فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ أَن يُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (37)

قوله : { وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله } لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه ، شرع في تثبيت أمر النبوّة : أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البيّنة ، والبراهين الواضحة ، يفترى من الخلق من دون الله ، وإنما هو من عند الله عزّ وجلّ ، وكيف يصح أن يكون مفترى ، وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لساناً وأدقهم أذهاناً { ولكن } كان هذا القرآن { تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب المنزلة على الأنبياء ، ونفس هذا التصديق معجزة مستقلة ؛ لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ، ولا اتصل بمن له علم بذلك ، وانتصاب تصديق على أنه خبر لكان المقدرة بعد " لكن " ، ويجوز أن يكون انتصابه على العلية لفعل محذوف ، أي لكن أنزله الله تصديق الذي بين يديه . قال الفراء : ومعنى الآية ، وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ، كقوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَغُلَّ } { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } . وقيل : إن { أن } بمعنى اللام ، أي : وما كان هذا القرآن ليفترى . وقيل : بمعنى لا : أي لا يفترى ، قال الكسائي والفراء : إن التقدير في قوله : { ولكن تَصْدِيقَ } ولكن كان تصديق ، ويجوز عندهما الرفع ، أي : ولكن هو تصديق . وقيل : المعنى : ولكن القرآن تصديق { الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب ، أي أنها قد بشرت به قبل نزوله ، فجاء مصدّقاً لها . قيل : المعنى : ولكن تصديق النبيّ الذي بين يدي القرآن ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن . قوله : { وَتَفْصِيلَ الكتاب } عطف على قوله : { ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } فيجيء فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في تصديق ، والتفصيل : التبيين ، أي يبين ما في كتب الله المتقدّمة ، والكتاب للجنس .

وقيل : المراد ما بين في القرآن من الأحكام ، فيكون المراد بالكتاب : القرآن . قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } الضمير عائد إلى القرآن ، وهو داخل في حكم الاستدراك خبر ثالث ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من الكتاب ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لا محلّ لها ، و { مِن ربّ العالمين } خبر رابع : أي كائن من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب ، أو من ضمير القرآن في قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي : كائناً من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون متعلقاً بتصديق وتفصيل ، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } معترضة .

/خ41