الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمَا كَانَ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ أَن يُفۡتَرَىٰ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا رَيۡبَ فِيهِ مِن رَّبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (37)

قوله تعالى : { أَن يُفْتَرَى } : فيه وجهان أحدهما : أنه خبرٌ " كان " تقديرُه : وما كان هذا القرآن افتراء ، أي : ذا افتراء ، إذ جُعِل نفسُ المصدر مبالغةً ، أو يكونُ بمعنى مُفْترى . والثاني : زعم بعضهم أنَّ " أنْ " هذه هي المضمرة بعد لامِ الجحود ، والأصل : وما كان هذا القرآنُ ليُفْترى ، فلمَّا حُذِفَتْ لامُ الجحود ظهرت " أن " . وزعم أن اللامَ و " أنْ " يتعاقبان ، فتُحْذف هذه تارة ، وتَثْبُت الأخرى . وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه ، وعلى هذا القولِ يكون خبر " كان " محذوفاً ، وأنْ وما في حَيِّزها متعلقةٌ بذلك الخبر ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك محرراً . و " مِنْ دون " متعلقٌ ب " يُفْتَرى " والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائد على القرآن .

قوله { وَلَكِن تَصْدِيقَ } " تَصْديق " عطف على خبر كان ، ووقعت " لكن " أحسنَ موقع إذ هي بين نقيضين : وهما التكذيبُ والتصديقُ المتضمِّن للصدق . وقرأ الجمهور " تصديق " و " تفصيلَ " بالنصب وفيه أوجهٌ ، أحدُها : العطف على خبر " كان " وقد تقدَّم ذلك ، ومثله :

{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ } [ الأحزاب : 40 ] . والثاني : أنه خبر " كان " مضمرة تقديره : ولكن كان تصديقَ ، وإليه ذهب الكسائي والفراء وابن سعدان والزجاج . وهذا كالذي قبله في المعنى . والثالث : أنه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدر ، أي : وما كان هذا القرآنُ أن يُفْترى ، ولكن أُنزل للتصديق . والرابع : أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر أيضاً . والتقدير : ولكن يُصَدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب .

وقرأ عيسى بن عمر : " تَصْديقُ " بالرفع ، وكذلك التي في يوسف . ووجهُه الرفعُ على خبر مبتدأ محذوف ، أي : ولكن هو تصديق ، ومثله قوله الشاعر :

2597 ولستُ الشاعرَ السَّفْسَافَ فيهمْ *** ولكن مِدْرَهُ الحربِ العَوانِ

برفع " مِدْرَه " على تقدير : أنا مِدْره . وقال مكي : " ويجوز عندهما أي عند الكسائي والفراء الرفع على تقدير : ولكن هو تصديق " ، قلت : كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة .

وزعم الفراء وجماعةٌ أن العرب إذا قالت : " ولكن " بالواو آثَرَتْ تشديد النون ، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيفَ . وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيفُ . وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيف والتشديد نحو { وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ } [ البقرة : 102 ] { وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [ الأنفال : 17 ] .

قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فيه أوجه أحدها : أن يكون حالاً من " الكتاب " وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنه مفعولٌ في المعنى . والمعنى : وتفصيل الكتاب منتفياً عنه الرَّيْب . والثاني : أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب . والثالث : أنه معترضٌ بين " تصديق " وبين { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } إذ التقديرُ : ولكن تصديق الذين بين يديه مِنْ رب العالمين .

قال الزمخشري : فإن قلت : بم اتَّصَلَ قولُه { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } ؟ قلت : هو داخلٌ في حَيِّز الاستدراك كأنه قيل : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ كائناً من رب العالمين . ويجوز أن يراد به " ولكن كان تصديقاً من رب العالمين [ وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك ، فيكون من رب العالمين ] متعلقاً ب " تصديق " و " تفصيل " ويكون { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراضاً كما تقول : زيدٌ لا شكَّ فيه كريم " انتهى .

قوله : { مِن رَّبِّ } يجوز فيه أوجهٌ أحدُها : أن يكونَ متعلقاً ب " تصديق " أو ب " تفصيل " ، وتكون المسألة من باب التنازع ؛ إذ يَصِحُّ أَنْ يتعلَّقَ بكلٍ من العاملين من جهة المعنى . وهذا هو الذي أراد الزمخشري بقوله : " فيكون " مِنْ رب " متعلِّقاً ب " تصديق " و " تفصيل " يعني أنه متعلقٌ بكلٍ منهما من حيث المعنى . وأمَّا من حيث الإِعرابُ فلا يتعلَّق إلا بأحدهما ، وأمَّا الآخرُ فيعمل في ضميره كما تقدَّم تحريره غيرَ مرة ، والإِعمالُ هنا حينئذ إنما هو للثاني بدليلِ الحَذْفِ من الأول . والوجه الثاني : أنَّ " مِنْ رب " حال ثانية . والثالث : إنه متعلقٌ بذلك الفعلِ المقدرِ ، أي : أُنْزِل للتصديق من ربَّ العالمين .