قوله تعالى : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } ، قال الفراء : معناه : وما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله ، كقوله تعالى : { وما كان لنبي أن يغل } [ آل عمران-161 ] . وقيل : { أن } بمعنى اللام ، أي : وما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله .
قوله تعالى : { ولكن تصديق الذي بين يديه } ، أي : بين يدي القرآن من التوراة والإنجيل . وقيل : تصديق الذي بين يدي القرآن من القيامة والبعث ، { وتفصيل الكتاب } ، تبين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام ، { لا ريب فيه من رب العالمين } .
وبعد أن ساقت السورة الكريمة ألوانا من البراهين الدالة على وحدانية الله - تعالى - ، وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله تعالى ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فتحدت أعداءه أن يأتوا بسورة مثله ، ووصفتهم بالجهالة وسفاهة الرأي ، وصورت أحوالهم ومواقفهم من دعوة الحق تصويرا بليغا . استمع إلى السورة الكريمة وهى تتحدث عن كل ذلك فتقول :
{ وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن . . . }
قال الإِمام ابن كثير " هذا بيان لإِعجاز القرآن ، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ، ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله ؛ لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة ، لا يكون إلا من عند الله - تعالى - الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ولا في أقواله ، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ، ولهذا قال - تعالى - : { وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله } .
والنفي هنا للشأن الذي هو أبلغ في النفى ، وأعمق في الدلالة على أن هذا القرآن من عند الله ، من نفى الشيء في ذاته مباشرة .
أى : وليس من شأن هذا القرآن المعجز ، أن يخترعه أو يختلفه أحد من الإِنس أو الجن أو غيرهما ؛ لأن ما اشتمل عليه من إعجاز وبلاغه وتشريعات حكيمة ، وآداب قويمة ، وهدايات جامعة . . . يشهد بأنه من كلام خالق القوى والقدر .
وقوله : { ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب } بيان لكمال هداية القرآن الكريم ، وهيمنته على الكتب السماوية السابقة .
والمراد بالذي بين يديه : الكتب السابقة على القرآن كالتوراة والإِنجيل والزبور .
وقوله { بَيْنَ يَدَيْهِ } فيه نوع مجاز ؛ لأن ما بين يدى الشيء يكون أمامه ، فوصف - سبحانه - ما مضى من الكتب بأنها بين يدى القرآن لشدة ظهورها واشتهارها ، ومعنى تصديق القرآن للكتب السابقة : تأييده لما اشتملت عليه من دعوة إلى وحدانية الله - تعالى - ، ومن أمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند ظهوره .
وأل في { الكتاب } للجنس ، فالمراد به جنس الكتب السماوية التي أنزلها - سبحانه - على بعض أنبيائه .
والمعنى : ليس من شأن هذا الكتاب في إعجازه وهدايته أن يكون من عند غير الله ، لأن غيره - سبحانه - لا يقدر على ذلك ، ولكن من شأنه أن يكون مؤيداً للكتب السماوية السابقة فيما دعت إليه من إخلاص العبودية لله - تعالى - ومن اتباع لرسله ، وأن يكون مفصلا وموضحا لما اشتملت عليه هذه الكتب من تشريعات وآداب وأحكام .
وقوله { تصديق } منصوب على أنه معطوف على خبير كان ، أو على أنه خبر لكان المقدرة أى : ولكن كان تصديق .
وقوله { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } بيان لمصدره .
أى : هذا الكتاب لا ريب ولا شك في كونه منزلا على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من الله - تعالى - رب العالمين .
وفصلت جملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } عما قبلها لأنها مؤكدة له ، ومقررة لمضمونه .
ونفى - سبحانه - عن القرآن الريب على سبيل الاستغراق : مع وقوع الريب فيه من المشركين ، حيث وصفوه بأنه أساطير الأولين ، لأنه لروعة بيانه ، وسطوع حجته ، ووضوح دلائله ، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحيا سماوياً ، ومصدر هداية وإصلاح فجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } تنفي الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه ، ويقبلوا على النظر فيه بروية ومن ارتاب فيه فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية ، أو بصيرة نافذة أو قلب سليم .
هذا بيان لإعجاز القرآن ، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ، ولا بعشر سور ، ولا بسورة من مثله ، لأنه بفصاحته وبلاغته ووَجازته وحَلاوته ، واشتماله على المعاني العزيزة{[14227]} [ للعزيرة ]{[14228]} النافعة في الدنيا والآخرة ، لا يكون إلا من عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا صفاته ، ولا في أفعاله وأقواله ، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ } {[14229]} أي : مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ، ولا يشبه هذا كلام{[14230]} البشر ، { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المتقدمة ، ومهيمنا عليها ، ومبينا لما وقع فيها من التحريف والتأويل والتبديل .
وقوله : { وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : وبيان الأحكام والحلال والحرام ، بيانًا شافيًا كافيًا حقًا لا مرية فيه من الله رب العالمين ، كما تقدم في حديث الحارث الأعور ، عن علي بن أبي طالب : " فيه خَبَرُ ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وفصل ما بينكم " ، أي : خَبَر عما سلف وعما سيأتي ، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون الله ، يقول : ما ينبغي له أن يتخرَّصه أحد من عند غير الله . وذلك نظير قوله : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ ) [ سورة آل عمران : 161 ] ، بمعنى : ما ينبغي لنبي أن يغلَّه أصحابُه .
وإنما هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه أن ، هذا القرآن من عنده ، أنزله إلى محمد عبده ، وتكذيبٌ منه للمشركين الذين قالوا : " هو شعر وكهانة " ، والذين قالوا : " إنما يتعلمه محمد من يحنّس الروميّ " .
يقول لهم جل ثناؤه : ما كان هذا القرآن ليختلقه أحدٌ من عند غير الله ، لأن ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق ( ولكن تصديق الذي بين يديه ) ، أي : يقول تعالى ذكره : ولكنه من عند الله أنزله مصدِّقًا لما بين يديه ، أي لما قبله من الكتب التي أنزلت على أنبياء الله ، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ( وتفصيل الكتاب ) ، يقول : وتبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفرائضه التي فرضها عليهم في السابق من علمه . يقول : ( لا ريب فيه ) لا شك فيه أنه تصديق الذي بين يديه من الكتاب وتفصيل الكتاب من عند رب العالمين ، لا افتراءٌ من عند غيره ولا اختلاقٌ .
لما كان الغرض الأول في هذه السورة إبطال تعجب المشركين من الإيحاء بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتبيين عدم اهتدائهم إلى آياته البينات الدالة على أنه من عند الله ، وكيف لم ينظروا في أحوال الرسول الدالة على أن ما جاء به وحي من الله ، وكيف سألوه مع ذلك أن يأتي بقرآن غيره أو يبدل آياته بما يوافق أهواءهم . ثم انتقل بعد ذلك إلى سُؤَالهم أن تنزل عليه آية أخرى من عند الله غير القرآن ، وتخلل ذلك كلَّه وصفُ افترائهم الكذب في دعوى الشركاء لله وإقامة الأدلة على انفراد الله بالإلهية وعلى إثبات البعث ، وإنذارهم بما نال الأمم من قبلهم ، وتذكيرهم بنعم الله عليهم وإمهالهم ، وبيان خطئهم في اعتقاد الشرك اعتقاداً مبنياً على سوء النظر والقياس الفاسد ، لا جرم عاد الكلام إلى قولهم في القرآن بإبطال رأيهم الذي هو من الظن الباطل أيضاً بقياسهم أحوالَ النبوءة والوحي بمقياس عاداتهم كما قاسُوا حقيقة الإلهية بمثل ذلك ، فقارعتهم هذه الآيةُ بذكر صفات القرآن في ذاته الدالة على أنه حق من الله وتحدتهم بالإعجاز عن الإتيان بمثله .
فجملة : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله } يجوز أن تكون معطوفة على جملة : { وما يتبع أكثرهم إلا ظناً } [ يونس : 36 ] بمناسبة اتباعهم الظن في الأمرين : شؤون الإلهية وفي شؤون النبوءة ، ويجوز أن تكون معطوفة على مجموع ما تقدم عطف الغرض على الغرض والقصة على القصة ، وهو مفيد تفصيل ما أجمله ذكر الحروف المقطعة في أول السورة والجمل الثلاث التي بعد تلك الحروف . ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة : { قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي } [ يونس : 15 ] تكملة للجواب عن قولهم { ائت بقرآن غير هذا أو بدله } [ يونس : 15 ] وهذا الكلام مسوق للتحدي بإعجاز القرآن ، وهي مفيدة للمبالغة في نفي أن يكون مفترى من غير الله ، أي منسوباً إلى الله كذباً وهو آتتٍ من غيره ، فإن قوله : { ما كان هذا القرآن أن يفترى } أبلغ من أن يقال : ما هو بمفترى ، لما يدل عليه فعل الكون من الوجود ، أي ما وجد أن يفترى ، أي وجوده مناف لافترائه ، فدلالة ذاته كافية في أنه غير مفترى ، أي لو تأمل المتأمل الفطن تأملاً صادقاً في سور القرآن لعلم أنه من عند الله وأنه لا يجوز أن يكون من وضع البشر ، فتركيب ما كان أن يفترى بمنزلة أن يقال : ما كان ليفترى ، بلام الجحود ، فحُذف لام الجحود على طريقة حَذْف الجار اطراداً مع ( أنْ ) ، ولما ظهرت ( أنْ ) هنا حذف لام الجحود وإن كان الغالب أن يذكر لام الجحود وتقدر ( أنْ ) ولا تذكر ، فلما ذكر فعل ( كان ) الذي شأنه أن يذكر مع لام الجحود استغني بذكره عن ذكر لام الجحود قصداً للإيجاز .
وإنما عدل عن الإتيان بلام الجحود بأن يقال : ما كان هذا القرآن ليفترى ، لأن الغالب أن لام الجحود تقع في نفي كون عن فاعل لا عن مفعول بما تدل عليه اللام من معنى الملك .
واعلم أن الإخبار ب { أن } والفعل يساوي الإخبار بالمصدر ، وهو مصدر بمعنى المفعول لأن صلة { أن } هنا فعل مبني للنائب . والتقدير ما كان هذا القرآن افتراءَ مُفتر ، فآل إلى أن المصدر المنسبك من ( أن ) مصدر بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق ، وهو أيضاً أقوى مبالغة من أن يقال : ما كان مفترًى ، فحصلت المبالغة في جهتين : جهة فعل ( كَان ) وجهة ( أن ) المصدرية .
و ( من ) في قوله : { من دون الله } للابتداء المجازي متعلقة ب { يفترى } أي أن يفتريه على الله مفتر . فقوله : { من دون الله } حال من ضمير { يفترى } وهي في قوة الوصف الكاشف .
والافتراء : الكذب ، وتقدم في قوله : { ولكنَّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة [ العقود : 103 ] .
ولما نفي عن القرآن الافتراء أخبر عنه بأنه تصديق وتفصيلٌ ، فجرت أخباره كلها بالمصدر تنويهاً ببلوغه الغاية في هذه المعاني حتى اتحد بأجناسها .
و{ تصديق الذي بين يديه } كونُه مصدقاً للكتب السالفة ، أي مبيّناً للصادق منها ومميزاً له عما زيد فيها وأسيء من تأويلها كما قال تعالى : { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } كما تقدم في سورة [ العقود : 48 ] . وأيضاً هو مصدَّق ( بفتح الدال ) بشهادة الكتب السالفة فيما أخذت من العهد على أصحابها أن يؤمنوا بالرسول الذي يجيء مصدقاً وخاتماً . فالوصف بالمصدر صالح للأمرين لأن المصدر يقتضي فاعلاً ومفعولاً .
والتفصيل : التبيين بأنواعه . والظاهر أن تعريف { الكتاب } تعريف الجنس فيستغرق الكتب كلها . ومعنى كون القرآن تفصيلاً لها أنه مبين لما جاء مجملاً في الكتب السالفة ، وناسخ لما لا مصلحة للناس في دوام حكمه ، ودافع للمتشابهات التي ضل بها أهل الكتاب ، فكل ذلك داخل في معنى التفصيل ، وهو معنى قوله تعالى : { ومهيمناً عليه } في سورة [ العقود : 48 ] . وهذا غير معنى قوله : { وتفصيلَ كل شيء } [ يوسف : 111 ] في الآية الأخرى .
وجملة : { لا ريب فيه } مستأنفة ردت مزاعم الذين زعموا أنه مفترى باقتلاع دعوى افترائه ، وأنها مما لا يروج على أهل الفِطن والعقولِ العادلة ، فالريب المنفي عنه هو أن يكون من أحواله في ذاته ومقارناته ما يثير الريب ، ولذلك كان ريب المرتابين فيه ريباً مزعوماً مدعًى وهو لو راجعوا أنفسهم لوجدوها غير مرتابة . وقد تقدم القول في نظير هذا في طالعة سورة [ البقرة : 2 ] .
وموقع قوله : { من رب العالمين } محتمل وجوهاً أظهرها أنه ظرف مستقر في موضع الخبر عن مبتدإ محذوف هو ضمير القرآن ، والجملة استئناف ثان ، و ( مِن ) ابتدائية تؤذن بالمجيء ، أي هو وارد من رب العالمين ، أي من وحيه وكلامِه ، وهذا مقابل قوله : { من دون الله } .