قوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ، فإذا غلبوا أو غُلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ، فيفشون ويحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيضعفون به قلوب المؤمنين ، فأنزل الله تعالى { وإذا جاءهم } يعني : المنافقين { أمر من الأمن } أي : الفتح والغنيمة ، { أو الخوف } القتل والهزيمة ، ( أذاعوا به ) أشاعوه وأفشوه . قوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول } إلى رأيه ، ولم يحدثوا به حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به .
قوله تعالى : { وإلى أولي الأمر منهم } ، أي : ذوي الرأي من الصحابة مثل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم .
قوله تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ، أي : يستخرجونه ، وهم العلماء ، أي : علموا ما ينبغي أن يكتم وما ينبغي أن يفشى ، والاستنباط : الاستخراج . يقال : استنبط الماء إذا استخرجه . وقال عكرمة : ( يستنبطونه ) أي : يحرصون عليه ويسألون . وقال الضحاك : يتبعونه ، يريد الذين سمعوا تلك الأخبار من المؤمنين والمنافقين ، لو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ذوي الرأي والعلم ، { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي يحبون أن يعلموه على حقيقته كما هو .
قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } ، كلكم .
قوله تعالى : { إلا قليلاً } ، فإن قيل : كيف استثنى القليل ولولا فضله لاتبع الكل الشيطان ؟ قيل : هو راجع إلى ما قبله ، قيل : معناه أذاعوا به إلا قليلاً لم يفشه ، وعنى بالقليل المؤمنين ، وهذا قول الكلبي ، واختيار الفراء ، وقال : لأن علم السر إذا ظهر علمه المستنبط وغيره ، والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض ، قيل : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلاً ، ثم قوله : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } كلام تام . وقيل : فضل الله الإسلام ، ورحمته : القرآن ، يقول : لولا ذلك لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً ، وهم قوم اهتدوا قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونزول القرآن ، مثل : زيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وجماعة سواهما . وفي الآية دليل على جواز القياس ، فإن من العلم ما يدرك بالتلاوة ، والرواية ، وهو النص ، ومنه ما يدرك بالاستنباط ، وهو القياس على المعاني المودعة في النصوص .
ثم حكى القرآن بعد ذلك مسلكا آخر من المسالك الذميمة التى عرفت عن المنافقين وضعفاء النفوس فقال - تعالى - { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } .
والمراد بالأمر هنا : الخبر الذى يكون له أثر إذا أشيع وأذيع .
وقوله { أَذَاعُواْ بِهِ } أى نشروه وأشاعوه . يقال : أذاع الخبر وأذاع به أفشاه وأعلنه .
والمعنى : أن هؤلاء الذين فى قلوبهم مرض إذا سمعوا شيئا من الآخبار التى تتعلق بأمن المسلمين أو خوفهم أذاعواها وأظهروها قبل أن يقفوا على حقيقتها .
قال الآلوسى : والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين ، أو لبيان جناية الضعفاء أثر بيان جناية المنافقين ، وذلك أنهم كانوا إذا غزت سرية من المسلمين قالوا عنها : أصاب المسلمون من عدوهم كذا . وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا من غير أن يكون النبى صلى الله عليه وسلم هو الذى يخبرهم به . وقيل : كان الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين .
ثم بين - سبحانه - ما كان يجب عليهم فعله فقال - : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
والمراد بأولى الأمر : كبار الصحابة البصراء بالأمور . وقيل المراد بهم : الولاة وأمراء السرايا .
ويستبطونه أى يستخرجونه . والاستنباط - كما يقول القرطبى - مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته . والنبط : الماء المستنبط أول ما يخرج من ماء البئر أول ما تحفر . وسمى النبط نبطا لأنهم يستخرجون ما فى الأرض .
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين وضعاف الإِيمان كان من شأنهم وحالهم أنهم إذا سمعوا شيئا من الأمور فيه أمن أو خوف يتعلق بالمؤمنين أشاعوه وأظهروه بدون تحقق أو تثبت ، بقصد بليلة الأفكار ، واضطراب حال المؤمنين ، ولو أن هؤلاء المنافقين ومن يستمعون إليهم ردوا ذلك الخبر الذى جاءهم والذى أشاعوا بدون تثبت ، لو أنهم ردوه الى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى كبار الصحابة البصراء فى الأمور : { لَعَلِمَهُ } أى لعلم حقيقة ذلك الخبر { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ } أى : الذين يستخرجونه ويستعملونه ويتطلبونه وهم المنافقون المذيعون للأخبار { مِنْهُمْ } أى : من الرسول وأولى الأمر .
أى : لو أن أولئك المنافقين وأشباههم الذين يستخرجون الأخبار ويذيعونها بغير تثبت سكتوا عن إذاعتها وردوا الأمر فى شأنها إلى الرسول وإلى كبار أصحابه ، لو أنهم فعلوا ذلك لعلموا من جهة الرسول وجهة كبار أصحابه حقيقة تلك الأخبار ، وما يجب عليهم نحوها من كتمان أو إذاعة .
وعلى هذا يكون الضمير فى قوله { مِنْهُمْ } فى الموضعين يعود إلى الرسول وإلى أولى الأمر .
ويكون المراد بالذين يستنبطونه : المنافقون وضعاف الإِيمان الذين يذيعون الأخبار ويكون فى الكلام إظهار فى مقام الإِضمار ؛ حيث قال : سبحانه - { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولم يقل لعلموه منهم ، وذلك لزيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام ، وللمبالغة فى ذمهم على بجثهم وراء الأخبار الخفية الهامة واستنباطها وتطلبها ثم إذاعتها بقصد الإِضرار بمصلحة المسلمين .
وقد ذكر الفخر الرازى فى المراد بالذين يستنطبونه وجها آخر فقال :
وفى قوله { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قولان :
الأول : أنهم أولئك المنافقون المذيعون .
والتقدير : لو أن هؤلاء المنافقين المذيعين للأخبار ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولى الأمر ، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم ، لعلمه الذين يستنطبونه وهم هؤلاء المنافقون المذيعون { مِنْهُمْ } أى من جانب الرسول ومن جانب أولى الأمر .
والقول الثانى : أنهم طائفة من أولى الأمر . والتقدير : ولو أن المنافقين ردوا إلى الرسول وإلى أولى الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولى الأمر ، وذلك لأن أولى الأمر فريقان : بعضهم من يكون مستنبطا ، وبعضهم من لا يكون كذلك . فقوله { مِنْهُمْ } يعنى لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولى الأمر .
فإن قيل : إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الاخبار إلى الرسول وإلى المؤمنين هم المنافقون فكيف جعل أولى الأمر منهم فى قوله { وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ } ؟ قلنا : إنما جعل أولى الأمر منهم على حسب الظاهر . لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون . ونظيره قوله - تعالى - : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } ثم ختم - سبحانه - الآية ببيان فضله على عباده فقال { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } .
أى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم - أيها المؤمنون - بتوفيقه إياكم إلى الخير والطاعة ، لوقعتم فى إغواء الشيطان كما وقع هؤلاء المنافقون وأشباههم ، إلا عددا قليلا منكم وهم الذين أخلصوا دينهم لله واعتصموا به فصاروا لا سبيل للشيطان عليهم كما قال - تعالى - { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } هذا . ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب عدم إذاعة الأخبار - خصوصها فى حالات الحرب - إلا بعد التأكد من صحتها ومن عدم إضرارها بمصلحة المسلمين .
وفى ذلك يقول الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة . وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " .
وفى الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال . أى : الذى يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين .
وفى الصحيح " من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " .
وفى سنن أبى داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مطية الرجل زعموا " .
وقد عدد الفخر الرازى المضار التى تعود على الأمة بسبب إذاعة الأخبار بدون تثبت فقال : وكان سبب الضرر من إذاعة هذه الأخبار من وجوه :
الأول : أن مثل هذه الإِرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير .
الثاني : أنه إذا كان ذلك الخبر فى جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة . فإذا لم توجد فيه تلك الزيادات ، أورث ذلك شبهة للضعفاء فى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المنافقين كانوا يروون هذه الإِرجافات عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وإن كان ذلك فى جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ، ووقعوا عنده فى الحيرة والاضطراب ، فكانت تلك الإِرجافات سببا للتفنة من هذا الوجه .
الثالث : أن الإِرجاف سبب لتوفير الدواعى على البحث الشديد والاستقصاء التام . وذلك سبب لظهورا لأسرار . وذلك ما لا يوافق المصحلة .
الرابع : أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار . فكل ما كان أمنا لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثانى . فإن قوع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم . أرجف المنافقون بذلك ، فوصل الخبر إلى الكفار فأخذوا فى التحصن من المسلمين . وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا فى ذلك وزادوا فيه . فظهر من ذلك أن ذلك الإِرجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه . ولما كان الأمر كذلك ذم الله - تعالى - تلك الإِذاعة وذلك التشهير ومنعهم منه .
وقال الشيخ محمد المنير - الذى عاصر الحروب الصليبية - معلقا على هذه الآية : ( فى هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع وكفى به كذبا ؛ وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء العداوة ، والمقيمن فى نحر العدو . وما أعظم المفسدة فى لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم خيرا أو غيره . ولقد جربنا ذلك فى زماننا هذا منذ طرق العدو المخذول البلاد - طهرها الله منه وصانها من رجسه ونجسه ، وعجل للمسلمين الفتح وأنزل عليهم السكينة والنصر ) .
والخلاصة ، أن إذاعة الأخبار بدون تثبت - خصوصا فى أوقات الحروب تؤدى إلى أعظم المفاسد والشرور ، لأنها إن كانت تتعلق بالأمن فإنها قد تحدث لونا من التراخى وعدم أخذ الحذر ، وإن كانت تتعلق بالخوف فإنها قد تحدث بلبلة واضطرابا فى الصفوف .
والمجتمع الذى يكثر فيه العقلاء الفطناء هو الذى تقل فيه إذاعة الأخبار إلا من مصادرها الأصلية ، وهو الذى يرجع أفراده فى معرفة الحقائق إلى العلماء المتخصصين .
وهكذا نرى الآية الكريمة تغرس فى نفوس المؤمنين أسمى ألوان الإِخلاص لدينهم ودولتهم وقيادتهم ، فهى فى مطلعها تنكر عليهم إذاعة الاخبار بدون تحقق من صدقها ومن فائدتها ، وفى وسطها تأمرهم بأن يرجعوا إلى حقائق دينهم وإلى الحكام العادلين ، والعلماء المخصلين الذين يعرفون الأمور على وجهها ليسألوهم عما يريدون معرفته ، وفى آخرها تذكرهم بفضل الله عليهم ورحمته بهم حتى يداوموا على طاعته ، ويشكروه على نعمه .
وبعد هذا الحديث الحكيم عن أحوال المنافقين وضعفاء الإِيمان ، وعن تباطئهم عن الجهاد وإشاعتهم للأخبار بدو تثبت ، بعد كل ذلك أمر الله - تعالى - نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يستمر فى قتاله للمشركين ، وأن يحرض أصحابه على ذلك ، كما أرشد - سبحانه - المؤمنين إلى طائفة من مكارم الأخلاق التى تقوى رابطتهم فقال - تعالى - : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ . . . . مِنَ الله حَدِيثاً } .
وقوله : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة .
وقد قال مسلم في " مقدمة صحيحه " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا شعبة ، عن خبيب{[7935]} بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع " وكذا رواه أبو داود في كتاب " الأدب " من سننه ، عن محمد بن الحسين بن إشكاب ، عن علي بن حفص ، عن شعبة مسندًا{[7936]} ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري ، وعبد الرحمن بن مهدي . وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن خُبَيب{[7937]} عن حفص بن عاصم ، به مرسلا{[7938]} .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت ، ولا تَدبُّر ، ولا تبَيُّن{[7939]} .
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه " .
وفي الصحيح : " من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن " . {[7940]} ويذكر{[7941]} هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه ، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه ، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ قال : " لا " . فقلت الله أكبر . وذكر الحديث{[7942]} بطوله .
وعند مسلم : فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .
ومعنى قوله : ( يستنبطونه ) أي : يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها{[7943]} .
ومعنى قوله : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المؤمنين .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } يعني : كلكم . واستشهد من نصر هذا القول . بقول الطرماح بن حكيم ، في مدح يزيد بن المُهَلَّب :
أشَمَّ{[7944]} كثير يُدَيِّ النوال{[7945]}*** قليل المَثَالب والقَادحة{[7946]}
{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِه } وإذا جاء هذه الطائفة المبيتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من الأمن . فالهاء والميم في قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ } من ذكر الطائفة المبيتة . يقول جلّ ثناؤه : وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوّهم بغلبتهم إياهم { أو الخَوْفِ } يقول : أو تخّوفهم من عدوّهم بإصابة عدوّهم منهم { أذَاعُوا بِهِ } يقول : أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم . والهاء في قوله : { أذَاعُوا بِهِ } من ذكر الأمر وتأويله : أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم ، يقال : منه أذاع فلان بهذا الخبر وأذاعه ، ومنه قول أبي الأسود :
أذَاعَ بِه في النّاسِ حتى كأنّهُ ***بعَلْياءَ نارٌ أُوقِدَتْ بثَقُوبِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : سارعوا به وأفشوه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوّهم ، أو أنهم خائفون منهم ، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوّهم أمرهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : أفشوه وشنعوا به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } قال : هذا في الأخبار إذا غزت سرية من المسلمين خُبّر الناس عنها ، فقالوا : أصاب المسلمون من عدوّهم كذا وكذا ، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا . فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم به . قال ابن جريج : قال ابن عباس : قوله { أذَعُوا بِهِ } قال : أعلنوه وأفشوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أذَاعُوا بِهِ } قال : نشروه . قال : والذين أذاعوا به قوم ، إما منافقون ، وإما آخرون ضعفاء .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أفْشَوْه وشنعوا به ، وهم أهل النفاق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ولو ردّوه : الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أولي أمرهم ، يعني : وإلى أمرائهم ، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر ، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذوو أمرهم هم الذين يقولون الخبر عن ذلك ، بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بُطُوله ، فيصححوه إن كان صحيحا ، أو يبطلوه إن كان باطلاً . { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يقول : لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به الذين يبحثون عنه ، ويستخرجونه منهم ، يعني : أولي الأمر . والهاء والميم في قوله : { مِنْهُمْ } من ذكر أولي الأمر . يقول : لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه . وكل مستخرج شيئا كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب ، فهو له مستنبط ، يقال : استنبطت الركية : إذا استخرجت ماءها ، ونَبَطتها أنبطها ، والنبط : الماء المستنبط من الأرض ، ومنه قول الشاعر :
قَرِيبٌ ثراهُ ما يَنالُ عَدُوّهُ ***لَهُ نَبَطا آبي الهَوَانِ قَطُوبُ
يعني بالنبط : الماء المستنبط .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } يقول : ولو سكتوا وردّوا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وإلى أولى أمرهم حتى يتكلم هو به ، { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } يعني عن الأخبار ، وهم الذين ينقّرون عن الأخبار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } يقول : إلى علمائهم ، { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } لعلمه الذين يَفْحصُون عنه ، ويهمهم ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ } حتى يكون هو الذي يخبرهم ، { وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } : أولي الفقه في الدين والعقل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } : يتتبعونه ويتحسسونه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا ليث ، عن مجاهد : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قال : الذين يسألون عنه ويتحسسونه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { يَسْتَنْبِطُونَهُ } قال : قولهم : ما كان ؟ ماذا سمعتم ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { الّذِينَ يسْتَنبِطونَهُ } قال : يتحسسونه .
حدثني محمد بن سيعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يقول : لعلمه الذين يتحسسونه منهم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قال : يتتبعونه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ أذَاعُوا بِه } . . . حتى بلغ : { وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } قال : الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر أصدق أم كذب ؟ أباطل فيبطلونه ، أو حقّ فيحقونه ؟ قال : وهذا في الحرب ، وقرأ : { أذَاعُوا بِهِ وَلَوْ } فعلوا غير هذا و{ رَدّوهُ } إلى الله و{ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } . . . الاَية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولولا إنعام الله عليكم أيها المؤمنون بفضله وتوفيقه ورحمته ، فأنقذكم مما ابتلى هؤلاء المنافقين به ، الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : طاعة ، فإذا برزوا من عنده بيّت طائفة منهم غير الذي تقول ، لكنتم مثلهم ، فاتبعتم الشيطان إلا قليلاً ، كما اتبعه الذين وصف صفتهم . وخاطب بقوله تعالى ذكره : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ } الذين خاطبهم بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } .
ثم اختلف أهل التأويل في القليل الذي استثناهم في هذه الاَية ، من هم ، ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم ؟ فقال بعضهم : هم المستنبطون من أولي الأمر ، استثناهم من قوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ونفي عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : إنما هو لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، إلا قليلاً منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم . وأما قوله : { إلاّ قَلِيلاً } فهو كقوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } إلا قليلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } قال : يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم¹ وأما { إلاّ قَلِيلاً } فهو كقوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . . إلاّ قَلِيلاً } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج نحوه ، يعني نحو قول قتادة ، وقال : لعلموه إلا قليلاً .
وقال آخرون : بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة ، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا . ومعنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، إلا قليلاً منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ } فانقطع الكلام ، وقوله : { إلاّ قَلِيلاً } فهو في أوّل الاَية يخبر عن المنافقين ، قال : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ } إلا قليلاً ، يعني بالقليل المؤمنين ، يقول الحَمْدُ لله الّذِي أنْزَلَ الكِتَابَ عدلاً قِيما ، ولم يجعل له عوجا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هذه الاَية مقدمة ومؤخرة ، إنما هي : أذاعوا به إلا قليلاً منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير .
وقال آخرون : بل ذلك استثناء من قوله : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ } وقالوا : الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الاَخرون همّوا به من اتباع الشيطان ، فعرّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم ، واستثنى الاَخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الاَخرين . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } قال : هم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان ، إلا طائفة منهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا . قالوا : وقوله : { إلاّ قَلِيلاً } خرج مخرج الاستثناء في اللفظ ، وهو دليل على الجميع والإحاطة ، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة ، فجعل قوله : { إلاّ قَليلاً } دليلاً على الإحاطة . واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب :
أشمّ كثيرُ يَدِيّ النّوال ***ِقليلُ المَثالِبِ والقادِحَهْ
قالوا : فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب ، ومعلوم أن معناه : أنه لا مثالب فيه ولا معايب¹ لأن من وصف رجلاً بأن فيه معايب وإن وصف الذي فيه المعايب بالقلة ، فإنما ذمه ولم يمدحه ، ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه . قالوا : فكذلك قوله : { لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } إنما معناه : لاتبعتم جميعكم الشيطان .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال : عنى باستثناء القليل من الإذاعة¹ وقال : معنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً ، ولو ردّوه إلى الرسول .
وإنما قلنا : إن ذلك أولى بالصواب لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا ، وغير جائز أن يكون من قول : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ } لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان ، وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب ، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب سبيل فنوجّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون : معنى ذلك : لاتبعتم الشيطان جميعا ، ثم زعم أن قوله : { إلاّ قَلِيلاً } دليل على الإحاطة بالجميع . هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل لا وجه له ، وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } لأن علم ذلك إذا ردّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم ، استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقة ، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه مع استواء جميعهم في علمه . وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا ، ودخل هذه الأقوال الثلاثة ما بينا من الخلل ، فبّين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع ، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من الإذاعة .
{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف } مما يوجب الأمن أو الخوف . { أذاعوا به } أفشوه كما كان يفعله قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحي إليه من وعد بالظفر ، أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم حزمهم فكانت إذاعتهم مفسدة . والباء مزيدة أو لتضمن الإذاعة معنى التحدث . { ولو ردوه } أي ولو ردوا ذلك الخبر . { إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم } إلى رأيه ورأي كبار أصحابه البصراء بالأمور ، أو الأمراء . { لعلمه } لعلم ما أخبروا به على أي وجه يذكر . { الذين يستنبطونه منهم } يستخرجون تدابيره بتجاربهم وأنظارهم . وقيل كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها فتعود وبالا على المسلمين ، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم حتى يسمعوه منهم وتعرفوا أنه هل يذاع لعلم ذلك من هؤلاء الذين يستنبطونه من الرسول وأولي الأمر أي : يستخرجون علمه من جهتهم ، وأصل الاستنباط إخراج النبط : وهو الماء ، يخرج من البئر أول ما يحفر . { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بإرسال الرسول وإنزال الكتاب . { لاتبعتم الشيطان } والكفر والضلال . { إلا قليلا } أي إلا قليلا منكم تفضل الله عليه بعقل راجح اهتدى به إلى الحق والصواب ، وعصمه عن متابعة الشيطان كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل . أو إلا اتباعا قليلا على الندور .
عطف على جملة { ويقولون طاعة } [ النساء : 81 ] فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله ، العائدة إلى المنافقين ، وهو الملائم للسياق ، ولا يعكّر عليه إلاّ قوله : { وإلَى أولي الأمر منهم } ، وسنعلم تأويله ، وقيل : الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين : ممّن قلّت تجربَته وضعف جَلده ، وهو المناسب لقوله : { وإلى أولي الأمر منهم } بحسب الظاهر ، فيكون معَاد الضمير محذوفاً من الكلام اعتماداً على قرينة حال النزول ، كما في قوله : { حتّى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] .
والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة ، من المسلمين الأغرار .
ومعنى { جاءهم أمر } أي أخبروا به ، قال امرؤ القيس :
فالمجيء مجاز عرفي في سماع الأخبار ، مثل نظائره . وهي : بلغ ، وانتهى إليه وأتاه ، قال التابغة :
أتأني -أبيتَ اللعن- أنَّكَ لُمَتَنِي
والأمر هنا بمعنى الشيء ، وهو هنا الخبر ، بقرينة قوله : { أذاعوا به } .
ومعنى { أذاعوا } أفْشَوْا ، ويتعدّى إلى الخبر بنفسه ، وبالباء ، يقال : أذاعَه وأذاع به ، فالباء لتوكيد اللصوق كما في { وامْسَحُوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .
والمعنى إذا سمعوا خبَراً عن سَرايا المسلمين من الأمن ، أي الظَّفَر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين ، أي اشتداد العدوّ عليهم ، بادروا بإذاعته ، أو إذا سمعوا خَبراً عن الرسول عليه السلام وعن أصحابه ، في تدبير أحوال المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف ، تحدّثوا بتلك الأخبار في الحالين ، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد ، إذا جاءت أخبار أمن حتّى يؤخذ المؤمنون وهم غَارَّون ، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف ، واختلاف المعَاذير للتهيئة للتخلّف عن الغزو إذا استنفروا إليه ، فحذّر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء ، ونبّه هؤلاء على دخيلتهم ، وقَطَع معذرتهم في كيدهم بقوله : { ولو ردّوه إلى الرسول } الخ ، أي لولا أنّهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي .
وعلى القول بأنّ الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرّع بالإذاعة ، وأمرُهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلّموهم محامله .
وقيل : كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف ، وهي مخالفة للواقع ، ليظنّ المسلمون الأمْن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم ، أو الخوفَ حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختلّ أحوال اجتماعهم ، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به ، فتمّ للمنافقين الدست ، وتمشّت المكيدة ، فلامهم الله وعلّمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلّة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحالَه من الصدق أو الكذب ، ويأخذوا لكلّ حالة حيطتها ، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه . وهذا بعيد من قوله : { جاءهم } وعلى هذا فقوله : { لَعَلِمَه } هو دليل جواب ( لو ) وعِلَّتُه ، فجُعل عوضه وحذف المعلول ، إذ المقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلَبَيَّنُوه لهم على وجهه .
ويجوز أن يكون المعنى : ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم ذلك المنافقون الذين اختلقوا الخبَر فلَخابوا إذ يوقنون بأنّ حيلتهم لم تتمشّ على المسلمين ، فيكون الموصول صادقاً على المختلقين بدلالة المقام ، ويكون ضمير { منهم } الثاني عائداً على المنافقين بقرينة المقام .
والردّ حقيقته إرجاع شيء إلى ما كان فيه من مكان أو يَدٍ . واستعمل هنا مجازاً في إبلاغ الخبر إلى أوْلى الناس بعلمه . وأولو الأمر هم كبّراء المسلمين وأهل الرأي منهم ، فإن كان المتحدّث عنهم المنافقين فوصف أولي الأمر بأنّهم منهم جارٍ على ظاهر الأمر وإرخاءِ العِنان ، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضَهم ؛ وإن كان المتحدّث عنهم المؤمنين ، فالتبعيض ظاهر .
والاستنباط حقيقته طلب النَّبَط بالتحريك ؛ وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر ؛ وهو هنا مجاز في العلم بحقيقة الشيء ومعرفة عواقبه ، وأصله مكنية : شبّه الخبر الحادث بحفير يُطلب منه الماء ، وذكْر الاستنباط تَخييلٌ . وشاعت هذه الاستعارة حتّى صارت حقيقة عرفية ، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين ، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي ، ولولا ذلك لقيل : يستنبطون منه ، كما هو ظاهر ، أوْ هو على نزع الخافض .
وإذا جريتَ على احتمال كون ( يستنبطون ) بمعنى يختلقون كما تقدّم كانت { يستنبطونه } تبعية ، بأن شبّه الخبر المختلَق بالماء المحْفور عنه ، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون ، وتعدّى الفعل إلى ضمير الخبرلأنّه المستخرَج . والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم : يُصْدر ويُورِد ، وقولهم ضَرَبَ أخماساً لأسْدَاسٍ ، وقولهم : يَنْزِع إلى كذا ، وقوله تعالى : { فإنّ للذين ظلموا ذَنُوباً مثلَ ذَنوب أصحابهم } [ الذاريات : 59 ] ، وقال عَبدة بن الطبيب :
ومنه قولهم : تَساجل القوم ، أصله من السَّجْل ، وهو الدلو .
إذَا ما اصطبَحْتُ أرْبعاً خطّ مِئْزَري *** وأتْبَعْتُ دلوي في السماح رِشاءها
فذكَر الدلوَ والرشاء . وقال النابغة :
خَطاطِيف حَجْنٍ في حِبالٍ متينَة *** تَمُدّ بها أيْدٍ إليكَ نَوازِع
ولولا أبُو الشقراء مَا زال ماتح *** يُعالج خَطَّافاً بإحدى الجرائر
وقالوا أيضاً : « انتهز الفرصة » ، والفرصة نوبة الشرب ، وقالوا : صدر الوم عن رأي فلان ووَردوا على رأيه .
وقوله : { منهم } وصفٌ للذين يستنبطونه ، وهم خاصّة أولي الأمر من المسلمين ، أي يردّونه إلى جماعةِ أولي الأمر فيفهمه الفاهمون من أولي الأمر ، وإذا فهمه جميعهم فأجدَر .
وقوله : { ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه } امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح ، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره .
واستثناء { إلاّ قليلاً } من عموم الأحوال المؤذن بها { اتّبعتم } ، أي إلاّ في أحوال قليلة ، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها ، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي ، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام . ولك أن تجعله استثناء من ضمير { اتّبعتم } أي إلاّ قليلاً منكم ، فالمراد من الاتّباع اتّباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين .