قوله تعالى : { اليوم أحل لكم الطيبات } ، يعني : الذبائح على اسم الله عز وجل .
قوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } . يريد ذبائح اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم ، فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته ، ولو ذبح يهودي ، أو نصراني ، على اسم غير الله ، كالنصراني يذبح باسم المسيح ، فاختلفوا فيه ، قال عمر : لا يحل ، وهو قول ربيعة ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل . وهو قول الشعبي ، وعطاء ، والزهري ، ومكحول ، سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا : يحل ، فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم ، و هو يعلم ما يقولون . وقال الحسن : إذا ذبح اليهودي ، أو النصراني فذكر اسم غير الله و أنت تسمع فلا تأكله ، فإذا غاب عنك فكل ، فقد أحل الله لك .
قوله تعالى : { وطعامكم حل لهم } . فإن قيل : كيف شرع لهم حل طعامنا وهم كفار ليسوا من أهل الشرع ؟ قال الزجاج : معناه حلال لكم أن تطعموهم ، فيكون خطاب الحل مع المسلمين ، وقيل : لأنه ذكر عقيبه حكم النساء ، ولم يذكر حل المسلمات لهم ، فكأنه قال : حلال لكم أن تطعموهم . حرام عليكم أن تزوجوهم .
قوله تعالى : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، هذا راجع إلى الأول منقطع عن قوله : { وطعامكم حل لهم } . اختلفوا في معنى المحصنات : فذهب أكثر العلماء إلى أن المراد منهن الحرائر ، وأجازوا نكاح كل حرة ، مؤمنة كانت أو كتابية ، فاجرة كانت أو عفيفة ، وهو قول مجاهد . وقال هؤلاء : لا يجوز للمسلم نكح الأمة الكتابية ، لقوله تعالى : { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } [ النساء : 25 ] جوز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة ، وجوز أكثرهم نكاح الأمة الكتابية الحربية ، وقال ابن عباس : لا يجوز ، وقرأ { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] ، فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه ، ومن لم يعطها فلا يحل لنا نساؤه . وذهب قوم إلى أن المراد من المحصنات في الآية العفائف من الفريقين ، حرائر كن أو إماء ، وأجازوا نكاح الأمة الكتابية ، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات ، وهو قول الحسن ، وقال الشعبي : إحصان الكتابية أن تستعف من الزنا وتغتسل من الجنابة .
قوله تعالى : { إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين } . غير معالنين بالزنا . قوله تعالى : { ولا متخذي أخدان } . أي : غير مسرين تسرونهم بالزنا . قال الزجاج : حرم الله الجماع على جهة السفاح ، وعلى جهة اتخاذ الصديقة ، وأحله على جهة الإحصان ، وهو التزوج .
قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } ، قال ابن حيان : يقول ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر ، أو يغني عنهن شيئاً ، وهي للناس عامة : ( ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } . قال ابن عباس ومجاهد في معنى قوله تعالى : { ومن يكفر بالإيمان } أي : بالله الذي يجب الإيمان به . وقال الكلبي : ( بالإيمان ) أي : بكلمة التوحيد ، وهي : شهادة أن لا أله إلا الله . وقال مقاتل : بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ، وقيل : ( من يكفر بالإيمان ) أي : يستحل الحرام ، ويحرم الحلال ، فقد حبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين . قال ابن عباس : خسر الثواب .
ثم حكى - سبحانه - جانباً آخر من مظاهر نعمه على عباده ، ورحمته بهم وتيسيره عليهم في أمور دينهم ودنياهم فقال :
{ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات . . . }
قوله : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ } . يصح أن يراد به اليوم الذي نزلت فيه . فإنه يجوز أن تكون هذه الآية وما قبلها من قوله - تعالى - { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } قد نزلت جميعها في يوم واحد وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع .
ويصح أن يراد به الزمان الحاضر مع ما يتصل به من الماضي والمستقبل . والراد بالطيبات : ما يستطاب ويشتهي مما أحله الشرع .
والمراد بطعام الذين أوتوا الكتاب : ذبائحهم خاصة . وهذا مذهب جمهور العلماء .
قالوا : لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب ، وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة . ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح . فحمل هذه الآية عليه أولى ، لأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره . وإنما تختلف الذكاة . فلما خص أهل الكتاب بالذكر ، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم .
وقيل المراد بطعام أهل الكتاب هنا : الخبز والحبوب والفاكهة وغير ذلك مما لا يحتاج إلى تذكية . وينسب هذا القول إلى بعض طوائف الشيعة .
وقيل المراد به : ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة . وقد روى هذا القول عن ابن عباس ، وأبي الدرداء ، وقتادة ومجاهد وغيرهم .
والمراد بالذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى .
ال الآلوسي : وحكم الصابئين كحكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة . وقال صاحباه الصائبة صنفان : صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرأون كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .
واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله - كعزير وعيسى - فقال ابن عمر : لا تحل . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل . وهو قول الشعبي وعطاء قالا : " فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون " .
والمعنى : إن الله أسبغ عليكم نعمه - أيها المؤمنون - وأكمل لكم دينه ، ويسر لكم شرعه ، ومن مظاهر ذلك أنه - سبحانه - أحل لكم التمتع بالطيبات ، كما أحل لكم أن تأكلوا من ذبائح أهل الكتاب . وأن تطعموهم من طعامكم .
قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن ذبائحهم حلال للمسلمين ، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه - تعالى وتقدس - .
وإنما قال : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح عن المناكحة .
فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين ، بخلاف إباحة المنكاحات فإنها في جانب واحد ، إذ لا يحل لغير المسلم أن يتزوج بمسلمة ، لأنه لو جاز ذلك لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن ، والله - تعالى - لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا ، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظوراً .
قال بعض العلماء : والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم ، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح ، والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص ، وأما غير الذبائح فهو قسمان :
القسم الأول : ما لا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر وهو حلال بالاتفاق .
والقسم الثاني : ما لهم يه عمل وهو قسمان - أيضاً - أحدهما ، ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات وهذا قد اختلف فيه الفقهاء . فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة ، ومن هؤلاء : ابن عباس ، لأن احتمال النجاسة ثابت ، وهو يمنع الحل . وقد تبع هذا الرأي بعض المالكية ، ومن هؤلاء الطرطوسي وقد صنف في تحريم جبن النصارى ويجري مجرى الجبن الزيت ، وعلى هذا الرأي يجري مجراها السمن الهولاندي وما شابهه . ولكن الجمهور على جواز ذلك ما دام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة ، والثاني : المحرم ، وهو ما ثبت أنه قد دخله أجزاء من الخمر أو الميتة ، أو الخنزير ، أو غير ذلك من المحرمات .
ثم بين - سبحانه - حكم نكاح نساء أهل الكتاب بعد بيان حكم ذبائحهم فقال { والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } .
وقوله : { والمحصنات } عطف على { الطيبات } وهو جمع محصنة .
والإِحصان يطلق على معان منها : الإِسلام . ولا موضع له هنا لأن الكلام في غير المسلمات ، ويطلق على التزوج ، ولا موضع له هنا - أيضاً - لأنه لا يحل تزوج ذات الزوج .
ويطلق على العفة وعلى الحرية وهذان المعنيان هما المختاران هنا .
فمن الفقهاء من قال : المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا العفيفات ويكون الوصف للترغيب في طلف العفة ، والعمل على اختيار من هذه صفتها .
ومنهم من قال : المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا : الحرائر أي أنه لا يحل الزواج بنساء أهل الكتاب إلا إذا كن حرائر .
والمراد بقوله { أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن . وعبر عن المهر بالأجر لتأكيد وجوبه . وعدم الاستهانة بأي حق من حقوقهن .
وقوله : محصنين - بكسر الصاد - أي متعففين بالزواج عن اقتراب الفواحش .
يقال أحصن الرجل فهو محصن أي : تعفف فهو متعفف وأحصن بالزواج الرجل فهو محصن - بفتح الصاد - أي : أعفه بالزواج عن الوقوع في الفاحشة .
وقوله { مُسَافِحِينَ } جمع مسافح . والسفاح . الزنا . يقال : سافح الرجل المرأة إذا ارتكب معها فاحشة الزنا ، وسمى الزاني مسافحاً .
لأنه سفح ماءه أي : صبه ضائعاً .
وقوله : { أَخْدَانٍ } جمع خدان - بكسر الخاء وسكون الدال - بمعنى الصديق . ويطلق على الذكر والأنثى .
والمراد بالخدن هنا . المرأة البغي التي يخادنها الرجل أي يصادقها ليرتكب معها فاحشة الزنا . وغالبا ما تكون خاصة به .
والمعنى : وكما أحل الله لكم - أيها المؤمنون - الطيبات من الرزق ، وأحل لكم ذبائح أهل الكتاب ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، فقد أحل لكم - أيضاً - نكاح المحصنات من المؤمنات . أي العفيفات الحرائر لأنهن أصون لعرضكم . وأنقى لنطفكم ، وأحل لكم نكاح النساء المحصنات أيِ : الحرائر العفيفات { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أي : من اليهود والنصارى .
قال الآلوسي : وتخصيص المحصنات بالذكر في الموضعين ، للحث على ما هو الأولى والأليق ، لا لنفي ما عداهن ، فإن نكاح الإِماء المسلمات بشرطه ، صحيح بالاتفاق . وكذا نكاح غير العفائف منهن . وأما الإِماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم " .
وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : مهورهن ، وهي عوض عن الاستمتاع بهن .
وقالوا : وهذا الشرط بيان للأكمل والأولى لا لصحة العقد ، إذ لا تتوقف صحة العقد على دفع المهر ، إلا أن الأولى هو إيتاء الصداق قبل الدخول .
وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } أمر لهم بالعفة والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن . وقوله { مُحْصِنِينَ } حال في فاعل { آتَيْتُمُوهُنَّ } .
وقوله : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } صفة لمحصنين ، أو حال من الضمير المستتر في محصنين .
وقوله : { وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } يحتمل أن يكون مجروراً على أنه عطف على مسافحين ، وزيدت فيه " لا " لتأكيد النفي المستفاد من لفظ غير . ويحتمل أن يكون منصوباً على أنه عطف على { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } .
والمعنى : أبحنا لكم الزواج بالكتابيات المحصنات لتشكروا الله - تعالى - على تيسيره لكم فيما شرع ، ولتطلبوا من وراء زواجكم العفة والبعد عن الفواحش ، والصون لأنفسكم ولأنفس أزواجكم عن انتهاك حرمات الله في السر أو العلن .
وقدم - سبحانه - المحصنات من المؤمنات على المحصنات من الذين أوتوا الكتاب للتنبيه على أن المحصنات من المؤمنات أحق باختيار الزواج بهن من غيرهن ، وأن المحصنة المؤمنة الزواج بها أولى وأجدر وأحسن من الزواج بالمحصنة الكتابية .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } .
أي : ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله ، أي : خاب سعيه . وفسد عمله الذي عمله . وهو في الآخرة من الهالكين الذين ضيعوا ما عملوه في الدنيا من أعمال بسبب انتهاكهم لحرمات الله وأحكام دينه .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة : الترهيب من مخالفة أوامر الله والترغيب في طاعته - سبحانه - .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من الآية الكريمة .
1 - إباحة التمتع بالطيبات التي أنعم بها - سبحانه - على عباده ، ولم يرد نص بحرمتها .
2 - إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب وإباحة إطعامهم من طعامنا .
3 - الترغيب في نكاح المرأة المحصنة أي التي أحصنت نفسها عن الفواحش وصانتا عن كل ريبة واعتصمت بالعفاف والشرف ، وكان سلوكها المستقيم دليلا على أنها متمسكة بتعاليم دينها . وبالآداب الحميدة التي جاءت بها شريعة الإِسلام .
وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى ، ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
ومعنى ( تربت يداك ) : افتقرت وندمت إن لم تبحث عن ذات الدين ، وتجعلها محط طلبك للزواج بها .
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن امرأتي لا تمنع يد لامس . قال صلى الله عليه وسلم : " غربها - أي طلقها - " . قال : أخاف أن تتبعها نفسي - أي : أرتكب معها ما نهى الله عنه بعد طلاقها - قال صلى الله عليه وسلم : " فاستمتع بها " أي أبقها مع المحافظة عليها .
4 - إباحة نكاح النساء الكتابيات - وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، لأن هذا هو الظاهر من معى قوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } .
قال ابن كثير : وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى ، وقد قال الله - تعالى - { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } فحجز الناس عنهن حتى نزلت : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } فنكح الناس نساء أهل الكتاب .
وقد تزود جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية ، وجعلوها مخصصة للتي في سورة البقرة وهي قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها . وإلا فلا معارضة بينها وبينها ؛ لأن أهل الكتاب انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع . كقوله - تعالى - { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } وقال بعض العلماء ما ملخصه : قوله - تعالى - : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أخذه الجمهور على عمومه ، فأباحوا التزوج من أهل الكتاب وإن غيروا وبدلوا ، ذميين كانوا أو حربيين . وقيد جماعة بالذميين دون الحربيين .
وذهب جماعة من السلف إلى أن أهل الكتاب قد غيروا أو بدلوا وعبدوا المسيح .
وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة . فهم بذلك والمشركون في العقيدة سواء وقد حرم الله التزوج من المشركات ونسب هذا الرأي إلى عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة .
وتأولوا الآية بوجوه أقر بها أنها رخصة خاصة في الوقت الذي نزلت فيه . قال عطاء : إنما رخص الله في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت ؛ لأنه كان في المسلمات قلة . أما الآن ففيهن الكثرة العظيمة ، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة .
والذي نراه في المسألة أنه ليس في الآية ما يدل على أنه رخصة ، ولا نعلم في الشريعة ما يدل على أنه رخصة . والآية دالة على الإِباحة المطلقة ، ولم تقيد بوقت خاص ، ولا بحالة خاصة .
نعم إن ما نراه اليوم في بعض المسلمين من رغبة التزوج بنساء الإِفرنج لا لغاية سوى أنها إفرنجية . ثم يضع نفسه وأولاده تحت تصرفها فتنشئهم على تقاليدها وعاداتها التي تأباها تعاليم الإِسلام .
نعم إن ما نراه من كل ذلك يجعلنا نوجب على الحكومات التي تدين بالإِسلام وتغار على قوميتها وشعائرها . . أن تمنع من التزوج بالكتابيات ، وأن تضع حدا لهؤلاء الذين ينسلخون عن قوامتهم على المرأة . حفاظاً على مبادئ الدين وعلى عقيدة أولاد المسلمين .
وإن العمل على تقييد هذا احلكم في التشريع الإِسلامي أو منعه ، لألزم وأوجب مما تقوم به بعض الحكومات الإِسلامية ، أو تحاول أن تقوم به ، من تحديد سن الزواج للفتاة . وتقييد تعدد الزوجات ، وتقييد الطلاق ، وما إلى ذلك من التشريعات التي ينشط لها كثير من رجال الحكم ، سيراً وراء مدنية الغرب المظلمة .
ألا وإن انحلال الكثرة الغالبة ممن يميلون إلى التزوج بالكتابيات للمعاني التي أشرنا إليها لمما يوجب الوقوف أمام هذه الإِباحة التي أصبحت حالتنا لا تتفق والغرض المقصود منها .
وهذا معىن تشهد به كليات الدين وقواعده التي يتجلى فيها شدة حرصه على حفظ شخصية الأمة الإِسلامية ، وعدم انحلالها وفنائها في غيرها .
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث ، وما أحله لهم من الطيبات ، قال بعده : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }
ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى ، فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ } قال ابن عباس ، وأبو أمامة ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعِكْرِمة ، وعَطاء ، والحسن ، ومَكْحول ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حيَّان : يعني ذبائحهم .
وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء : أن ذبائحهم حلال للمسلمين ؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم ، تعالى وتقدس . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مُغَفَّل قال : دُلِّي بجراب من شحم يوم خيبر . [ قال ]{[9181]} فاحتضنته{[9182]} وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدًا ، والتفتُّ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم . {[9183]}
فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناولُ ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة ، وهذا ظاهر . واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل{[9184]} ما يعتقد اليهود تحريمه{[9185]} من ذبائحهم ، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم . فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله ؛ لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } قالوا : وهذا ليس من طعامهم . واستدل عليهم{[9186]} الجمهور بهذا الحديث ، وفي ذلك نظر ؛ لأنه قضية عين ، ويحتمل أنه كان شحما يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما ، والله أعلم .
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح : أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مَصْليَّة ، وقد سَمّوا ذراعها ، وكان يعجبه الذراع ، فتناوله فنَهَشَ منه نَهْشةً ، فأخبره الذراع أنه مسموم ، فلَفَظَه وأثر ذلك السم في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبْهَرِه ، وأكل معه منها بشر بن البراء بن مَعْرور ؛ فمات ، فقتل اليهودية التي سمتها ، وكان اسمها زينب ، فقتلت ببشر بن البراء . {[9187]}
ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا .
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنَخَة ، يعني : ودَكا زنخا{[9188]}
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على العباس بن الوليد بن مَزْيَد ، أخبرنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان بن المنذر ، عن مكحول قال : أنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ثم نسخها الرب ، عز وجل ، ورحم المسلمين ، فقال : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب .
وفي هذا الذي قاله مكحول ، رحمه الله ، نظر ، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحةُ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم ، وهم متعبدون بذلك ؛ ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم ، لأنهم لم يذكروا اسم الله على ذبائحهم ، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة ، بل يأكلون الميتة ، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ، ومن تَمَسّك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء ، على أحد قولي العلماء ، ونصارى العرب كبني تَغْلِب وتَنُوخ وبَهْرَاء وجُذام ولَخْم وعَاملة ومن أشبههم ، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور .
[ و ]{[9189]} قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أيوب ، عن{[9190]} محمد بن عَبِيدة قال : قال علي : لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب ؛ لأنهم{[9191]} إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر .
وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف .
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، والحسن ؛ أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب .
وأما المجوس ، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم{[9192]} لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ! يعني في هذه المسألة ، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سُنوا بهم سنة أهل الكتاب " ، {[9193]} ولكن لم يثبت بهذا اللفظ ، وإنما الذي في صحيح البخاري : عن عبد الرحمن بن عوف ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مَجوس هَجَر{[9194]} ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فدل بمفهومه - مفهوم المخالفة - على أن طعام من عداهم من أهل الأديان{[9195]} لا يحل{[9196]}
وقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } أي : ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ، وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم ، اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه ، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها . والأول أظهر في المعنى ، أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم . وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة ، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مات ودفنه فيه ، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه ، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك ، فأما{[9197]} الحديث الذي فيه : " لا تَصْحَبْ إلا مُؤْمِنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي " {[9198]} فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم .
وقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات ، وذكر هذا توطئة لما بعده ، وهو قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم } فقيل :{[9199]} أراد بالمحصنات : الحرائر دون الإماء ، حكاه ابن جرير عن مجاهد . وإنما قال مجاهد : المحصنات : الحرائر ، فيحتمل{[9200]} أن يكون أراد ما حكاه عنه ، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة ، كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه . وهو{[9201]} قول الجمهور هاهنا ، وهو الأشبه ؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة ، فيفسد حالها بالكلية ، ويتحصل زوجها على ما قيل{[9202]} في المثل : " حَشفَا{[9203]} وسَوء كيلة " . {[9204]} {[9205]} والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات : العفيفات عن الزنا ، كما قال في الآية الأخرى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] .
ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هل يعم كل كتابية عفيفة ، سواء كانت حرة أو أمة ؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ، ممن فسر المحصنة بالعفيفة . وقيل : المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات ، وهو مذهب الشافعي . وقيل : المراد بذلك : الذميات دون الحربيات ؛ لقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ[ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ] } [ التوبة : 29 ] {[9206]}
وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ، ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } الآية [ البقرة : 221 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب ، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المُزَنِيّ - حدثنا إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي مالك الغفاري ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فنكح الناس [ من ]{[9207]} نساء أهل الكتاب .
وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا ، أخذا بهذه الآية الكريمة : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فجعلوا{[9208]} هذه مخصصة للآية التي البقرة : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ الآية : 221 ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها ، وإلا فلا معارضة بينها وبينها{[9209]} ؛ لأن أهل الكتاب قد يُفْصَل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع ، كما قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] وكقوله{[9210]} { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } الآية [ آل عمران : 20 ] ، وقوله : { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي :{[9211]} مهورهن ، أي : كما هن محصنات عفائف ، فابذلوا لهن المهور{[9212]} عن طيب نفس . وقد أفتى جابر بن عبد الله ، وإبراهيم النخعي ، وعامر الشعبي ، والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها : أنه يفرق بينه وبينها ، وتَرُدّ عليه ما بذل لها من المهر . رواه ابن جرير عنهم . .
وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } فكما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة - عن الزنا كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا ؛ ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وهم : الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ، { وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } أي : ذوي العشيقات الذين{[9213]} لا يفعلون إلا معهن ، كما تقدم في سورة النساء سواء ؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البَغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف ، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا ؛ لهذه الآية وللحديث الآخر : " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله . " {[9214]}
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشّار ، حدثنا سليمان بن حَرْب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ]{[9215]} لقد هممت ألا أدع أحدًا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة . فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب . {[9216]}
وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى [ إن شاء الله تعالى ]{[9217]} عند قوله : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
{ الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلّ لّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتّخِذِيَ أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : اليَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّباتُ : اليوم أحلّ لكم أيها المؤمنون الحلال من الذبائح والمطاعم ، دون الخبائث منها . قوله : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ وذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل ، وأنزل عليهم ، فدانوا بهما أو بأحدهما حِلّ لَكُمْ يقول : حلال لكم أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام ، فإن من لم يكن منهم ممن أقرّ بتوحيد الله عزّ ذكره ودان دين أهل الكتاب ، فحرام عليكم ذبائحهم .
ثم اختلف فيمن عنى الله عزّ ذكره بقوله : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابِ من أهل الكتاب ، فقال بعضهم : عنى الله بذلك ذبيحة كلّ ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل ، أو ممن دخل في ملتهم فدان دينهم وحرّم ما حرّموا وحلل ما حللوا منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد ، قال : خَصيف ، قال : حدثنا عكرمة ، قال : سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب ، فقرأ هذه الاَية : يا أيها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ . . . إلى قوله : وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ . . . الاَية .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عثمة ، قال : حدثنا سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن الحسن وعكرمة : أنهما كانا لا يريان بأسا بذبائح نصارى بني تغلب وبتزوّج نسائْهم ، ويتلوان : وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن وسعيد بن المسيب : أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن الشعبيّ : أنه كان لا يرى بأسا بذبائح نصارى بني تغلب ، وقرأ : وَما كانَ رَبكَ نَسِيّا .
حدثني ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : ثني ابن شهاب عن ذبيحة نصارى العرب ، قال : تؤكل من أجل أنهم في الدين أهل كتاب ، ويذكرون اسم الله .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا ابن جريج : قال : قال عطاء : إنما يقرءون ذلك الكتاب .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سألت الحكم وحمادا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب ، فقالوا : لا بأس بها . قال : وقرأ الحكم : وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتابَ إلاّ أمانِيّ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن عطاء بن السائب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كلوا من ذبائح بني تغلب ، وتزوّجوا من نسائهم ، فإن الله قال في كتابه : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَتّخِذُوا اليَهُودَ وَالنّصَارَى أوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلّهُمْ مِنْكُمْ فإنّهُ مِنْهُمْ فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة : أن الحسن كان لا يرى بأسا بذبائح نصارى بني تغلب ، وكان يقول : انتحلوا دينا فذاك دينهم .
وقال آخرون : إنما عَنَى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الاَية ، الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل ، من بني إسرائيل وأبنائهم ، فأما من كان دخيلاً فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل ، فلم يُعْنَ بهذه الاَية وليس هو ممن يحلّ أكل ذبائحه لأنه ليس ممن أوتى الكتاب من قَبْل المسلمين . وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعيّ يقوله حدثنا بذلك عنه الربيعّ ويتأوّل في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين . ذكر من حرّم ذبائح نصارى العرب :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، عن عبيدة قال : قال عليّ رضوان الله عليه : لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب ، فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن عليّ ، قال : لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب ، فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا عبد الله بن بكر ، قال : حدثنا هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألت عليّا عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : لا تؤكل ذبائحهم ، فإنهم لم يتعلقوا من دينهم إلا بشرب الخمر .
حدثني علي بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عليّ بن عابس ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري ، قال : نهانا عليّ عن ذبائح نصارى العرب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حمزة القصاب ، قال : سمعت محمد بن عليّ يحدثّ عن عليّ : أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب وذبائح نصارى أرمينية .
وهذه الأخبار عن عليّ رضوان الله عليه ، إنما تدلّ على أنه كان ينهي عن ذبائح نصارى بني تغلب من أجل أنهم ليسوا على النصرانية ، لتركهم تحليل ما تحلل النصارى وتحريم ما تحرّم غير الخمر . ومن كان منتحلاً ملة هو غير متمسك منها بشيء ، فهو إلى البراءة منها أقرب إلى اللحاق بها وبأهلها ، فلذلك نهى عليّ عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب ، لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل . فإذا كان ذلك كذلك ، وكان إجماعا من الحجة إحلال ذبيحة كلّ نصرانيّ ويهوديّ ، إن انتحل دين النصاري أو اليهود ، فأحلّ ما أحلوا ، وحرّم ما حرّموا من بني إسرائيل كان أو من غيرهم ، فبّين خطأ من قال الشافعي في ذلك وتأويله الذي تأوّله في قوله : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ : أنه ذبائح الذين أوتوا الكتاب التوراة والإنجيل من بني إسرائيل ، وصواب ما خالف تأويله ذلك ، وقول من قال : إن كل يهوديّ ونصرانيّ فحلال ذبيحته من أيّ أجناس بني آدم كان .
وأما الطعام الذي قال الله : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ فإنه الذبائح . وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ قال : الذبائح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : وَطَعامُ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ قال : ذبائحهم .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم وقبيصة ، قالا : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي ، عن أبي سنان ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَطَعامُ الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ قال : ذبيحة أهل الكتاب .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ قال : ذبائحهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان عن المغيرة ، عن إبراهيم ، بمثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم وقبيصة ، قالا : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم مثله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ قال : ذبائحهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا المعلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، عن يونس ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ : أي ذبائحهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتاب حِلّ لَكُمْ أما طعامهم فهو الذبائح .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَطَعامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلّ لَكُمْ قال : أحلّ الله لنا طعامهم ونساءهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس أما قوله : وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُوا الكِتاب حِلّ لَكُمْ فإنه أحلّ لنا طعامهم ونساءهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سألته يعني ابن يزيد عما ذُبح للكنائس وسُمي عليها فقال : أحلّ الله لنا طعام أهل الكتاب ، ولم يستثن منه شيئا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية ، عن أبي الزاهرية حدير بن كريب ، عن أبي الأسود ، عن عمير بن الأسود : أنه سأل أبا الدرداء عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها جرجس أهدوه لها ، أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء : اللهمّ عفوا إنهم هم أهل كتاب ، طعامهم حلّ لنا وطعامنا حلّ لهم . وأمره بأكله .
وأما قوله وَطَعامُكُمْ حِلّ لَهُمْ فإنه يعني : ذبائحكم أيها المؤمنون حلْ لأهل الكتاب .
القول في تأويل قوله تعالى : والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِنات والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتَابَ أُوتُوا مِنْ قَبْلِكُمْ إذا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِناتِ أحلّ لكم أيها المؤمنون المحصنات من المؤمنات وهنّ الحرائر منهنّ أن تنكحوهنّ . والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني : والحرائر من الذين أعطوا الكتاب ، وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وسائر الناس ، أن تنكحوهنّ أيضا إذا آتَيْتُمُوهُنّ أجُورَهُنّ يعني : إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتكم ومحصناتهم أجورهنّ ، وهي مهورهن .
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهنّ الله عزّ ذكره بقوله : والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِين أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ فقال بعضهم : عني بذلك الحرائر خاصة ، فاجرة كانت أو عفيفة . وأجاز قائلوا هذه المقالة نكاح الحرّة مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى من أيّ أجناس كانت ، بعد أن تكونَ كتابية فاجرة كانت أو عفيفة ، وحرّموا إماء أهل الكتاب أن نتزوّجهنّ بكل حال لأن الله جلّ ثناؤه شرط من نكاح الإماء الإيمان بقوله : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو داود ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَالمُحْصَنات مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ قال : من الحرائر .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : والمُحْصَنات مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : من الحرائر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : إن رجلاً طلق امرأته وخطبت إليه أخته ، وكانت قد أحدثت ، فأتى عمر فذكر ذلك له منها ، فقال عمر : ما رأيتَ منها ؟ قال : ما رأيت منها إلاّ خيرا فقال : زوّجها ولا تُخْبر .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد ، قال : حدثنا سليمان الشيبانيّ ، قال : حدثنا عامر ، قال : زَنَت امرأة من هَمْدان ، قال : فجلدها مصدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدّ ، ثم تابت . فأتَوا عمر ، فقالوا : نزوّجها وبئس ما كان من أمرها قال عمر : لئن بلغني أنكم ذكرتم شيئا من ذلك لأعاقبنكم عقوبة شديدة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب : أن رجلاً أراد أن يزوّج أخته ، فقالت : إني أَخْشَى أن أفضح أبي ، فقد بغيت . فأتى عمر فقال : أليس قد تابت ؟ قال : بلى . قال : فزوّجها .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي : أن نبيشة امرأة من همدان بغت ، فأردات أن تذبح نفسها ، قال : فأدركوها فداووها فبرئت ، فذكروا ذلك لعمر ، فقال : أنكحوها نكاح العفيفة المسلمة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر : أن رجلاً من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة ، فأمرت الشفرة على أوداجها ، فأدركت ، فدُووي جرحها حتى برئت . ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة ، فقرأت القرآن ونسكت ، حتى كانت من أنسك نسائهم . فخطبت إلى عمها ، وكان يكره أن يدلّسها ، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه ، فأتى عمر ، فذكر ذلك له ، فقال عمر : لو أفشيت عليها لعاقبتك ، إذ أتاك رجل صالح ترضاه فزوّجها إياه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر : أن جارية باليمن يقال لها نبيشة ، أصابت فاحشة ، فذكر نحوه .
حدثنا تميم بنننن المنتصر ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا إسماعيل عن عامر ، قال : أتى رجل عمر فقال : إن ابنة لي كانت وُئدت في الجاهلية ، فاستخرجتها قبل أن تموت ، فأدركت الإسلام ، فلما أسلمت أصابت حدّا من حدود الله ، فعمدت إلى الشفرة لتذبح بها نفسها ، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها ، فداويتها حتى برئت ، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة ، فهي تخطب إليّ يا أمير المؤمنين ، فأُخبر من شأنها بالذي كان ؟ فقال عمر : أتخبر بشأتها ؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبدينه والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس ، لأجعلنك نكالاً لأهل الأمصار بل أنكحها بنكاح العفيفة المسلمة .
حدثنا أحمد بن منيع ، قال : حدثنا مروان ، عن إسماعيل ، عن الشعبيّ ، قال : جاء رجل إلى عمر . فذكر نحوه .
حدثنا مجاهد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا يحيى بن سعيد ، عن أبي الزبير : أن رجلاً خطب من رجل أخته ، فأخبره أنها قد أحدثت . فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فضرب الرجل ، وقال : مالك والخبر ؟ أنكح واسكت
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن الحسن ، قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوّج محصنة . فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب
وقال آخرون : إنما عنى الله بقوله : والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ : العفائف من الفريقين ، إماءكنّ أو حرائر . فأجاز قائلو هذه المقالة نكاح إماء أهل الكتاب الدائنات دينهم بهذه الاَية ، وحرّموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : العفائف .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير عن مطرف ، عن عامر : والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أوتوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : إحصان اليهودية والنصرانية : أن لا تزني وأن تغتسل من الجنابة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، عن عامر : والمُحْصَناتُ مَنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : إحصان اليهودية والنصرانية : أن تغتسل من الجنابة ، وأن تحصن فرجها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن مطرف ، عن رجل ، عن الشعبيّ في قوله : والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : إحصان اليهودية والنصرانية : أن لا تزني ، وأن تغتسل من الجنابة .
حدثنا المثنى قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن مطرّف ، عن الشعبي في قوله : والمحصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : إحصانها أن تغتسل من الجنابة ، وأن تحصن فرجها من الزنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا معلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، قال : أخبرنا مطرف عن عامر ، بنحوه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، قال : سمعت سفيان يقول في قوله : والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ قال : العفائف .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال : أما المحصنات : فهنّ العفائف .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت : تأوّلت كتاب الله : وما ملكت أيمانكم . قال : فَأُتِيَ بها عمر بن الخطاب ، فقال له ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : تأوّلت آية من كتاب الله على غير وجهها . قال : فقرب العبد وجزّ رأسه ، وقال : أنت بعده حرام على كلّ مسلم .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم : أنه قال في التي تسرى قبل أن يُدخل بها ، قال : ليس لها صداق ويفرّق بينهما .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا أشعث ، عن الشعبيّ في البكر تهجر ، قال : تضرب مائة سوط ، وتنفي سنة ، وتردّ على زوجها ما أخذت منه .
حدثنا حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا أشعث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، مثل ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا أشعث ، عن الحسن ، مثل ذلك .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس أن الحسن كان يقول : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي ميسرة ، قال : مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم .
ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عزّ ذكره : والمُحْصَنات مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أعامّ أم خاصّ ؟ فقال بعضهم : هو عامّ في العفائف منهنّ ، لأن المحصنات العفائف ، وللمسلم أن يتزوّج كلّ حرّة وأمة كتابية حربية كانت أو ذمية . واعتلوا في ذلك بظاهر قوله تعالى : والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وأن المعنيّ بهنّ العفائف كائنة من كانت منهن . وهذا قول من قال : عني بالمحصنات في هذا الموضع : العفائف .
وقال آخرون : بل اللواتي عنى بقوله جلّ ثناؤه : والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ : الحرائر منهنّ ، والاَية عامة في جميعهنّ ، فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز ، حربيات كنّ أو ذميات ، من أيّ أجناس اليهود والنصارى كنّ وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب والحسن : أنهما كانا لا يريان بأسا بنكاح نساء اليهود والنصارى ، وقالا : أحله الله على علم .
وقال آخرون منهم : بل عني بذلك : نكاح بني إسرائيل الكتابيات منهنّ خاصة دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية . وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله .
وقال آخرون : بل ذلك معنىّ به نساء أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمة وعهد ، فأما أهل الحرب فإن نساءهم حرام على المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن عقبة ، قال : حدثنا الفزاري ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : من نساء أهل الكتاب من يحلّ لنا ، ومنهم من لا يحل لنا . ثم قرأ : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ ولا يُحَرّمُونَ ما حَرّم اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُون دِينَ الحَقّ مِنْ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ فمن أعطي الجزية حلّ لنا نساؤه ، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه . قال الحكم : فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه .
وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال : عني بقوله : والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ حرائر المؤمنين وأهل الكتاب ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرار في الحال التي أباحهنّ لهم إلاّ أن يكنّ مؤمنات ، فقال عزّ ذكره : وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أن يَنْكحَ المُحْصَناتِ المُؤمِناتِ فَمِمّا مَلَكَتْ أيمَانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُؤمِناتِ فلم يبح منهنّ إلاّ المؤمنات ، فلو كان مرادا بقوله : والمُحْصَناتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ : العفائف ، لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة ، وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان . وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات ، وإن كنّ قد أتين بفاحشة بقوله : وأنْكحُوا الأيامَى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وإمائكم ، وقد دللنا على فساد قول من قال : لا يحلّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين في موضع غير هذا بما أغني عن إعادته في هذا الموضع ، فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين ، كنّ قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة ، ذمية كانت أو حربية ، بعد أن تكون بموضع لا يخاف الناكح فيه على ولده أن يجبر على الكفر ، بظاهر قول الله جلّ وعزّ : والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِناتِ والمُحْصَناتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ . فأما قول الذي قال : عنى بذلك نساء بني إسرائيل الكتابيات منهن خاصة ، فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه لشذوذه والخروح عما عليه علماء الأمة من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى . وقد دللنا على فساد قول قائل هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا الموضع بما فيه الكفاية فكرهنا إعادته .
وأما قوله : إذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ فإن الأجر : العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها ، وهو المهر . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس في قوله : آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ يعني مهورهنّ .
القول في تأويل قوله تعالى : مُحْصِنِينَ غيرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتّخِذِي أخْدَانٍ . يعني بذلك جلّ ثناؤه : أحلّ لكم المحصنات من المؤمنات ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان . ويعني بقوله جلّ ثناؤه : مُحْصِنِين : أعفاء غيرَ مُسافِحِينَ يعني : لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة وهو الفجور وَلا مُتخِذِي أخْدَانٍ يقول : ولا منفردين ببغية واحدة قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها . وقد بينا معنى الإحصان ووجوهه ومعنى السفاح والخدن في غير هذا الموضع بما أغني عن إعادته في هذا الموضع وهو كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مُحْصِنِينَ غيرَ مُسافِحِينَ يعني : ينكحوهن بالمهر والبينة ، غَيْر مُسَافِحِينَ متعالنين بالزنا ، وَلا مُتّخِذِي أخْدَانٍ يعني : يُسِرّون بالزنا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : أحلّ الله لنا محصنتين : محصنة مؤمنة ، ومحصنة من أهل الكتاب وَلا مُتّخِذِي أخْدَانٍ ذات الخدن : ذات الخليل الواحد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سليمان بن المغيرة ، عن الحسن ، قال : سأله رجل : أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب ؟ قال : ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات ؟ فإن كان لا بد فاعلاً ، فليعمد إليها حصانا غير مسافحة . قال الرجل : وما المسافحة ؟ قال : هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينه اتبعته .
القول في تأويل قوله عزّ ذكره : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به من توحيد الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به من عند الله ، وهو الإيمان الذي قال الله جلّ ثناؤه : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ يقول : فقد بطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا ، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله . وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخاسرِينَ يقول : وهو في الاَخرة من الهالكين الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد وعملهم بغير طاعة الله . وقد ذكر أن قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ عُني به أهل الكتاب ، وأنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل قوم تحرجّوا نكاح نساء أهل الكتاب لما قيل لهم : أُحِلَ لَكُمُ الطّيّباتُ وطَعَامُ الذّين أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌ لَكُمْ وطَعَامُكُمْ حِلٌ لَهُمْ والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ والمُحصَنَاتُ مِنَ الّذين أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر بنا أن ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوّج نساءهم يعني نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا ؟ فأنزل الله عزّ ذكره : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الخاسِرِينَ فأحلّ الله تزويجهنّ على علم .
وبنحو الذي قلنا في تأويل الإيمان قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قال : بالإيمان بالله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن واصل ، عن عطاء : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ قال : الإيمان : التوحيد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ قال : بالله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد في قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قال : من يكفر بالله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ قال : من يكفر بالله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ قال : الكفر بالله .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قال : أخبر الله سبحانه أن الإيمان هو العروة الوثقى ، وأنه لا يقبل عملاً إلاّ به ، ولا يحرّم الجنة إلاّ على من تركه .
فإن قال لنا قائل : وما وجّه تأويل من وجّه قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بالإيمَانِ إلى معنى : ومن يكفر بالله ؟ قيل وجه تأويله ذلك كذلك أن الإيمان هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه والكفر : جحود ذلك . قالوا : فمعنى الكفر بالإيمان ، هو جحود الله وجحود توحيده . ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها ، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التلاوة .
فإن قال قائل : فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها ؟ قيل : تأويلها : ومن يأب الإيمان بالله ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه ، فقد حبط عمله وذلك أن الكفر هو الجحود في كلام العرب ، والإيمان : التصديق والإقرار ، ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به فهو من الكافرين ، فذلك تأويل الكلام على وجهه .
{ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } .
يجيء في التقييد ( باليوم ) هنا ما جاء في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } [ المائدة : 3 ] وقولِه : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] ، عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم ، فلا يجيء هنا ، لأنّ إحلال الطيّبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرّماً ، ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كليّة ، فيكون كقوله : { ورَضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] في تعلّق قوله : { اليوم } به ، كما تقدّم .
ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله { اليوم يئسَ } [ المائدة : 3 ] و { اليوم أكملت } [ المائدة : 3 ] أنّ هذا أيضاً منّة كبرى لأنّ إلقاء الأحكام بصفة كلّيّة نعمة في التفقّه في الدين .
والكلام على الطيّبات تقدّم آنفاً ، فأعيدَ ليُبنى عليه قوله : { وطعام الذين أتوا الكتاب } . وعطفُ جملة { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } على جملة { اليومَ أحلّ لكم الطيّبات } لأجل ما في هذه الرخصة من المنّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم .
والطعام في كلام العرب ما يطعَمه المرء ويأكله ، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة ، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح . قال ابن عطية : الطعام الذي لا محاولة فيه كالبُرّ والفاكهة ونحوهما لا يغيّره تملّك أحد له ، والطعام الذي تقَع فيه محاولة صنعته لا تعلّق للدين بها كخَبز الدقيق وعصر الزيت . فهذا إن تُجنِّبَ من الذميّ فعلى جهة التقذّر . والتذكية هي المحتاجة إلى الدّين والنية ، فلمَّا كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمّة وأخرجها عن القياس . وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا ، ولهذا قال كثير من العلماء : أراد الله هنا بالطعام الذبائح ، مع اتّفاقهم على أنّ غيرها من الطعام مباح ، ولكن هؤلاء قالوا : إنّ غير الذبائح ليس مراداً ، أي لأنّه ليس موضع تردّد في إباحة أكله . والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كلّ طعام قد يظن أنَّه محرّم علينا إذ تدخله صنعتهم ، وهم لا يتَوَقَّوْنَ ما نتوقّى ، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه . ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح .
و { الذين أوتوا الكتاب } : هم أتباع التوراة والإنجيل ، سواء كانوا ممّن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتّباع الدين ، أم كانوا ممّن اتّبعوا الدينيين اختياراً ؛ فإنّ موسى وعيسى ودعَوا بني إسرائيل خاصّة ، وقد تهوّد من العرب أهل اليمن ، وتنصّر من العرب تغلب ، وبهراء ، وكلب ، ولخم ، ونَجران ، وبعض ربيعة وغسّان ، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليّا بن أبي طالب فإنه قال : لا تحلّ ذبائح نصارى تغلب ، وقال : إنّهم لم يتمسّكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر .
وقال القرطبي : هذا قول الشافعي ، وروى الربيع عن الشافعي : لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب . وعن الشافعي : من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمّدية فهو من أهل الكتاب ، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلاّ الإسلام ، ولا تقبل منه الجزية ، أي كالمشركين .
وأمَّا المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع ، فلا تؤكل ذبائحهم ، وشذّ من جعلهم أهل كتاب . وأمَّا المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف .
وحِكمة الرخصة في أهل الكتاب : لأنّهم على دين إلهي يُحرّم الخبَائث ، ويتقي النجاسة ، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متّبعة لا تظنّ بهم مخالفتها ، وهي مستندة للوحي الإلهي ، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان . وأمّا المجوس فلهم كتاب لكنّه ليس بالإلهي ، فمنهم أتباع ( زَرَادشْت ) ، لهم كتابُ ( الزندفستا ) وهؤلاء هم محلّ الخلاف . وأمّا المجوس ( المَانَويَّة ) فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان ، أو هم شرّ منهم . وقد قال مالك : ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتّقون النجاسة . وفي « جامع الترمذي » : أنّ أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس . فقال له : " أنْقُوها غسلاً واطبخوا فيها " وفي البخاري : أنّ أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آنِيَة أهل الكتاب . فقال له : " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثمّ كلوا فيها " قال ابن العربي : « فغسل آنية المجوس فرض ، وغسل آنية أهل الكتاب ندب » . يُريد لأنّ الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم ، وإنَّما يسري الشكّ إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه ، ولم يبح لنا طعام المجوس ، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين .
ثم الطعامُ الشامل للذكاة إنّما يعتبر طعاماً لهم إذاكانوا يستحلّونه في دينهم ، ويأكله أحبارهم وعلماؤهم ، ولو كان ممّا ذكر القرآنُ أنَّه حرّمه عليهم ، لأنَّهم قد تأوّلوا في دينهم تأويلات ، وهذا قول مالك . وأرى أنّ دليله : أنّ الآية عمّمت طعامهم فكان عمومها دليلاً للمسلمين ، ولا التفات إلى ما حكَى الله أنّه حرّمه عليهم ثم أباحه للمسلمين ، فكان عموم طعامهم في شرعنا مُباحاً ناسخاً للمحرّم عليهم ، ولا نصِيرُ إلى الاحتجاج « بشرع من قبلنا . . . » إلاّ إذا لم يكن لنا دليل على حُكمهِ في شرعنا . وقيل : لا يؤكل ما علِمْنا تحريمه عليهم بنصّ القرآن ، وهو قول بعض أهل العلم ، وقيل به في مذهب مالك ، والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم ؛ لأنّ الله ذكر أنه حرّم عليهم الشحوم .
ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرّمه الله علينا بعينه : كالخنزير والدم ، ولا ما حرّمه علينا بوصفه ، الذي ليس بذكاة : كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وأكيلة السبع ، إذا كانوا هم يستحلّون ذلك ، فأمَّا ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفةَ تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محلّ نظر كالمضروبة بمحدّد على رأسها فتموت ، والمفتولة العنق فتتمزّق العروق ، فقال جمهور العلماء : لا يؤكل .
وقال أبو بكر ابن العربي من المالكية : تؤكل . وقال في « الأحكام » : فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطْم الرأس فالجواب : أنّ هذه ميتة ، وهي حرام بالنصّ ، وإن أكلوها فلا نأكلها نحْن ، كالخنزير فإنّه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا يريد إباحته عند النصارى ثم قال : ولقد سُئِلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها ؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاماً منه ، فقلت : تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقاً وكلّ ما يرونه في دينهم فإنّه حلال لنا في ديننا » . وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي ، وإنّما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم ، والأوداج ولو بالخنق ، وبين نحو الخنق لحبس النفَس ، ورَضّ الرأس وقول ابن العربي شذوذ .
وقوله : { وطعامكم حلّ لهم } لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة بذكر { وطعامكم حلّ لهم } . والذي أراه أنّ الله تعالى نبّهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم ، فأباح لنا طعامهم ، وأباح لنا أن نُطعمهم طعَامنا ، فعُلم من هذين الحكمين أنّ علّة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم ، وذلك أيضاً تمهيد لقوله بعد : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } لأنّ ذلك يقتضي شدّة المخالطة معهم لتزوّج نسائهم والمصَاهرة معهم .
{ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } .
عُطف { والمحصنات من المؤمنات } على { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } عطفَ المفرد على المفرد . ولم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة لذكر حِلّ المحصنات من المؤمناتتِ في أثناء إباحة طعام أهل الكتاب ، وإباحةِ تزوّج نسائهم . وعندي : أنّه إيماء إلى أنَّهنّ أولى بالمؤمنين من محصنات أهل الكتاب ، والمقصودُ هو حكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فإنّ هذه الآية جاءت لإباجة التزوّج بالكتابيات . فقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } عطف على { وطعام الذين أوتُوا الكتاب حلّ لكم } . فالتقدير : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم .
والمُحصنات : النسوة الّلاءِ أحْصَنَهُنّ ما أحْصَنَهُنّ ، أي منعهنّ عن الخنا أو عن الريب ، فأطلق الإحصان : على المعصومات بعصمة الأزواج كما في قوله تعالى في سورة النساء ( 24 ) عطفاً على المحرّمات { المحصنات من النساء } ؛ وعلى المسلمات لأنّ الإسلام وَزَعَهن عن الخنا ، قال الشاعر :
وأطلق على الحرائر ، لأنّ الحرائر يترفّعن عن الخنا من عهد الجاهلية . ولا يصلح من هذه المعاني هنا الأوّل ، إذ لا يحلّ تزوّج ذات الزوج ، ولا الثاني لقوله : { من المؤمنات } الذي هو ظاهر في أنّهنّ بعض المؤمنات فتعيّن معنى الحرية ، ففسّرها مالك بالحرائر ، ولذلك منع نكاح الحرّ الأمةَ إلاّ إذا خشي العنت ولم يجد للحرائر طَوْلا ، وجوّز ذلك للعبد ، وكأنّه جعل الخطاب هنا للأحرار بالقرينة وبقرينة آية النساء ( 25 ) { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات } وهو تفسير بيِّن ملتئم . وأصل ذلك لعمر بن الخطاب ومجاهد . ومن العلماء من فسّر المحصنات هنا بالعفائف ، ونقل عن الشعبي وغيره ، فمنعوا تزوّج غير العفيفة من النساء لرقّة دينها وسوء خلقها .
وكذلك القول في تفسير قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أي الحرائر عند مالك ، ولذلك منع نكاح إماء أهل الكتاب مطلقاً للحرّ والعبد . والذين فسّروا المحصنات بالعفائف منعوا هنا ما منعوا هناك .
وشمل أهلُ الكتاب : الذمّييّن ، والمعاهدين ، وأهل الحرب ، وهو ظاهر ، إلاّ أنّ مالكاً كره نكاح النساء الحربيّات ، وعن ابن عبّاس : تخصيص الآية بغير نساء أهل الحرب ، فمنع نكاح الحربيات . ولم يذكروا دليله .
والأجور : المهور ، وسمَّيت هنا ( أجوراً ) مجازاً في معنى الأعْواض عن المنافع الحاصلة من آثار عُقدة النكاح ، على وجه الاستعارة أوْ المجاز المرسل . والمَهْر شِعار متقادم في البشر للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة . ولو كانت المهور أجوراً حقيقة لوجب تحْديد مدّة الانتفاع ومقدارِه وذلك مِمَّا تنزّه عنه عقدة النكاح .
والقول في قوله : { محصنات غير مسافحين ولا متخذي أخدان } كالقول في نظيره { محصنات غير مسافحات } [ النساء : 25 ] تقدّم في هذه السورة .
وجملة { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } معترضة بين الجمل . والمقصود التنبيه على أنّ إباحة تزوّج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم ، ولكن ذلك تيسير على المسلمين . وقد ذُكر في سبب نزولها أنّ نساء أهل الكتاب قلن « لولا أنّ الله رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا » . والمرادُ بالإيمان الإيمانُ المعهود وهو إيمان المسلمين الذي بسببه لُقّبوا بالمؤمنين ، فالكفر هنا الكفر بالرسل ، أي : ينكر الإيمان ، أي ينكر ما يقتضيه الإيمان من المعتقدات ، إذ الإيمان صار لَقباً لمجموع ما يجب التصديق به .
والحبْط بسكون الموحّدة والحُبوط : فساد شيء كان صالحاً ، ومنه سمّي الحَبَط بفتحتين مرض يصيب الإبل من جرّاء أكل الخَضِر في أوّل الربيع فتنتفخ أمعاؤها وربما ماتت . وفعل ( حَبِط ) يؤذن بأنّ الحابط كان صالحاً فانقلب إلى فساد . والمراد من الفساد هنا الضياع والبطلان ، وهو أشدّ الفساد ، فدلّ فعل ( حبِط ) على أنّ الأعمال صالحة ، وحُذف الوصف لدلالة الفعل عليه . وهذا تشبيه لضياع الأعمال الصالحة بفَساد الذواتِ النافعة ، ووجه الشبه عدم انتفاع مكتسبها منها . والمراد ضياع ثوابها وما يترقّبه العامل من الجزاء عليها والفوْز بها .
والمراد التحذير من الارتداد عن الإيمان ، والترغيبُ في الدخول فيه كذلك ، ليعلم أهل الكتاب أنّهم لا تنفعهم قرباتهم وأعمالهم ، ويعلم المشركون ذلك .