معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

قوله تعالى : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا خلاد بن يحيى ، أنا عمر بن ذر قال : سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يمنعك أن تزورنا فنزلت : { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا }الآية : قال : كان هذا الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم " . وقال عكرمة ، و الضحاك ، و قتادة ، و مقاتل ، و الكلبي : " احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فقال :أخبركم غداً ، ولم يقل : إن شاء الله ، حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد أيام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال له جبريل : إني كنت أشوق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بعثت نزلت ، وإذا حبست احتبست ، فأنزل الله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } وأنزل : { والضحى * والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } " . { له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } ، أي : له علم ما بين أيدينا . واختلفوا فيه : فقال سعيد بن جبير ، وقتادة ومقاتل : { ما بين أيدينا } : من أمر الآخرة والثواب والعقاب ، { وما خلفنا } : ما مضى من الدنيا . { وما بين ذلك } : ما يكون من هذا الوقت إلى قيام الساعة . وقيل { ما بين أيدينا } : ما بقي من الدنيا ، { وما خلفنا } : ما مضى منها ، { وما بين ذلك } أي : ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة . وقيل : { ما بين أيدينا } ما بقي من الدنيا ، { وما خلفنا } : ما مضى منها ، { وما بين ذلك } : مدة حياتنا . وقيل : { ما بين أيدينا } : بعد أن نموت ، { وما خلفنا } : قبل أن نخلق ، { وما بين ذلك } : مدة الحياة . وقيل : { ما بين أيدينا } : الأرض إذا أردنا النزول إليها ، { وما خلفنا } : السماء إذا نزلنا منها ، { وما بين ذلك } : الهواء ، يريد : أن ذلك كله لله عز وجل ، فلا نقدر على شيء إلا بأمره . { وما كان ربك نسياً } ، أي : ناسياً ، يقول : ما نسيك ربك أي : ما تركك ، والناسي التارك .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وشمول علمه ، فقال - تعالى - : { وَمَا نَتَنَزَّلُ . . . } .

التنزل : النزول على مهل . فإنه مطاوع نزل - بالتشديد - ، يقال : نزلته فتنزل ، إذا حدث النزول على مهل وتدرج . وقد يطلق التنزيل بمعنى النزول مطلقاً ، إلا أن المناسب هنا هو المعنى الأول .

والآية الكريمة حكاية لما قاله جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن الوحى احتبس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفترة من الوقت بعد أن سأله المشركون أسئلة تتعلق بأصحاب الكهف . وبذى القرنين وبالروح ، حتى قال المشركون : إن رب محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قلاه - أى : أبغضه وكرهه - فلما نزل جبريل على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة من غياب - قيل خمسة عشر يوماً وقيل أكثر قال له : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى واشتقت إليك فقال له جبريل : إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت جئت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله - تعالى - هذه الآية وسورة الضحى " .

وقال الآلوسى : " ولا يأبى ما تقدم فى سبب النزول ما أخرجه أحمد ، والبخارى والترمذى ، والنسائى ، وجماعة ، فى سببه عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ . . } لجواز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك فى محاورته السابقة - أيضاً - ، واقتصر فى كل رواية على شىء مما وقع فى المحاورة . . . " .

والمعنى : قال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله عن سبب احتباسه عنه لفترة من الوقت : يا محمد إنى ما أتنزل عليك وقتاً بعد وقت ، إلا بأمر ربك وإرادته ، فأنا عبده الذى لا يعصى له أمراً . . .

{ لَهُ } - سبحانه - { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أى : له وحده جميع الجهات والأماكن ، وجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلية ، وما بين ذلك ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من وقت إلى وقت إلا بأمر ربك ومشيئته .

فالجملة الكريمة مسوقة لبيان ملكية الله - تعالى - لكل شىء ، وقدرته على كل شىء وعلمه بكل شىء .

وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } مؤكد لما قبله من إثبات قدرة الله - تعالى - وعلمه .

أى : وما كان ربك - أيها الرسول الكريم - ناسيا أو تاركاً لك أو مهملاً لشأنك ، ولكنه - سبحانه - محيط بأحوالك وبأحوال جميع المخلوقات { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

قال ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : حدثنا يزيد بن محمد . . . عن أبى الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرمه هو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

قال الإمام أحمد : حدثنا يَعْلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذَرّ ، عن أبيه ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ " قال : فنزلت { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية .

انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم ، عن عمر بن ذر به . ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عمر بن ذر به{[18997]} وعندهما زيادة في آخر الحديث ، فكان

ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم .

وقال العَوْفي عن ابن عباس : احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحَزَن ، فأتاه جبريل وقال : يا محمد ، { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }

وقال مجاهد : لبث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون [ قُلِيَ ]{[18998]} فلما جاءه قال : يا جبريل لقد رِثْتَ عليّ حتى ظن المشركون كل ظن . فنزلت : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ [ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ]{[18999]} وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال : وهذه الآية كالتي في الضحى .

وكذلك قال الضحاك بن مُزَاحم ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد : إنها نزلت في احتباس جبريل .

وقال الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : أبطأ جبريل النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يومًا ، ثم نزل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما نزلت حتى اشتقت إليك " فقال له جبريل : بل أنا كنت إليك أشوق ، ولكني مأمور ، فأوحِيَ إلى جبريل أن قل له : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . رواه ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، وهو غريب .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مجاهد قال : أبطأت الرسلُ على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه جبريل فقال له : ما حبسك يا جبريل ؟ فقال له جبريل : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ، ولا تُنْقُون براجمكم ، ولا تأخذون شواربكم ، ولا تستاكون ؟ ثم قرأ : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية .

وقد قال الطبراني : حدثنا أبو عامر النحوي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن [ الدمشقي ]{[19000]} حدثنا إسماعيل بن عياش ، أخبرني ثعلبة بن مسلم ، عن أبي كعب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن جبريل أبطأ عليه ، فذكر ذلك له فقال : وكيف وأنتم لا تَسْتَنّون ، ولا تُقَلّمُون أظفاركم ، ولا تقصون شواربكم ، ولا تُنْقُون رواجبكم .

وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن أبي اليمان ، عن إسماعيل بن عياش ، به نحوه{[19001]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا سَيَّار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا المغيرة بن حبيب - [ ختن ]{[19002]} مالك بن دينار - حدثني شيخ من أهل المدينة ، عن أم سلمة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصلحي لنا المجلس ، فإنه ينزل{[19003]} ملك إلى الأرض ، لم ينزل إليها قط " {[19004]}

وقوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } قيل : المراد ما بين أيدينا : أمر الدنيا ، وما خلفنا : أمر الآخرة ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } ما بين النفختين . هذا قول أبي العالية ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير . وقتادة ، في رواية عنهما ، والسدي ، والربيع بن أنس .

وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } ما نستقبل من أمر الآخرة ، { وَمَا خَلْفَنَا } أي : ما مضى من الدنيا ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : ما بين الدنيا والآخرة . يروى نحوه عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، وابن جريج ، والثوري . واختاره ابن جرير أيضًا ، والله أعلم .

وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال مجاهد [ والسُّدِّيّ ]{[19005]} معناه : ما نسيك ربك .

وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [ الضحى : 1 - 3 ]

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي ، حدثنا محمد بن عثمان{[19006]} - يعني أبا الجماهر{[19007]} - حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عاصم بن رجاء بن حيوة ، عن أبيه ، عن أبي الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت [ عنه ]{[19008]} فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى{[19009]} شيئا " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }{[19010]}


[18997]:المسند (1/231)، (1/233) وصحيح البخاري برقم (4731) وتفسير الطبري (16/78).
[18998]:زيادة من ت، ف، أ.
[18999]:في ت، ف، أ: "إلى قوله".
[19000]:زيادة من ت، ف، أ.
[19001]:المعجم الكبير (11/431) والمسند (1/243) وفي إسناده أبو كعب مولى ابن عباس، قال أبو زرعة: "لا يسمى ولا يعرف إلا في هذا الحديث".
[19002]:في هـ، ت، ف: "عن"، والمثبت من أ، والمسند.
[19003]:في ف، أ: "يتنزل".
[19004]:المسند (6/296).
[19005]:زيادة من ت، ف.
[19006]:في ت: "ابن عباس".
[19007]:في أ: "أبا الجماهير".
[19008]:زيادة من ت، ف، أ.
[19009]:في أ: "لينسنا".
[19010]:ورواه البزار في مسنده برقم (123) من طريق سليمان بن عبد الرحمن عن إسماعيل بن عياش به وقال: "إسناده صالح".ورواه الحاكم في المستدرك (2/375) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (10/12) عن طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن عاصم بن رجاء عن أبيه به وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

موقع هذه الآية هنا غريب . فقال جمهور المفسرين : إن سبب نزولها أنّ جبريل عليه السلام أبطأ أياماً عن النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّ النبي ودّ أن تكون زيارة جبريل له أكثر مما هو يزوره فقال لجبريل : " ألا تزورنا أكثر ممّا تزورنا " فنزلت : { ومَا نَتَنَزَّلُ إلا بِأمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية . أي إلى قوله { نَسِيَّاً } ، رواه البخاري والترمذي عن ابن عبّاس . وظاهره أنه رواية وهو أصح ما روي في سبب نزولها وأليقه بموقعها هنا . ولا يلتفت إلى غيره من الأقوال في سبب نزولها .

والمعنى : أن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقول هذا الكلام جواباً عنه ، فالنظم نظم القرآن بتقدير : وقل ما نتنزل إلاّ بأمر ربّك ، أي قل يا جبريل ، فكان هذا خطاباً لجبريل ليبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرآناً . فالواو عاطفة فعل القول المحذوف على الكلام الذي قبله عطف قصة على قصة مع اختلاف المخاطب ، وأمرَ الله رسوله أن يقرأها هنا ، ولأنّها نزلت لتكون من القرآن .

ولا شك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لجبريل عليه السلام عند انتهاء قصص الأنبياء في هذه السورة فأثبتت الآية في الموضع الذي بلغ إليه نزول القرآن .

والضمير لجبريل والملائكة ، أعلم الله نبيئه على لسان جبريل أن نزول الملائكة لا يقع إلاّ عن أمر الله تعالى وليس لهم اختيار في النزول ولقاء الرّسل ، قال تعالى : { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] .

و { نتنزل } مرادف ننزّل ، وأصل التنزّل : تكلّف النزول ، فأطلق ذلك على نزول الملائكة من السماء إلى الأرض لأنّه نزول نادر وخروج عن عالمهم فكأنه متكلّف . قال تعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فيها } [ القدر : 4 ] .

واللاّم في « له » للملك ، وهو ملك التصرف .

والمراد ب { مَا بَينَ أيْدِينَا } ما هو أمامنا ، وب { وَمَا خَلْفَنا : } ما هو وراءنا ، وب { ومَا بَينَ ذَلِكَ : } ما كان عن أيمانهم وعن شمائلهم ، لأن ما كان عن اليمين وعن الشمال هو بين الأمام والخلف . والمقصود استيعاب الجهات .

ولمّا كان ذلك مخبراً عنه بأنه ملك لله تعين أن يراد به الكائنات التي في تلك الجهات ، فالكلام مجاز مرسل بعلاقة الحلول ، مثل { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ، فيعمّ جميع الكائنات ، ويستتبع عمومَ أحوالها وتصرفاتها مثل التنزل بالوحي . ويستتبع عموم الأزمان المستقبل والماضي والحال ، وقد فسر بها قوله { ما بين أيدينا وما خَلْفنا وما بينَ ذلِكَ } .

وجملة { ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } على هذا الوجه من الكلام الملقّن به جبريل جواباً للنبيء صلى الله عليه وسلم

و { نسِيّاً } : صيغة مبالغة من نَسيَ ، أي كثيرَ النسيان أو شديده .

والنسيان : الغفلة عن توقيت الأشياء بأوقاتها ، وقد فسروه هنا بتارك ، أي ما كان ربّك تاركك وعليه فالمبالغة منصرفة إلى طول مدّة النسيان . وفسر بمعنى شديد النسيان ، فيتعين صرف المبالغة إلى جانب نسبة نفي النسيان عن الله ، أي تحقيق نفي النسيان مثل المبالغة في قوله : { وما ربّك بظلام للعبيد } [ فصّلت : 46 ] فهو هنا كناية عن إحاطة علم الله ، أي إن تنزلنا بأمر الله لما هو على وفق علمه وحكمته في ذلك ، فنحن لا نتنزل إلاّ بأمره . وهو لا يأمرنا بالتنزل إلاّ عند اقتضاء علمه وحكمته أن يأمرنا به .

وجوز أبو مسلم وصاحب « الكشاف » : أنّ هذه الآية من تمام حكاية كلام أهل الجنة بتقدير فعل يقولون حالاً من قوله { من كان تقياً } [ مريم : 63 ] ، أي وما نتنزل في هذه الجنة إلاّ بأمر ربّك الخ ، وهو تأويل حسن .

وعليه فكاف الخطاب في قوله { بأمر ربك } خطاب كلّ قائل لمخاطبه ، وهذا التجويز بناء على أنّ ما روي عن ابن عباس رأي له في تفسير الآية لا تتعيّن متابعته .

وعليه فجملة { ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } من قول الله تعالى لرسوله تذييلاً لما قبله ، أو هي من كلام أهل الجنّة ، أي وما كان ربّنا غافلاً عن إعطاء ما وعدنا به .