هذا النبي واثق من الحق الذي معه، واثق من ربه الذي يتولاه. وهذا بدوره يهز القلوب ويزلزل العناد:
(وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله؛ ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين. أم يقولون افتراه؟ قل: فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله. كذلك كذب الذين من قبلهم. فانظر كيف كان عاقبة الظالمين)..
قل: يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله. ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم، وأمرت أن أكون من المؤمنين. وأن أقم وجهك للدين حنيفا، ولا تكونن من المشركين. ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله، يصيب به من يشاء من عباده، وهو الغفور الرحيم.. قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل. واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين..
وبهذه المفاصلة تختم السورة ويختم هذا الحشد من المؤثرات التي سقنا نماذج منها لا تستقصي ما في السورة من هذا المنهج القرآني الفريد في مخاطبة القلوب والعقول.
هذه السورة نزلت بعد سورة الإسراء. وقد حمي الجدل من المشركين حول صدق الوحي، وحول هذا القرآن، وما يواجههم به من تسفيه لعقائدهم، ومن تنديد بجاهليتهم، ومن كشف لما في كيانها من تناقض واضح. تناقض بين ما يعتقدونه من أن الله -سبحانه- هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر المتصرف في كل شيء، القادر على كل شيء -وهي الجذور الباقية من حنيفية إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام -وبين ما يدعونه لله سبحانه من الولد، حيث كانوا يدعون أن الملائكة بنات الله، ويتخذونهم شفعاء عند الله، ويعبدون تماثيلهم من الأصنام على هذا الاعتبار! ثم ما ينشأ عن هذا الاضطراب العقيدي من آثار في حياتهم؛ وفي أوله ما كان يزاوله الكهان والرؤساء فيهم من تحريم وتحليل في الثمار والأنعام؛ وجعل نصيب منها لله ونصيب لآلهتهم المدعاة!
وعندئذ كانوا يواجهون حملة القرآن على عقائدهم المهلهلة وجاهليتهم المتناقضة بأن يكذبوا رسول الله [ص] في نبوته والوحي إليه من ربه؛ ويزعمون أنه ساحر! وأن يطلبوا منه أن يأتيهم بخارقة تدل على أن الله أوحى إليه؛ ويفتتنون في طلب هذه الخوارق على ما ورد من ذلك في سورة الإسراء مما حكاه القرآن الكريم عنهم. في مثل قوله تعالى: ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفورا. وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف، أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه! قل: سبحان ربي! هل كنت إلا بشرا رسولا؟ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا: أبعث الله بشرا رسولا؟.. وكما قال تعالى في هذه السورة: (ويقولون: لولا أنزل عليه آية من ربه!! فقل: إنما الغيب لله، فانتظروا إني معكم من المنتظرين)..
كذلك كانوا يطلبون من رسول الله [ص] أن يأتيهم بقرآن غير هذا، لا يتعرض لآلهتهم وعقائدهم وجاهليتهم؛ كي يستجيبوا له ويؤمنوا به! كما قال الله عنهم في هذه السورة: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله).. وكان الرد على مثل هذا التعسف الساذج: (قل: ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. قل: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون؟ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته؟ إنه لا يفلح المجرمون).
نزلت السورة في هذا الجو. وظاهر من سياقها أنها لحمة واحدة، تواجه واقعا متصلا؛ حتى ليصعب تقسيمها إلى قطاعات متميزة. وهذا ما ينفي الرواية التي أخذ بها المشرفون على المصحف الأميري من كون الآيات 40، 94، 95، 96 مدنية.. فهذه الآيات متشابكة مع السياق، وبعضها لا يتسق السياق بدونه أصلا!
والترابط في سياق السورة يوحد بين مطلعها وختامها. فيجيء في المطلع قوله تعالى: (الر تلك آيات الكتاب الحكيم. أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق، عند ربهم قال الكافرون! إن هذا لساحر مبين).. ويجيء في الختام: (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين).. فالحديث عن قضية الوحي هو المطلع وهو الختام. كما أنه هو الموضوع المتصل الملتحم بين المطلع والختام.
كذلك يبدو الترابط بين المؤثرات المختلفة في السورة. نذكر مثالا لذلك الرد على استعجالهم بالوعيد، وتهديدهم بأنه يقع بغتة، حيث لا ينفعهم وقتها إيمان ولا توبة.. ثم يجيء القصص بعد ذلك في السورة، مصورا ذلك المشهد بعينه في مصارع الغابرين.
في الرد عليهم يقول: ويقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ قل: لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا، إلا ما شاء الله، لكل أمة أجل، إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قل: أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا، ماذا يستعجل منه المجرمون؟ أثم إذا ما وقع آمنتم به؟ آلآن وقد كنتم به تستعجلون؟! ثم قيل للذين ظلموا: ذوقوا عذاب الخلد، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون..
وفي نهاية قصة موسى في السورة يجيء هذا المشهد، وكأنه الصورة الواقعية لذلك الوعيد: 10 وزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا، حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل، وأنا من المسلمين. آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين. فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون..
ثم تتساوق في ثنايا السورة بين ذلك الرد وهذه القصة مشاهد المباغتة بأخذ الله للمكذبين؛ من حيث لا يتوقعون ولا يدرون؛ فترسم جوا واحدا متناسقا يبدو فيه الترابط بين المشاهد والموضوعات والأداء سواء.
كذلك يجيء في حكاية قول المشركين عن رسول الله [ص] في أول السورة: (قال الكافرون إن هذا لساحر مبين).. ثم يجيء في حكاية فرعون وملئه عن موسى- عليه السلام -: (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا: إن هذا لسحر مبين)..
وقد سميت السورة سورة يونس. بينما قصة يونس فيها لا تتجاوز إشارة سريعة على هذا النحو: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها! إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، ومتعناهم إلى حين).. ولكن قصة يونس -مع هذا- هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم؛ فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة؛ وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب، فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم، كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين.
وهكذا نجد الترابط بكل ألوانه في سياق السورة من مطلعها إلى ختامها، مما يجعلها وحدة متكاملة متشابكة كما أسلفنا.
وواضح من المقتطفات التي سبقت من نصوص السورة -في هذا التقديم- أن القضية الأساسية التي يتكئ عليها السياق كله هي قضية الألوهية والعبودية، وتجلية حقيقتهما، وبيان مقتضيات هذه الحقيقة في حياة الناس. أما سائر القضايا الأخرى التي تعرضت لها السورة كقضية الوحي، وقضية الآخرة، وقضية الرسالات السابقة.. فقد جاءت في صدد إيضاح تلك الحقيقة الكبرى وتعميقها وتوسيع مدلولها؛ وبيان مقتضياتها في حياة البشر واعتقادهم وعبادتهم وعملهم.
والواقع أن تلك القضية الكبرى هي قضية القرآن كله، وقضية القرآن المكي بصفة خاصة. فتعريف الألوهية الحقة؛ وبيان خصائصها من الربوبية والقوامة والحاكمية؛ وتعريف العبودية وحدودها التي لا تتعداها؛ والوصول من هذا كله إلى تعبيد الناس لإلههم الحق؛ واعترافهم بالربوبية والقوامة والحاكمية له وحده.. هذا هو الموضوع الرئيسي للقرآن كله.. وما وراءه إن هو إلا بيان لمقتضيات هذه الحقيقة الكبيرة في حياة البشر بكل جوانبها.
وهذه الحقيقة الكبيرة تستحق -عند التأمل العميق- كل هذا البيان الذي هو موضوع هذا القرآن.. تستحق أن يرسل الله من أجلها رسله جميعا، وأن ينزل بها كتبه جميعا: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)..
إن حياة البشر في الأرض لا تستقيم إلا إذا استقامت هذه الحقيقة في اعتقادهم وتصورهم، واستقامت كذلك في حياتهم وواقعهم.
لا تستقيم أولاً إزاء هذا الكون الذي يعيشون فيه، ويتعاملون مع أشيائه وأحيائه.. وهم حين يضطرب تصورهم لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية يروحون يؤلهون الأشياء والأحياء -بل يؤلهون الأشباح والأوهام!- ويُعبدون أنفسهم لها في صور مضحكة، ولكنها بائسة!، ويقدمون لها -بوحي من الكهان والمنتفعين بأوهام العوام في كل زمان وفي كل مكان- خلاصة كدهم من الرزق الذي أعطاهم اللّه. بل إنهم ليقدمون لها فلذات أكبادهم كما يقدمون لها أرواحهم في بعض الأحيان.. وهي أشياء وأحياء لا حول لها ولا قوة، ولا تملك لهم ضراً ولا نفعاً.. وتضطرب حياتهم كلها، وهم يعيشون بين الهلع والجزع من هذه الأشياء والأحياء؛ وبين التقرب والزلفى لمخلوقات مثلهم، عبوديتها للّه كعبوديتهم.. وذلك كما قال الله تعا: 136-5 (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا. فقالوا: هذا لله -بزعمهم- وهذا لشركائنا! فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم! ساء ما يحكمون! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم -ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون- وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء -بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه! -سيجزيهم بما كانوا يفترون- وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء! سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم -قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
فهذه نماذج من تكاليف العبودية لغير الله في الأموال والأولاد؛ التي تقدم لمخلوقات من خلق الله. أشياء أو أحياء ما أنزل الله بها من سلطان!
كذلك لا تستقيم حياة البشر إزاء بعضهم البعض بدون استقامة حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية في اعتقادهم وتصورهم، وفي حياتهم وواقعهم.. إن إنسانية الإنسان وكرامته وحريته الحقيقية الكاملة لا يمكن أن تتحقق في ظل اعتقاد أو نظام لا يفرد الله سبحانه بالربوبية والقوامة والحاكمية؛ ولا يجعل له وحده حق الهيمنة على حياة الناس في الدنيا والآخرة، في السر والعلانية؛ ولا يعترف له وحده بحق التشريع والأمر والحاكمية في كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية..
والواقع البشري على مدار التاريخ يثبت هذه الحقيقة ويصدقها. فما من مرة انحرف الناس عن الدينونة لله وحده- اعتقاداً ونظاماً -ودانوا لغير الله من العباد- سواء كانت هذه الدينونة، بالاعتقاد والشعائر أم كانت باتباع الأحكام والشرائع -إلا كانت العاقبة هي فقدانهم لإنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم!
والتفسير الإسلامي للتاريخ؛ يرد ذل المحكومين للطواغيت، وسيطرة الطواغيت عليهم، إلى عامل أساسي هو فسوق المحكومين عن دين اللّه، الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية، ومن ثم يفرده بالربوبية والسلطان والقوامة والحاكمية. فيقول الله سبحانه عن فرعون وقومه: (ونادى فرعون في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي؟ أفلا تبصرون؟ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين؟ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب، أو جاء معه الملائكة مقترنين! فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين).. فيرد استخفاف فرعون لهم إلى أنهم فاسقون. فما يستخف الحاكم الطاغي قومه وهم مؤمنون بالله موحدون؛ لا يدينون لسواه بربوبية تزاول القوامة والحاكمية!
ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره. العبودية، التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم؛ والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة!
لقد هربت أوربا من الله- في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف! -وثارت على الله- سبحانه -في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس هناك أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم- ومصالحهم كذلك -في ظل الأنظمة الفردية [الديمقراطية] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية، والأوضاع النيابية البرلمانية، والحريات الصحفية، والضمانات القضائية والتشريعية، وحكم الأغلبية المنتخبة.. إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة.. ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان "الرأسمالية "ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات وكل تلك التشكيلات، إلى مجرد لافتات، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال، فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم، في معزل عن الله سبحانه!!!
ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغى فيها "رأس المال" و "الطبقة!" إلى الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة "الرأسماليين" الدينونة لطبقة "الصعاليك "! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين!
وفي كل حالة وفي كل وضع وفي كل نظام دان البشر فيه للبشر، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة. دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حالة!
إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن لله وحده، تكن لغير الله.. والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء.. والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم.. ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية!
من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله- سبحانه -وفي كتبه.. وهذه السورة نموذج من تلك العناية.. فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة. ولكنها تتعلق بالإنسان كله في كل زمان وفي كل مكان؛ وتتعلق بالجاهليات كلها.. جاهليات ما قبل التاريخ. وجاهليات التاريخ. وجاهلية القرن العشرين. وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد!
ومن أجل ذلك كان جوهر الرسالات والكتب هو تقرير ألوهية الله- سبحانه -وربوبيته وحده للعباد: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون).
وكان ختام هذه السورة التي نواجهها:
قل: يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله؛ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم، وأمرت أن أكون من المؤمنين. وأن أقم وجهك للدين حنيفا، ولا تكونن من المشركين. ولا تدع من دون الله، ما لا ينفعك ولا يضرك، فإن فعلت فإنك إذن من الظالمين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخير فلا راد لفضله، يصيب به من يشاء من عباده، وهو الغفور الرحيم. قل: يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها. وما أنا عليكم بوكيل. واتبع ما يوحى إليك، واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة: سورة يونس لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا. وذلك في قوله تعالى {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}. وتلك الخصوصية كرامة ليونس عليه السلام وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك. وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها.
والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة ب {ألر}. ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبي أو قوم نبي عوضا عن أن يقال: آلر الأولى وألر الثانية. وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة...
وهي مكية في قول الجمهور. وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه. وفي الإتقان عن عطاء عنه أنها مدنية. وفي القرطبي عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله تعالى {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} إلى قوله {حتى يروا العذاب الأليم} وجزم بذلك القمي النيسابوري. وفي ابن عطية عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما {فإن كنت في شك إلى قوله من الخاسرين}. وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى {ومنهم من يؤمن به إلى أعلم بالمفسدين} نزلت في شأن اليهود.
وقال ابن عطية: قالت فرقة: نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها بالمدينة. ولم ينسبه إلى معين. وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئ، وسيأتي التنبيه عليه.
وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود. وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله تعالى {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا}.
ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى {تلك آيات الكتاب الحكيم} إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله. وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله {قل فأتوا بسورة مثله}.
وأتبع بإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا.
وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله.
وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء. فذلك إبطال أصول الشرك.
وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات، وبيان حكمة الجزاء، وصفة الجزاء، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس.
ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا. فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول.
فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه.
ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل.
والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر، وما في أحوال السير في البحر من الإلطاف.
وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها، وأن الآخرة هي دار السلام.
واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الاخرة، وتبرؤ الإلهة الباطلة من عبدتها.
وإبطال إلهية غير الله تعالى، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.
وإثبات أن القرآن منزل من الله، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة.
وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين.
وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب.
وتوبيخ المشركين على ما حرموه مما أحل الله من الرزق.
وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون.
وأنه لو شاء لآمن من في الأرض كلهم.
ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون.
ثم استشهد على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بشهادة أهل الكتاب.
وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
... نرجح مكية جميع آيات السورة.
وفصول السورة مترابطة متساوقة مما يلهم أنها نزلت متتابعة حتى تمت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ"... هذه آيات القرآن... والآيات: الأعلام، والكتاب اسم من أسماء القرآن...
ومعنى «الحكيم» في هذا الموضع: «المحكم» صرف مفعل إلى فعيل، كما قيل عذاب أليم... فمعناه إذا: تلك آيات الكتاب المحكم الذي أحكمه الله وبيّنه لعباده، كما قال جلّ ثناؤه: "الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أنه سماه حكيمًا بمعنى أنه محكم... فيه الحلال والحرام، والأمر والنهي... أو محكم: متقن مبرأ من الباطل والكذب والاختلاف، وهو ما وصفه تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ...) الآية.
والثاني: حكيمًا لما أن من تأمل فيه ونظر وفهم ما أودع فيه وأدرج، صار حكيمًا وهو ما وصفه وسماه مجيدًا، أي: من تأمله ونظر فيه صار مجيدًا شريفًا.
والحكيم هو المصيب في الحقيقة... واضع كل شيء موضعه.
وقوله: (آيَاتُ): يحتمل آيات الكتاب المعروف، ويحتمل الحجج والبراهين، أي: حجج الكتاب وبراهينه أو أعلامه، وقد تقدم ذكر الآيات في غير موضع، والله أعلم.
... المسألة الثانية: في وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه:
الأول: أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. الثاني: أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به...
الثالث: قال الأكثرون {الحكيم} بمعنى الحاكم، فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى: {وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس} فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها، وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها، وكالحاكم على أن محمدا صادق في دعوى النبوة، لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام، ليست إلا القرآن.
الرابع: أن {الحكيم} بمعنى المحكم.
والإحكام معناه: المنع من الفساد، فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء، ولا تحرقه النار، ولا تغيره الدهور. أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض. الخامس: قال الحسن: وصف الكتاب بالحكيم، لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه، فعلى هذا {الحكيم} يكون معناه المحكوم فيه. السادس: أن {الحكيم} في أصل اللغة: عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب، فكان وصف القرآن به مجازا، ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب، فمن حيث إنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع الماضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول في ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخره في سورتي الأنفال وبراءة، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مما هو ملائم له متهيئ لقبوله وتبعده عما هو منافر له بعيد من قبول ملاءمته. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قد حوى من الأوصاف والحلى والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه. والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه كافيه لأنه لا مثل له وأنه ذو العرش العظيم؛ لما كان ذلك كذلك، أعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة، وزاده وصف الحكمة وأشار بأداة البعد إلى أن رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال: {تلك} أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أن القرآن كلام الله وإلا لما أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف {آيات الكتاب} أي الذكر الجامع لكل خير، وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوراة والإنجيل من ذلك، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في الكتابين ولا جالس أحداً يعلمه {الحكيم} فكان فيما مضى -أن كونه من عند الله كاف في وجوب إتباعه- وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية: العلامة التي تنبئ عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة، والحكيم: الناطق بالحكمة. وهي المعروف بما يجتمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد والنقص، استعير له ذلك لأنه دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى المعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة، ومحكم لما أتى به، مانع له من الفساد، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اسم الإشارة يجوز أن يكون مراداً به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم، فكأنها منظورة مشاهدة، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها... فالمقصود من الإشارة...إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبي بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبي آيةً على صدقه، كما دل عليه قوله في هذه السورة [يونس: 15] {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائتِ بقرآن غير هذا أو بَدله} فقيل لهم {تلك آيات الكتاب الحكيم}، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه.
وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و {آيات} خبره. وإضافة {آيات} إلى {الكتاب} إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق.
...الآيات تطلق على ثلاثة أمور: الآيات الكونية للنظر والاعتبار، وآيات إعجازية لصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الله، وآيات قرآنية تحمل الأحكام والتحدي للمشركين أم يأتوا بمثلها. وهنا قوله الحق: {آلر تلك آيات الكتاب} والمراد بها: الآيات القرآنية، وما دام الله هو خالق الآيات الكونية الحسية، وخالق المعجزات؛ وهو منزّل القرآن، فلا تعارض بين الآيات؛ ، لأن مصدرها واحد.
...الحكمة تعني: أن تضع الشيء في موضعه؛ ليعطيك فائدة لا تحدث ضررا فيما بعد...وقد أنزل الله المنهج في الكتاب ليقود حياتنا إلى كل صلاح. فإن طبقناه؛ فسوف يأتي منه نفع، ولن يأتي لنا أي ضرر.