قوله تعالى : { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } ، إلى أجل محدود ، وأصل الأمة : الجماعة ، فكأنه قال : إلى إقراض أمة ومجيء أمة أخرى { ليقولن ما يحبسه } ، أي شيء يحبسه ؟ يقولونه استعجالا للعذاب واستهزاء ، يعنون : أنه ليس بشيء . قال الله تعالى :{ ألا يوم يأتيهم } ، يعني : العذاب ، { ليس مصروفا عنهم } ، لا يكون مصروفا عنهم ، { وحاق بهم } ، نزل بهم ، } ما كانوا به يستهزئون } ، أي : وبال استهزائهم .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك لونا من ألوان غرور المشركين ، كما بين أحوال بعض الناس فى حالتى السراء والضراء فقال - تعالى - :
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب . . . }
قال القرطبي ما ملخصه : الأمة : اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه : فالأمة تكون الجماعة ، كقوله - تعالى - : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس . . } والأمة : أيضا أتباع الأنبياء عليهم السلام ، والأمة : الرجل الجامع للخير الذى يقتدى به ، كقوله - تعالى - { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } والأمة : الدين والملة ، كقوله - تعالى - : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } والأمة : الحين والزمان كقوله - تعالى - : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } والأمة : القامة وهو طول الإِنسان وارتفاعه ، يقال من ذلك : فلان حسن الأمة ، أى القامة ، والأمة : الرجل المنفرد بدينه وحده ، لا يشركه فيه أحد . قال - صلى الله عليه وسلم - " يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده " والأمة : الأم . يقال : " هذه أمة زيد ، أى أم زيد . . . " والمراد بالأمة هنا : الحين والزمان والمدة .
والمعنى : ولئن أخرنا - بفضلنا وكرمنا - عن هؤلاء المشركين " العذاب " المقتضى لجحودهم لآياتنا ، وتكذيبهم لرسلنا " إلى أمة معدودة " أى : إلى وقت ومعين من الزمان على حساب إرادتنا وحكمتنا : " ليقولن " على سبيل التهكم والاستهزاء ، واستعجال العذاب ، " ما يحبسه " أى : ما الذى جعل هذا العذاب الذى حذرنا منه محمد - صلى لله عليه وسلم - محبوسا عنا ، وغير نازل بنا . .
ولا شك أن قولهم هذا ، يدل على بلوغهم أقصى درجات الجهالة والطغيان ، حيث قابلوا رحمة الله - تعالى - المتمثلة هنا فى تأخير العذاب عنهم ، بالاستهزاء والاستعجال ، ولذا رد الله - تعالى - المتمثلة هنا فى تأخير العذاب عنهم ، بالاستهزاء والاستعجال ، ولذارد الله - تعالى - عليهم بقوله : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أى : ألا إن ذلك العذاب الذى استعجلوه واستخفوا به ، يوم ينزل بهم ، لن يصرفه عنهم صارف ، ولن يدفعه عنهم دافع ، بل سيحيط بهم من كل جانب ، بسبب استهزائهم به وإعراضهم عمن حذرهم منه .
واللام فى قوله { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب } موظئة للقسم ، وجواب القسم قوله " ليقولن ما يحبسه " .
والأقرب إلى سياق الآية أن يكون المراد بالعذاب هنا : عذاب الاستئصال الدنيوى ، إذ هو الذى استعجلوا نزوله ، أما عذاب الآخرة فقد كانوا منكرين له أصلا ، كما حكى عنهم - سبحانه - فى الآية السابقة فى قوله : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } قال الآلوسى : والظاهر بأن المراد العذاب الشامل للكفرة ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة قال : لما نزل { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا ، فتناهى القوم قليلا ، ثم عادوا إل أعمالهم السوء : فأنزل الله - تعالى -
{ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فقال أناس من أهل الضلالة : هذا أمر الله - تعالى - قد أتى ، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء ، فأنزل الله هذه الآية .
وفى قوله - سبحانه - { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } إيماء إلى أن تأخير العذاب عنهم ليس لمدة طويلة ، لأن ما يحصره العد : جرت العادة فى أساليب العرب أن يكون قليلا ، ويؤيد ذلك أنه بعد فترة قليلة من الزمان نزل بهم فى غزوة بدر القتل الذى أهلك صناديهم ، والأسر الذى أذل كبرياءهم .
وافتتحت جملة { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } بأداة الاستفتاح { ألا } للاهتمام بمضون الخبر ، وللإِشارة إلى تحقيقه ، وإدخال الروع فى قلوبهم .
وعبر بالماضى { حاق } مع أنه لم ينزل بهم بعد ، للإِشارة ، إلى أنه آت لا ريب فيه ، عندما يأذن الله - تعالى - بذلك .
وقوله : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } يقول تعالى : ولئن أخرنا العذاب والمؤاخذة عن هؤلاء المشركين إلى أجل معدود وأمد محصور ، وأوعدناهم به إلى مدة مضروبة ، ليقولن تكذيبا واستعجالا { مَا يَحْبِسُهُ } أي : يؤخر هذا العذاب عنا ، فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك ، فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد .
و " الأمة " تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة ، فيراد بها : الأمد ، كقوله في هذه الآية : { إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ } وقوله في [ سورة ]{[14507]} يوسف : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، وتستعمل في الإمام المقتدى به ، كقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] ، وتستعمل في الملة والدين ، كقوله إخبارا عن المشركين أنهم قالوا : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، وتستعمل في الجماعة ، كقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ يونس : 47 ] .
والمراد من الأمة هاهنا : الذين يبعث فيهم الرسول{[14508]} مؤمنهم وكافرهم ، كما [ جاء ]{[14509]} في صحيح مسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " {[14510]} .
وأما أمة الأتباع ، فهم المصدقون للرسل ، كما قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وفي الصحيح : " فأقول : أمتي أمتي " .
وتستعمل الأمة في الفرقة والطائفة ، كقوله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] ، وقال تعالى : { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] .
{ ولئن أخّرنا عنهم العذاب } الموعود . { إلى أمّة معدودة } إلى جماعة من الأوقات قليلة . { ليقولنّ } استهزاء . { ما يحبسه } ما يمنعه من الوقوع . { ألا يوم يأتيهم } كيوم بدر . { ليس مصروفا عنهم } ليس العذاب مدفوعا عنهم ، و{ يوم } منصوب بخير { ليس } مقدم عليه وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها . { وحاق بهم } وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة في التهديد . { ما كانوا به يستهزئون } أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون ، فوضع { يستهزئون } موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء .