قوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر } ، يقضيه وحده ، { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } ، معناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا بإذنه ، وهذا رد عل النضر بن الحارث فإنه كان يقول : إذا كان يوم القيامة تشفعني اللات والعزى .
قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم } ، يعنى : الذي فعل هذه الأشياء ربكم لا رب لكم سواه ، { فاعبدوه أفلا تذكرون } ، تتعظون .
ثم ساق - سبحانه - من مظاهر قدرته ، ما يبطل تعجبهم فقال - تعالى - :
{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات . . . }
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : " اعلم أنه - تعالى - لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ثم إنه - تعالى - أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم وينذرهم . . كان هذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين :
أحدهما : إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا ، نافذ الحكم بالأمر والنهي .
والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما .
فلا جرم أنه - سبحانه - ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين .
أما الأول : وهو إثبات الألوهية فبقوله - تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض . . . } .
وأما الثاني : فهو إثبات المعاد والحشر والنشر بقوله : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً . . . } .
فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن . ونهاية الكمال .
والمعنى : إن ربكم ومالك أمركم - الذي عجبتم من أن يرسل إليكم رسولا منكم هو الذي الذي خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام أى أوقات .
فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون .
قال الآلوسى : " وقيل هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام ، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه " .
وقال بعض العلماء : " ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة ، فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها ، وإنما ذكرت لبيان حكمة التدبير والتقدير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق ، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية .
وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله ، الذي لا مصرد لإدراكه إلا هذا المصدر ، فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه ، والمقصود بذكرها هو الإِشارة إلى حكمة التقدير والتدبير والنظام الذي يسير مع الكون من بدئه إلى منتهاه " .
وقال سعيد بن جبير : كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض في لمحة ولحظة .
ولكنه - سبحانه - خلقهن في ستة أيام ، لكي يعلم عباده التثبت والتأني في الأمور .
وقوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } معطوف على ما قبله ، لتأكيد مزيد قدرته وعظمته - سبحانه - .
والاستواء من معانيه اللغوية الاستقرار ، ومنه قوله - تعالى - { واستوت عَلَى الجودي } أي : استقرت ، ومن معانيه - أيضاً - الاستيلاء والقهر والسلطان ، ومنه قول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق أي : استولى عليه .
وعرش الله - كما قال الراغب - مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم وليس كما تذهب إليه أوهام العامة ، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى الله عن ذلك - لا محمولا " .
وقد ذكر العرش في القرآن الكريم في إحدى وعشرين آية . وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات .
أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة إلى أنه صفة الله - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين ، ولوجوب تنزيهه عمالا يليق به فيجب الإِيمان بها كام وردت وتفويض العلم بحقيقتها إلى الله - تعالى - .
فعن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت في تفسر قوله - تعالى { الرحمن عَلَى العرش استوى } الكيف غير معقول ، والاستواء مجهول ، والإِقرار به من الإِيمان ، والجحود به كفر .
وقال الإِمام مالك : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
وقال محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء جميعا على الإِيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه .
وقال الإِمام الرازي : " إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه " .
وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرف هذه الصفة وأمثالها عن الظاهر لاستحالة حملها على ما يفيده ظاهر اللفظ ، لأنه - سبحانه - مخالف للحوادث ، ووجوب حملها على ما يليق به - سبحانه - .
وعليه فإن الاستواء هنا : كناية عن القهر والعظمة والغلبة والسلطان وقوله : { يُدَبِّرُ الأمر } استنئاف مسوق لتقرير عظمته - سبحانه - ولبيان حكمة استوائه على العرش .
والتدبير معناه : النظر في أدبار الأموار وعواقبها لتقع على الوجه المحمود .
والمراد به هنا : ما يتعلق بأمور المخلوقات كلها من إنس وجن وغير ذلك من مخلوقاته التي لا تعد ولا تحصى .
أى أنه سبحانه يدبر أمر مخلوقاته تدبيرا حكيما ، حسبما تقتضيه إرادته وعبر بالمضارع في قوله : { يدبر } للإِشارة إلى تجدد التدبير واستمراره ، إذ أنه - سبحانه - لا يهمل شئون خلقه .
وقوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استئناف آخر مسوق لبيان تفرده في تدبيره وأحكامه .
والشفيع مأخوذ من الشفيع وهو ضم الشيء إلى مثله ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى منزلة إلى من هو أدنى منه لإِعانته على ما يريده .
والاستثناء هنا مفرغ من أعم الأوقات والأحوال . أي : ما من شفيع يستطيع أن يشفع لغيره في جميع الأوقات والأحوال إلا بعد إذنه - سبحانه - .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وقوله - سبحانه - : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ في السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } واسم الإِشارة في قوله - سبحانه - { ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه } يعود إلى ذات الله - تعالى - الموصوفة بتلك الصفات الجليلة .
أى : ذلك الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في شئون خلقه وفق مشيئته ، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا في ذلك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بالأمر بالتذكر فقال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي : أتعلمون أن الله - تعالى - هو خالقكم وهو القادر على كل شيء ، ومع ذلك تستبعدون أن يكون الرسول نبيكم - صلى الله عليه وسلم - : وإيثار { تَذَكَّرُونَ } على تفكرون للإِيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى عمق في التفكير والبحث والتأمل . إذ أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية في الأنفس والآفاق .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله - تعالى - وبالغ حكمته ، ونفاذ أحكامه حتى يخلص له الناس العبادة والطاعة .
{ إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } التي هي أصول الممكنات . { في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر } يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته وسبقت به كلمته ويهيئ بتحريكه أسبابها وينزلها منه ، والتدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة . { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } تقرير لعظمته وعز جلاله ، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له { ذلكم الله } أي الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية . { ربكم } لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك . { فاعبدوه } وحدوه بالعبادة . { أفلا تذكّرون } تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه .
هذا ابتداء دعاء إلى عبادة الله عز وجل وإعلام بصفاته ، والخطاب بها لجميع الناس ، و { خلق السماوات والأرض } هو على ما تقرر أن الله عز وجل خلق الأرض { ثم استوى } إلى السماء وهي دخان فخلقها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وقوله { في ستة أيام } قيل هي من أيام الآخرة ، وقال الجمهور ، وهو الصواب : بل من أيام الدنيا .
قال القاضي أبو محمد : وذلك في التقدير لأن الشمس وجريها لم يتقدم حينئذ وقول النبي صلى الله عليه وسلم في خلق الله المخلوقات ( إن الله ابتدأ يوم الأحد كذا ويوم كذا كذا ) إنما هو على أن نقدر ذلك الزمان ونعكس إليه التجربة من حين ابتدأ ترتيب اليوم والليلة ، والمشهور أن الله ابتدأ بالخلق يوم الأحد ، ووقع في بعض الأحاديث في كتاب مسلم وفي الدلائل أن البداءة وقعت يوم السبت{[6008]} وذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة وفي القدرة أن يقول كن فيكون إنما هو ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور .
قال القاضي أبو محمد : وهذا مما لا يوصل إلى تعليله ، وعلى هذا هي الأجنة في البطون وخلق الثمار وغير ذلك ، والله عز وجل قد جعل لكل شيء قدراً وهو أعلم بوجه الحكمة . وقوله { ثم استوى على العرش } قد تقدم القول فيه في { المص } [ الأعراف : 1 ] وقوله { يدبر الأمر } يصح أن يريد ب { الأمر } اسم الجنس من الأمور ويحتمل أن يريد { الأمر } الذي هو مصدر أمر يأمر ، وتدبيره لا إله إلا هو إنما هو الإنفاذ لأنه قد أحاط بكل شيء علماً ، وقال مجاهد : { يدبر الأمر } معناه يقضيه وحده ، وقوله { ما من شفيع الا من بعد إذنه } رد على العرب في اعتقادها أن الأصنام تشفع لها{[6009]} ، وقوله { ذلكم } إشارة الى الله تعالى أي هذا الذي هذه صفاته فاعبدوه ، ثم قررهم على هذه الآيات والعبر فقال { أفلا تذكرون } أي فيكون التذكر سبباً للاهتداء ، واختصار القول في قوله { ثم استوى على العرش } [ إما ] أن يكون { استوى } بقهره وغلبته وإما أن يكون { استوى } بمعنى استولى إن صحت اللفظة في اللسان ، فقد قيل في قول الشاعر :
قد استوى بشر على العراق*** من غير سيف ودم مهراق
إنه بيت مصنوع . وإما أن يكون فعل فعلاً في العرش سماه { استوى } واستيعاب القول قد تقدم{[6010]} .
استئناف ابتدائي للاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية . وإنما أوقع هنا لأن أقوى شيء بَعثَ المشركين على ادعاء أن ما جاء به النبي سحر هو أنه أبطل الشركاء لله في الإلهية ونفاها عن آلهتهم التي أشركوا بها فقالوا : { أجعل الآلهةَ إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } [ ص : 5 ] فلا جرم أن أعقب إنكار إحالتهم ذلك بإقامة الدليل على ثبوته .
والخطاب للمشركين ، ولذلك أكد الخبر بحرف التوكيد ، وأوقع عقبه { أفلا تذكرون } [ يونس : 2 ] ، فهو التفات من الغيبة في قوله : { أكَانَ للناس عجباً وقوله قال الكافرون } . وقد مضى القول في نظير صدر هذه الآية في سورة الأعراف إلى قوله : { ثم استوى على العرش } .
وقوله : { الله } خبر { إن } ، كما دل عليه قوله بعده : { ذالكم الله ربكم فاعبدوه } .
وجملة { يدبر الأمر } في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو خبر ثان عن { ربكم } .
والتدبير : النظر في عواقب المقدرات وعوائقها لقصد إيقاعها تامة فيما تقصد له محمودةَ العاقبة .
والغاية من التدبير الإيجاد والعملُ على وفق ما دُبر . وتدبير الله الأمور عبارة عن تمام العلم بما يخلقها عليه ، لأن لفظ التدبير هو أوفى الألفاظ اللغوية بتقريب إتقان الخلق .
والأمر : جنس يعم جميع الشؤون والأحوال في العالم . وتقدم في قوله { وقلَّبوا لك الأمور } في سورة [ براءة : 48 ] .
وفي إجراء هذه الصفات على الله تعالى تعريض بالرد على المشركين إذ جعلوا لأنفسهم آلهة لا تخلق ولا تعلم ؛ كما قال تعالى : { لا يخلُقون شيئاً وهم يخلقون } [ النحل : 20 ] . ولذلك حسن وقع جملة { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } عقب جملة : { الذي خلق } بتمامها ، لأن المشركين جعلوا آلهتهم شفعاء فإذا أنذروا بغضب الله يقولون : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ، أي حُماتنا من غضبه . فبعد أن وُصف الإله الحق بما هو منتف عن آلهتهم نُفِي عن آلهتهم وصْف الشفاعة عند الله وحماية المغضوب عليهم منه .
وأكد النفي ب { من } التي تقع بعد حرف النفي لتأكيد النفي وانتفاء الوصف عن جميع أفراد الجنس الذي دخلت ( من ) على اسمه بحيث لم تبق لآلهتهم خصوصية .
وزيادة { إلاّ مِنْ بعد إذنه } احتراس لإثبات شفاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم بإذن الله ، قال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] . والمقصود من ذلك نفي الشفاعة لآلهتهم من حيث إنهم شركاء لله في الإلهية ، فشفاعتهم عنده نافذة كشفاعة الند عند نده . والشفاعة تقدمت عند قوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة } في سورة [ البقرة : 48 ] . وكذلك الشفيع تقدم عند قوله : { فهل لنا من شفعاء } في سورة [ الأعراف : 53 ] .
وموقع جملة : { ما من شفيع } مثل موقع جمله : { يدبر الأمر } .
وجملة : { ذلكم الله ربكم } ابتدائية فذلكةٌ للجمل التي قبلها ونتيجة لها ، وهي معترضة بين تلك الجمل وبين الجملة المفرعَة عليها ، وهي جملة : { فاعبدوه } ، وتأكيد لمضمون الجملة الأصلية وهي جملة : { إن ربكم الله } .
والإتيان في صدرها باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز ، لأنهم امتروا في صفة الإلهية وضلوا فيها ضلالاً مبيناً ، فكانوا أحرياء بالإيقاظ بطريق اسم الإشارة ، وللتنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيذكر بعد اسم الإشارة من حيث إنه اتصف بتلك الأوصاف التي أشير إليه من أجلها ، فإن خالق العوالم بغاية الإتقان والمقدرة ومالك أمرها ومدبر شؤونها والمتصرفَ المطلق مستحقٌ للعبادة نظير الإشارة في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] بعد قوله : { للمتقين الذين يؤمنون بالغيب إلى قوله : هم يوقنون } [ البقرة : 2 4 ] .
وفُرّع على كونه ربهم أن أمروا بعبادته ، والمفرَّعُ هو المقصود من الجملة وما قبله مؤكد لجملة : { إن ربكم الله } تأكيداً بفذلكة وتحصيل . والتقديرُ : إن ربكم الله إلى قوله : { فاعبدوه } ، كقوله : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحُوا } [ يونس : 58 ] إذ وقع قوله ( فبذلك ) تأكيداً لجملة بفضل الله وبرحمته . وأوقع بعده الفرع وهو ( فليفرحوا ) . والتقدير : قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك .
والمقصود من العبادة العبادة الحق التي لا يشرك معه فيها غيره ، بقرينة تفريع الأمر بها على الصفات المنفرد بها الله دون معبوداتهم .
وجملة : { أفلا تذَّكَّرون } ابتدائية للتقريع . وهو غرض جديد ، فلذلك لم تعطف ، فالاستفهام إنكار لانتفاء تذكرهم إذْ أشركوا معه غيره ولم يتذكروا في أنه المنفرد بخلق العوالم وبملكها وبتدبير أحوالها .
والتذكُّر : التأمل . وهو بهذه الصيغة لا يطلق إلا على ذكر العقل لمعقولاته ، أي حركته في معلوماته ، فهو قريب من التفكر ؛ إلا أن التذكر لما كان مشتقاً من مادة الذكر التي هي في الأصل جريَان اللفظ على اللسان ، والتي يعبر بها أيضاً عن خطور المعلوم في الذهن بعد سهوه وغيبته عنه كان مشعراً بأنه حركة الذهن في معلومات متقررة فيه من قبل .
فلذلك أوثر هنا دون { لعلكم تتفكرون } [ البقرة : 219 ] للإشارة إلى أن الاستدلال على وحدانية الله تعالى قد تقررَ في النفوس بالفطرة ، وبما تقدم لهم من الدعوة والأدلة فيكفي في الاستدلال مجرد إخطار هذه الأدلة في البال .
... فَتَعَطَّلَ الشفعاء إلا بإذن الله. (أحكام الشافعي: 2/180.)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي له عبادة كلّ شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهير، ثم استوى على عرشه مدبرا للأمور وقاضيا في خلقه ما أحبّ، لا يضادّه في قضائه أحد، ولا يتعقب تدبيره متعقب، ولا يدخل أموره خلل. "ما مِنْ شَفِيعٍ إلاّ مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ "يقول: لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة. "ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ" يقول جلّ جلاله: هذا الذي هذه صفته سيدكم ومولاكم لا من لا يسمع، ولا يبصر، ولا يدبر، ولا يقضي من الآلهة والأوثان. "فاعْبُدُوهُ" يقول: فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته، وأخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهة والربوبية بالذلة منكم له دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة. "أفَلا تَذَكّرُونَ" يقول: أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج، فتنيبون إلى الإذعان بتوحيد ربكم وإفراده بالعبادة، وتخلعون الأنداد وتبرؤون منها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ): الشفيع هو ذو المنزلة والقدر عند الذي يشفع إليه، لا أحد في الشاهد يشفع لآخر إلى آخر إلا بعد أن يكون الشفيع عند الذي يشفع إليه ذا منزلة وقدر، فإذا كان كذلك فمع ذلك أيضًا يشفع إلا من بعد ما أذن له بالشفاعة لمن جاء بالتوحيد.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) يقول: ذلكم الذي يستحق العبادة هو ربكم، الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض ودبر أموركم، فاعبدوه ولا تعبدوا الذي لا يملك شيئًا من ذلك.
(أَفَلَا تَذَكَّرُونَ): أنه هو المستحق للعبادة، وهو المستوجب للشكر، لا الذين تعبدون أنتم. أو أن يقول: أفلا تذكرون أن الذي خلقكم وخلق السماوات والأرض هو ربكم، وهو مدبر أمور الخلائق في مصالحهم ما يرجع إلى مصالحهم في دنياهم ودينهم، لا الذي يعبدون من دون اللَّه، واللَّه أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... "يدبر الأمر "فالتدبير: تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مأخوذ من الدبور، فتجري على أحكام الدابر في البادئ.
"ما من شفيع إلا من بعد إذنه" فالشفيع هو: السائل في غيره لإسقاط الضرر عنه، وعند قوم أنه متى سأله في زيادة منفعة توصل اليه كان شفيعا. والذي اقتضى ذكره -ههنا- صفات التعظيم مع اليأس من الاتكال في دفع الحق على الشفيع. والمعنى -ههنا- أن تدبيره للأشياء وصنعته لها ليس يكون منه بشفاعة شفيع ولا بتدبير مدبر لها سواه، وأنه لا يجسر أحد أن يشفع إليه إلا بعد أن يأذن له فيه، من حيث كان تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب من خلقه بمصالحهم ...
وانما ذكر الشفيع في الآية ولم يجر له ذكر، لأن المخاطبين بذلك كانوا يقولون: الأصنام شفعاؤهم عند الله. وذكر بعدها "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" وإذا كانت الأصنام لا تعقل فيكف تكون شافعة؟! مع أنه لا يشفع عنده إلا من ارتضاه الله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا يحتاج فِعْله إلى مُدّةٍ، وكيف ذلك ومن جملة أفعاله الزمان والمدة؟ فَخَلَقَ السماوات والأرضَ في ستة أيام، وتلك الأيام أيضاً من جملة ما خَلَق الله سبحانه وتعالى.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ}: تعريف، وقوله: {فَاعْبُدُوهُ}: تكليف؛ فحصولُ التعريف بتحقيقه، والوصولُ إلى ما وَرَدَ به التكليف بتوفيقه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{يُدَبِّرُ} يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة، ويفعل ما يفعل المتحري للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخراً. و {الأمر} أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش.
فإن قلت: ما موقع هذه الجملة؟ قلت: قد دلّ بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير، وبالاستواء على العرش، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره، وكذلك قوله: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} دليل على العزة والكبرياء، كقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38] و {ذلكم} إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو ربكم، وهو الذي يستحق منكم العبادة، {فاعبدوه} وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع. {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...ذكر بعض الناس أن الحكمة في خلق الله تعالى هذه الأشياء في مدة محدودة ممتدة وفي القدرة أن يقول كن فيكون إنما هو ليعلم عباده التؤدة والتماهل في الأمور... وهذا مما لا يوصل إلى تعليله، وعلى هذا هي الأجنة في البطون وخلق الثمار وغير ذلك، والله عز وجل قد جعل لكل شيء قدراً وهو أعلم بوجه الحكمة.
... اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين:
أحدهما: إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا نافذا الحكم بالأمر والنهي والتكليف.
والثاني: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.
أما الأول: وهو إثبات الإلهية، فبقوله تعالى: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض}.
وأما الثاني: وهو إثبات المعاد والحشر والنشر. فبقوله: {إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا} فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن، ونهاية الكمال...
فإن قيل: كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق، وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة؟ والجواب من وجوه:
والوجه الثاني: وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلها للعالم مستقلا بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع، بين أمر المبدأ بقوله: {يدبر الأمر} وبيَّن حال المعاد بقوله: {ما من شفيع إلا من بعد إذنه}...
والوجه الثالث: يمكن أيضا أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح، مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح، فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم، ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه.
{أفلا تذكرون}... وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته، أعلى المراتب وأكمل الدرجات.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادراً على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر في مصالحكم، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته، إذ ليس خلقهم عبثاً بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى.
...ولما كان الخطاب عاماً وكان الكفار يقولون عن أصنامهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ردّ ذلك تعالى عليهم، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين: الابتداء والانتهاء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه -مع ما تضمنه من البعث- سحر، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال: {إن ربكم} أي الموجد لكم والمربي والمحسن {الله} أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب صلاحه، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعاً، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم {الذي} بدأ الخلق بأن {خلق} أي قدر وأوجد {السماوات والأرض} على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع {في ستة أيام} لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء.
ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي: {ثم استوى} أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك {على العرش} المتقدم وصفه بالعظمة، وليست "ثم "للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله: {يدبر} لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه {الأمر} كله فلا يخفى عليه عاقبة أمر من الأمور، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه، بل هو متصف بأنه {ما من شفيع} أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك.
ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحداً عند إذنه له إذناً عاماً لجميع الأزمان والأماكن، أتى بالجار فقال: {إلا من بعد إذنه} فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه، وقد عرف من هذا أن {ما من شفيع} في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء أصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع: السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء، فنبه على ذلك بقوله: {ذلكم} أي العظيم الشأن العالي المراتب {الله} أي الملك الأعلى {ربكم} الذي تقرر له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه وصف {فاعبدوه} أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زل أدنى زلة طاعة.
ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها لما قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال: {أفلا تذكرون} أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريده، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعل الحقيقي غيره و أنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع!.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}...وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعينِ فأمرٌ قد استأثر بعلم ما يستدعيه علامُ الغيوب جلت قدرتُه ودقتْ حكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإيذان بأنها أجرامٌ مختلفةُ الطباعِ متباينةُ الآثارِ والأحكام...
{يُدَبّرُ الأمر}... إيثارُ صيغةِ المضارعِ للدلالة على تجدد التدبيرِ واستمرارِه..
{مَا مِن شَفِيعٍ} بيانٌ لاستبداده سبحانه في التقدير والتدبيرِ ونفيٌ للشفاعة على أبلغ الوجوهِ فإن نفيَ جميعِ أفرادِ الشفيعِ بمن الاستغراقية يستلزم نفيَ الشفاعةِ على أتم الوجوه كما في قوله تعالى: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود، الآية 43] وهذا بعد قوله تعالى: {يُدَبّرُ الأمر} جارٍ مجرى قوله تعالى: {وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} عقيب قوله تعالى: {قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شيء} [المؤمنون، الآية 88]..
{إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأوقاتِ أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنِه المبنيِّ على الحكمة الباهرةِ، وذلك عند كون الشفيع من المصطَفْين الأخيارِ والمشفوعُ له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} وفيه من الدِلالة على عظمة جلالِه سبحانه ما لا يخفى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
افتتح السورة بذكر آيات الكتاب، الناطق بالحكمة وفصل الخطاب، وأنكر على الناس عجبهم أن يوحي ربهم إلى رجل منهم أن يعلمهم به ما لا يعلمون من الدين الذي فيه سعادتهم، منذرا من كفر بالعقاب، ومبشرا من آمن بالثواب، وحكى عن الكافرين وصفهم لهذا الكتاب الحكيم وللرسول الذي جاء به بالسحر، إذ كان منهما من خوارق العادات، وقد وجد في البشر مشعوذون ودجالون يأتون بعض الخوارق التي لا يعرف الجماهير أسبابها، فرأوا أن هذا الكتاب المعجز للبشر بأسلوبه وبلاغته، وبعلمه وحكمته، وبتأثيره في العقول والقلوب، يصح أن يكون أو يوصف بأنه من هذا السحر المعهود وجوده، المجهول سببه، وأن الرجل الذي جاء به -ولم يعرف عنه قبله شيء من بلاغة القول، ولا من حكمة التشريع والعلم- يصح أن يعد منتحلا للسحر، ولكن السحر لم يكن في يوم من الأيام حقائق علمية ولا هداية نافعة كما تقدم، والسحرة لم يكونوا إلا أناسا من المكتسبين بإطلاع الناس على غرائبهم المجهولة لهم، فأين هذا وذاك من القرآن ومن جاء به، من حقائق ساطعة وهو لا يسأل عليها أجرا، ولا يبتغي بها لنفسه نفعا، هي باقية بنفسها وبآثارها النافعة، والسحر باطل لا بقاء له؟
فالمتعين عند العقل أن يكون ما فيها من العلو على كلام البشر، والإعجاز الذي قامت به الحجة بالتحدي، وحيا من رب العالمين، ونعمة منه عليهم بهداية الدين، الذي هو لجملتهم، كالعقل لأفرادهم، ووجب على كل من يؤمن بهذا الرب العليم الحكيم، البر الرحيم، أن يؤمن بأن هذا من حكمة ربوبيته ورحمته بالعالمين، وإلا كانت صفاته ناقصة بحرمان هذا الإنسان، من هذا النوع الأعلى من العرفان، والبينات من الهدى والفرقان، ولذلك قفى حكاية عجبهم وما عللوه به من التذكير بالحجة التي تنقضه من أساسه، فقال عز وجل:
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} هذه الآية دليل على تفنيدهم في عجبهم من وحي القرآن، وبيان للربوبية التي يقتضي كمالها ثبوته وبطلان الشرك، والخطاب فيها للناس الذين عجبوا أن يوحى إلى رجل منهم ما فيه هدايتهم بأسلوب الالتفات المنبه للذهن، يقول لهم: إن ربكم هو الله الذي خلق العوالم السماوية التي فوقكم وهذه الأرض التي تعيشون عليها في ستة أزمنة تم في كل يوم منها طور من أطوارها، فإن اليوم في اللغة هو الوقت الذي يحده حدث يحدث فيه، وإن كان ألوف السنين من أيام هذه الأرض الفلكية التي وجدت بعد خلقها، أي أوجدها كلها بمقادير قدرها، فإن الخلق في اللغة التقدير، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز التدبير لهذا الملك الكبير، استواء يليق بعظمته وجلاله، وتنزيهه وكماله، يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام، وحكمته من الأحكام، فالاستواء على العرش بعد خلقهما، وهو مخلوق له من قبلهما، شأن من شؤونه فيها، لا نعلم كنهه ولا صفته من تدبير هذا الملك، وكل يوم هو في شأن، لا يدرك كنه شؤونه إنس ولا جان.
والتدبير في أصل اللغة التوفيق بين أوائل الأمور ومباديها، وأدبارها وعواقبها، بحيث تكون المبادي مؤدية إلى ما يريد من غايتها، كما أن تدبر الأمر أو القول هو التفكر في دبره وهو ما وراءه منه وينتهي إليه. ووجه دلالة هذه الجملة على ما ذكر أن الرب الخالق المدبر لجميع أمور الخلق لا يستنكر من تربيته لعباده وتدبيره لأمورهم أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه ما يهديهم به لما فيه كمالهم وسعادتهم من عبادته وشكره وصلاح أنفسهم، بل يجب على العاقل العالم بهذا التدبير والتقدير -الذي تشهد به آياته تعالى في السماوات والأرض- أن يؤمن بأن هذا الوحي منه عز وجل، إذ هو من كمال تقديره وتدبيره، ولا يقدر عليه غيره. وقد ذكرنا في تفسير آية الأعراف التي بمعنى هذه الآية (54) الاختلاف بين علماء الكلام المبتدع وأئمة السلف وأتباعهم من علماء الأثر في مسألة الاستواء على العرش وأشباهها آيات علو الخالق تعالى فوق خلقه وسائر صفاته، وحققنا أن مذهب السلف هو الحق الجامع بين النقل والعقل.
ثم قال: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} وهذه الجملة حجة ثانية على منكري الوحي، في ضمن حقيقة ناقضة لعقيدة الشرك، ذلك أن مشركي العرب وغيرهم ومقلدهم من أهل الكتاب كانوا يعتقدون أن معبوداتهم من أولياء الله تعالى وعباده المقربين من الملائكة والبشر يشفعون لهم عند الله تعالى بما يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع في الدنيا، والذين يؤمنون بالآخرة من الفريقين يثبتون لهم الشفاعة في الآخرة بالأولى، ويسمون الأصنام التي وضعت لذكرى أولئك الأولياء شفعاء أيضا بالتبع، وسيأتي في الآية (18) من هذه السورة حكاية ما يقولونه في هذه الشفاعة. ويقال في بيان وجه الحجة عليهم فيها: إنكم إذا كنتم تؤمنون بأن لله شفعاء من أوليائه وعباده المقربين يشفعون لكم عنده بما يقربكم إليه زلفى ويدفع عنكم الضر ويجلب لكم النفع- وهو قول منكم على الله تعالى بغير علم- فما لكم تنكرون وتعجبون أن يوحي تعالى إلى من يشاء، ويصطفي من هؤلاء العباد من يعلمكم من العلم الموصل إلى كل ما تطلبونه من هؤلاء الشفعاء باستحقاق بدون عمل منكم ولا استحقاق لما تطلبون منهم؟
وأما الحقيقة الناقضة لعقيدة الشرك في الشفاعة فهي أنه لا يمكن أن يوجد شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه، كما قال: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} [البقرة: 255] وليس لأحد حق في الإخبار عنه تعالى بمن يشفع عنده ومن يقبل شفاعته إلا بإعلام منه، وذلك لا يكون إلا بوحي منه. وقد ثبت في وحي هذا القرآن أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة {يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ورَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]، وأن هؤلاء المأذون لهم بالشفاعة لا يشفعون إلا لمن أذن الله تعالى راضيا عنه بإيمانه وعمله الصالح كما قال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28] مصداقا لقوله: {قل لله الشفاعة جميعا} [الزمر: 44].
{ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} احتجاج بما يؤمنون به من وحدانية الربوبية، على شركهم في وحدانية الألوهية، أي ذلك الموصوف بالخلق والتقدير، والحكمة والتدبير، والتصرف في أمر الشفاعة يأذن بها لمن شاء فيما شاء، هو الله ربكم، ومتولي أمور العالم ومنها أموركم، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، ولا معه أحدا، لا لأجل الشفاعة ولا لأجل مطلب آخر من مطالبكم، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعا ولا ضرا. وإنما يملك ذلك ربكم وحده، وقد هداكم إلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه وأقدركم عليها، وكل ما يطلب من المنافع والمضار فإنما يطلب من أسبابه التي سخرها تعالى وبينها لكم، وما عجز عنه العبد أو جهله من ذلك فالواجب عليه أن يدعو الله تعالى وحده فيه، وهذا هو الركن الأول للدين الإلهي.
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتجهلون هذا الحق المبين، فلا تتذكرون أن الذي خلق السماوات والأرض وحده، واستوى على عرش الملك يدبر الأمر وحده، ولا يمكن أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه، هو ربكم الذي يجب أن تعبدوه وألا تعبدوا غيره؟ وهو مقتضى الفطرة، وما إنكاره إلا ضرب من الغفلة علاجها التذكير.
هذا الاستفهام التعجيبي من غفلة المشركين منكري الوحي عن هذه الحقيقة- وهي أنه لا يستحق العبادة من الخلق أحد إلا ربهم وخالقهم ومدبر أمورهم- يوجه بالأولى إلى المؤمنين بالقرآن من القبوريين وعباد الصالحين، كيف لا يتذكرون هذه الآيات وأمثالها كلما شعروا بالحاجة إلى ما عجزوا عنه بكسبهم من دفع ضر أو جلب نفع؟ إذ نراهم يوجهون وجوههم إلى قبور المشهورين من الصالحين في بلادهم، ويشدون الرحال إلى ما بعد منها عنهم، ويتقربون إليها بالنذور، ويطوفون بها كما يطوف الحجاج ببيت الله عزّ وجلّ، داعين متضرعين مستغيثين خاشعين، وهذا مخ العبادة وروحها وأجلى مظاهرها، ولا ترى مثله من أحد ممن يصلي منهم في صلاة الجماعة ولا صلاته منفردا في بيته، على أن أكثرهم لا يصلون ولا يعتقدون أن الصلاة تنفعهم كهذه القبور، ذلك بأن أكثرهم يجهلون هذه الآيات وأمثالها من القرآن، وإنما يتلقون عقائد دينهم بالعمل والقول من آبائهم وأمهاتهم ومعاشريهم، وهم قبوريون لا يعرفون ملجأ ولا ملتحدا عند الشدائد والشعور بالحاجة إلى السلطان الرباني الغيبي إلا هذه القبور، وأقلهم يتلقون بعض كتب العقائد الكلامية الجافة ممن ألفوا عبادة القبور قبل أن يقرأوها، وأكثرهم يتأولون لأنفسهم وللعلوم تلك العبادة ويسمونها بغير اسمها كالتوسل والاستشفاع، وحجتهم عليها نفس حجة المشركين وأهل الكتاب، لا فرق إلا في بعض الألفاظ وأسماء الأشخاص.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...وهذه هي القضية الأساسية الكبرى في العقيدة. قضية الربوبية.. فقضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين. فهم كانوا يعتقدون بوجود الله -لأن الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الاعتقاد بوجود إله لهذا الكون إلا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف- ولكنهم كانوا يشركون مع الله أربابا يتوجهون إليهم بالعبادة. إما ليقربوهم إلى الله زلفى ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله. والقرآن الكريم لا يدخل في جدل ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية -كالذي جد فيما بعد بتأثير المنطق اليوناني والفلسفة الإغريقية- إنما يلمس المنطق الفطري الواضح البسيط المباشر: إن الله هو الذي خلق السماوات والأرض وما فيهن. وجعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل. وقدر اختلاف الليل والنهار.. هذه الظواهر البارزة التي تلمس الحس، وتوقظ القلب لو تفتح وتدبرها تدبر الواعي المدرك.. إن الله الذي خلق هذا ودبره هو الذي يليق أن يكون رباً يدين له البشر بالعبودية ولا يشركون به شيئاً من خلقه.. أليست قضية منطقية حية واقعية، لا تحتاج إلى كد ذهن، ولا إلى بحث وراء الأقيسة الجدلية التي يعلكها الذهن باردة جافة، ولا تدفئ القلب مرة ولا تستجيش الوجدان؟!
إن هذا الكون الهائل. سماواته وأرضه. شمسه وقمره. ليله ونهاره. وما في السماوات والأرض من خلق، ومن أمم ومن سنن، ومن نبات ومن طير ومن حيوان، كلها تجري على تلك السنن..
(في ستة أيام)... ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة، فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها. إنما ذكرت لبيان حكمة التقدير والتدبير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية..
ونجزم بأن (ثم) هنا للبعد المعنوي، ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم. لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات، وعن مقتضيات الزمان والمكان.
(يدبر الأمر).. ويقدر أوائله وأواخره، وينسق أحواله ومقتضياته، ويرتب مقدماته ونتائجه، ويختار الناموس الذي يحكم خطواته وأطواره ومصائره.
(ذلكم الله ربكم فاعبدوه).. وقد قلنا: إن قضية الألوهية لم تكن محل إنكار جدي من المشركين، فقد كانوا يعترفون بأن الله -سبحانه- هو الخالق الرازق المحي المميت المدبر المتصرف القادر على كل شيء.. ولكن هذا الاعتراف لم تكن تتبعه مقتضياته. فلقد كان من مقتضى هذا الاعتراف بألوهية الله على هذا المستوى أن تكون الربوبية له وحده في حياتهم.. والربوبية تتمثل في الدينونة له وحده؛ فلا يتقدمون بالشعائر التعبدية إلا له؛ ولا يحكمون في أمرهم كله غيره.. وهذا معنى قوله تعالى: (ذلكم الله ربكم فاعبدوه).. فالعبادة هي العبودية، وهي الدينونة، وهي الاتباع والطاعة، مع إفراد الله سبحانه بهذه الخصائص كلها، لأنها من مقتضيات الاعتراف بالألوهية. وفي الجاهليات كلها ينحسر مجال الألوهية. ويظن الناس أن الاعتراف بالألوهية في ذاته هو الإيمان؛ وأنه متى اعترف الناس بأن الله إلههم فقد بلغوا الغاية؛ دون أن يرتبوا على الألوهية مقتضاها وهو الربوبية.. أي الدينونة لله وحده ليكون هو ربهم الذي لا رب غيره، وحاكمهم الذي لا سلطان لأحد إلا بسلطانه.. كذلك ينحسر معنى "العبادة "في الجاهلية، حتى يقتصر على مجرد تقديم الشعائر. ويحسب الناس أنهم متى قدموا الشعائر لله وحده، فقد عبدوا الله وحده.. بينما كلمة العبادة ابتداء مشتقة من عبد. و "عبد" تفيد ابتداء "دان وخضع". وما الشعائر إلا مظهر واحد من مظاهر الدينونة والخضوع لا يستغرق كل حقيقة الدينونة ولا كل مظاهرها. والجاهلية ليست فترة من الزمان، ولا مرحلة من المراحل. إنما هي انحسار معنى الألوهية على هذا النحو، ومعنى العبادة. هذا الانحسار الذي يؤدي بالناس إلى الشرك وهم يحسبون أنهم في دين الله! كما هو الحال اليوم في كل بلاد الأرض، بما فيها البلاد التي يتسمى أهلها بأسماء المسلمين، ويؤدون الشعائر للّه، بينما أربابهم غير اللّه، لأن ربهم هو الذي يحكمهم بسلطانه وشريعته، وهو الذي يدينون له ويخضعون لأمره ونهيه، ويتبعون ما يشرعه لهم، وبذلك يعبدونه كما قال رسول الله [ص]"... فاتبعوهم. فذلك عبادتهم إياهم". [في حديث عدي بن حاتم الذي أخرجه الترمذي]. ولتوكيد معنى العبادة المقصود جاء في السورة ذاتها قوله تعالى: (قل: أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا. قل: آلله أذن لكم أم على الله تفترون؟).. وما نحن فيه اليوم لا يفترق في شيء عما كان عليه أهل الجاهلية هؤلاء الذين يناديهم الله بقوله: (ذلكم الله ربكم فاعبدوه. أفلا تذكرون!)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي للاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية. وإنما أوقع هنا لأن أقوى شيء بَعثَ المشركين على ادعاء أن ما جاء به النبي سحر هو أنه أبطل الشركاء لله في الإلهية ونفاها عن آلهتهم التي أشركوا بها فقالوا: {أجعل الآلهةَ إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} [ص: 5] فلا جرم أن أعقب إنكار إحالتهم ذلك بإقامة الدليل على ثبوته. والخطاب للمشركين، ولذلك أكد الخبر بحرف التوكيد، وأوقع عقبه {أفلا تذكرون} [يونس: 2]، فهو التفات من الغيبة في قوله: {أكَانَ للناس عجباً وقوله قال الكافرون}. وقد مضى القول في نظير صدر هذه الآية في سورة الأعراف إلى قوله: {ثم استوى على العرش}. وقوله: {الله} خبر {إن}، كما دل عليه قوله بعده: {ذلكم الله ربكم فاعبدوه}. وجملة {يدبر الأمر} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو خبر ثان عن {ربكم}، وتدبير الله الأمور عبارة عن تمام العلم بما يخلقها عليه، لأن لفظ التدبير هو أوفى الألفاظ اللغوية بتقريب إتقان الخلق. والأمر: جنس يعم جميع الشؤون والأحوال في العالم.
...وزيادة {إلاّ مِنْ بعد إذنه} احتراس لإثبات شفاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم بإذن الله، قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]...
وفُرّع على كونه ربهم أن أمروا بعبادته، والمفرَّعُ هو المقصود من الجملة وما قبله مؤكد لجملة: {إن ربكم الله} تأكيداً بفذلكة وتحصيل. والتقديرُ: إن ربكم الله إلى قوله: {فاعبدوه}، كقوله: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحُوا} [يونس: 58] إذ وقع قوله (فبذلك) تأكيداً لجملة بفضل الله وبرحمته. وأوقع بعده الفرع وهو (فليفرحوا). والتقدير: قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك. والمقصود من العبادة العبادة الحق التي لا يشرك معه فيها غيره، بقرينة تفريع الأمر بها على الصفات المنفرد بها الله دون معبوداتهم...
وجملة: {أفلا تذَّكَّرون} ابتدائية للتقريع. وهو غرض جديد، فلذلك لم تعطف، فالاستفهام إنكار لانتفاء تذكرهم إذْ أشركوا معه غيره ولم يتذكروا في أنه المنفرد بخلق العوالم وبملكها وبتدبير أحوالها. والتذكُّر: التأمل. وهو بهذه الصيغة لا يطلق إلا على ذكر العقل لمعقولاته، أي حركته في معلوماته، فهو قريب من التفكر؛ إلا أن التذكر لما كان مشتقاً من مادة الذكر التي هي في الأصل جريَان اللفظ على اللسان، والتي يعبر بها أيضاً عن خطور المعلوم في الذهن بعد سهوه وغيبته عنه كان مشعراً بأنه حركة الذهن في معلومات متقررة فيه من قبل، فلذلك أوثر هنا دون {لعلكم تتفكرون} [البقرة: 219] للإشارة إلى أن الاستدلال على وحدانية الله تعالى قد تقررَ في النفوس بالفطرة، وبما تقدم لهم من الدعوة والأدلة فيكفي في الاستدلال مجرد إخطار هذه الأدلة في البال.