قوله تعالى : { وقالوا } . يعني اليهود .
قوله تعالى : { قلوبنا غلف } . جمع أغلف وهو الذي عليه غشاوة ، معناه عليها غشاوة فلا تسمع ولا تفقه ما يقول ، قال مجاهد و قتادة : نظيره قوله تعالى :{ وقالوا قلوبنا في أكنة } وقرأ ابن عباس : غلف بضم اللام وهي قراءة الأعرج وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي : معناه أوعية لكل علم فهي لا تسمع حديثاً إلا وعته إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه ولو كان فيه خير لوعته وفهمته .
قوله تعالى : { بل لعنهم الله } . طردهم الله وأبعدهم عن كل خير .
قوله تعالى : { بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون } . قال قتادة : معناه لا يؤمن منهم إلا قليل ، لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود ، أي فقليلاً يؤمنون ، ونصب قليلاً على الحال . وقال معمر : لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ، أي فقليل يؤمنون ونصب قليلاً بنزع الخافض ، وما صلة على قولهما ، وقال الواقدي : معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً كقول الرجل للآخر : ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلاً .
ثم حكى القرآن بعض الدعاوى الباطلة التي كان يدعيها اليهود في العصر النبوي ورد عليها بما يدحضها فقال : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : قال اليهود الذين كانوا في العهد النبوي : قلوبنا يا محمد مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها . ومقصدهم من ذلك ، إقناطه صلى الله عليه وسلم من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد .
والغلف : جمع أغلف ، وهو الذي جعل له غلاف ، ومنه قيل للقلب الذي لا يعى ولا يفهم ، قلب أغلف ، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف .
قال ابن كثير : وقرأ ابن عباس - بضم اللام - وهو جمع غلاف . أي : قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك .
وقد رد الله - تعالى - على كذبهم هذا بما يدحضه ويفضحه فقال :
{ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } أي : أن قلوبهم ليست غلفاً بحيث لا تصل إليها دعوة الحق بل هي متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق ، ولكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء واستحبابهم العمى على الهدى .
والفاء في قوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها و { مَّا } في قوله { فَقَلِيلاً مَّا } لتأكيد معنى الفلة .
والمعنى أن الله لعنهم وكان هذا اللعن سبباً لقلة إيمانهم فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلا ، وقلة الإِيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإِيمان به . وقد وصفهم الله - تعالى - فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض .
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى نوع آخر من رذائل اليهود ، ويتجلى هذا النوع في جحودهم الحق عن معرفة وعناد ، وكراهتهم الخير لغيرهم يدافع الأنانية والحسد ، وتحولهم إلى أناس يتميزون من الغيظ إذا ما رأوا نعمة تساق لغير أبناء ملتهم .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : في أكنة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : لا تفقه .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [ قال ]{[2145]} هي القلوب المطبوع عليها .
وقال مجاهد : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } عليها غشاوة .
وقال عكرمة : عليها طابع . وقال أبو العالية : أي لا تفقه . وقال السدي : يقولون : عليها غلاف ، وهو الغطاء .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } هو كقوله : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله : { غُلْفٌ } قال : يقول : قلبي في غلاف فلا يَخْلُص إليه ما تقول ، قرأ{[2146]} { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }
وهذا هو الذي رجحه ابن جرير ، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي ، عن أبي البختري ، عن حذيفة ، قال : القلوب أربعة . فذكر منها : وقلب أغلف مَغْضُوب عليه ، وذاك قلب الكافر .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن العَرْزَمي ، أنبأنا أبي ، عن جدي ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال : لم تختن .
هذا{[2147]} القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم ، وأنها بعيدة من الخير .
قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال قالوا : قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد ، ولا غيره .
وقال عطية العوفي : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : أوعية للعلم .
وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار{[2148]} فيما حكاه ابن جرير : " وقالوا قلوبنا غُلُف " بضم اللام ، أي : جمع غلاف ، أي : أوعية ، بمعنى أنهم ادعوا{[2149]} أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر . كما كانوا يَمُنُّون{[2150]} بعلم التوراة . ولهذا قال تعالى : { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } ، أي : ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها ، كما قال في سورة النساء : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [ النساء : 155 ] . وقد اختلفوا في معنى قوله : { فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } وقوله : { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } ، فقال بعضهم : فقليل من يؤمن منهم [ واختاره فخر الدين الرازي وحكاه عن قتادة والأصم وأبي مسلم الأصبهاني ] وقيل : فقليل إيمانهم . بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ، ولكنه إيمان لا ينفعهم ، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال بعضهم : إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ، وإنما قال : { فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ } وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : قلما رأيت مثل هذا قط . تريد : ما رأيت مثل هذا قط . [ وقال الكسائي : تقول العرب : من زنى بأرض قلما تنبت ، أي : لا تنبت شيئًا ]{[2151]} .
حكاه{[2152]} ابن جرير ، والله أعلم .
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مّا يُؤْمِنُونَ }
اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه بعضهم : { وَقَالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ } مخففة اللام ساكنة ، وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار . وقرأه بعضهم : «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ » مثقلة اللام مضمومة . فأما الذين قرءوها بسكون اللام وتخفيفها ، فإنهم تأوّلوها أنهم قالوا قلوبنا في أكنة وأغطية وغُلْف . والغُلْفُ على قراءة هؤلاء ، جمع أغلف ، وهو الذي في غلاف وغطاء كما يقال للرجل الذي لم يختتن : أغلف ، والمرأة غلفاء ، وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه : سيف أغلف ، وقوس غلفاء ، وجمعها «غُلْف » ، وكذلك جمع ما كان من النعوت ذكره على أفعل وأنثاه على فعلاء ، يجمع على «فُعْل » مضمومة الأول ساكنة الثاني ، مثل أحمر وحُمر ، وأصفر وصُفر ، فيكون ذلك جماعا للتأنيث والتذكير ، ولا يجوز تثقيل عين «فُعْل » منه إلا في ضرورة شعر ، كما قال طَرَفة بن العبد :
أيّها الفِتْيَانُ فِي مَجْلِسِنَا *** جَرّدوا مِنْها وِرادا وشُقُرْ
يريد : شُقْرا ، لأن الشعر اضطره إلى تحريك ثانيه فحركه . ومنه الخبر الذي :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، عن عمرو بن مرة الجملي ، عن أبي البختري ، عن حذيفة قال : القلوب أربعة . ثم ذكرها ، فقال فيما ذكر : وقلب أغلف : معصوب عليه ، فذلك قلب الكافر .
ذكر من قال ذلك ، يعني أنها في أغطية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي في أكنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ }أي في غطاء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } فهي القلوب المطبوع عليها .
حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قوله : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } عليها غشاوة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } عليها غشاوة .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا شريك عن الأعمش قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال : هي في غلف .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي لا تفقه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { وَقَالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ } قال : هو كقوله : قُلُوبُنَا فِي أكِنّةٍ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال : عليها طابع ، قال هو كقوله : { قُلُوبُنَا فِي أكِنّةٍ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي لا تفقه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال : يقولون : عليها غلاف وهو الغطاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال : يقول قلبي في غلاف ، فلا يخلص إليه مما تقول . وقرأ : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إلَيْهِ } .
قال أبو جعفر : وأما الذين قرءوها : «غُلُفٌ » بتحريك اللام وضمها ، فإنهم تأوّلوها أنهم قالوا : قلوبنا غُلُف للعلم ، بمعنى أنها أوعية . قال : والغلف على تأويل هؤلاء جمع غلاف ، كما يجمع الكتاب كُتُب ، والحجاب حُجُب ، والشهاب شُهُب .
فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ : «غُلُفٌ » بتحريك اللام وضمها : وقالت اليهود قلوبنا غُلُف للعلم ، وأوعية له ولغيره . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبيد بن أسباط بن محمد ، قال : حدثنا أبي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية : «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ » قال : أوعية للذكر .
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا فضيل ، عن عطية في قوله : «قُلُوبُنَا غُلُفٌ » قال : أوعية للعلم .
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا فضيل ، عن عطية ، مثله .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ } قال : مملوءة علما لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره .
والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ }هي قراءة من قرأ «غُلْف » بتسكين اللام بمعنى أنها في أغشية وأغطية لاجتماع الحجة من القراء وأهل التأويل على صحتها ، وشذوذ من شذّ عنهم بما خالفه من قراءة ذلك بضم اللام . وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه حجة على من بلغه ، وما جاء به المنفرد فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلاً وقولاً وعملاً في غير هذا الموضع ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ } : بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم وجحودهم آيات الله وبيناته ، وما ابتعث به رسله ، وتكذيبهم أنبياءه . فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك . وأصل اللعن : الطرد والإبعاد والإقصاء ، يقال : لَعَنَ الله فلانا يلعنُه لَعْنا وهو ملعون ، ثم يصرّف مفعول فيقال هو لَعِينٌ ومنه قول الشماخ بن ضرار :
ذَعَرْتُ بِهِ القَطا ونَفَيْتُ عنْهُ*** مَكَانَ الذّئْبِ كالرّجُلِ اللّعِينِ
قال أبو جعفر : في قول الله تعالى ذكره : { بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ }تكذيبٌ منه للقائلين من اليهود : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } لأن قوله : بَلْ دلالة على جحده جل ذكره ، وإنكاره ما ادّعوا من ذلك إذ كانت «بل » لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود .
فإذا كان ذلك كذلك ، فبيّنٌ أن معنى الآية : وقالت اليهود قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد . فقال الله تعالى ذكره : ما ذلك كما زعموا ، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته وطردهم عنها وأخزاهم بجحودهم له ولرسله فقليلاً ما يؤمنون .
القول في تأويل قوله تعالى : فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : { فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ } . فقال بعضهم : معناه : فقليل منهم من يؤمن ، أي لا يؤمن منهم إلا قليل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكْفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ } فلعمري لَمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب ، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ } قال : لا يؤمن منهم إلا قليل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة : { فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ } قال : لا يؤمن منهم إلاّ قليل . قال معمر : وقال غيره : لا يؤمنون إلاّ بقليل مما في أيديهم .
وأولى التأويلات في قوله : { فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ } بالصواب ما نحن مُتقنوه إن شاء الله وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية ، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك نصب قوله : فَقَلِيلاً لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره ، ومعناه : بل لعنهم الله بكفرهم فإيمانا قليلاً ما يؤمنون . فقد تبين إذا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك لأن معنى ذلك لو كان على ما روي من أنه يعني به : فلا يؤمن منهم إلا قليل ، أو فقليل منهم من يؤمن ، لكان القليل مرفوعا لا منصوبا لأنه إذا كان ذلك تأويله كان القليل حينئذٍ مرافعا «ما » وإن نصب القليل ، و«ما » في معنى «من » أو «الذي » بقيت «ما » لا مرافع لها ، وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب .
فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى «ما » التي في قوله : فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ فقال بعضهم : هي زائدة لا معنى لها ، وإنما تأويل الكلام : فقليلاً يؤمنون ، كما قال جل ذكره : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وما أشبه ذلك . فزعم أن «ما » في ذلك زائدة ، وأن معنى الكلام : فبرحمة من الله لنت لهم وأنشد في ذلك محتجّا لقوله ذلك ببيت مهلهل :
لَوْ بِأبانَيْنِ جاءَ يَخْطُبُها *** خُضّبَ ما أنْفُ خاطِبٍ بدَمِ
ورغم أنه يعني : خضب أنف خاطب بدم ، وأن «ما » زائدة .
وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في «ما » في الآية ، وفي البيت الذي أنشده ، وقالوا : إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء ، إذ كانت «ما » كلمة تجمع كل الأشياء ثم تخصّ وتعمّ ما عمته بما تذكره بعدها . وهذا القول عندنا أولى بالصواب لأن زيادة «ما » لا تفيد من الكلام معنى في الكلام غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه . ولعل قائلاً أن يقول : هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلاً ما يؤمنون من الإيمان قليل أو كثير فيقال فيهم فقليلاً ما يؤمنون ؟ قيل : إن معنى الإيمان هو التصديق ، وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدّق بوحدانية الله وبالبعث والثواب والعقاب ، وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به لأنه في كتبهم ، ومما جاءهم به موسى فصدّقوا ببعض هو ذلك القليل من إيمانهم ، وكذّبوا ببعض فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به .
وقد قال بعضهم : إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ، وإنما قيل : { فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ } وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : قلّما رأيت مثل هذا قط ، وقد رُوي عنها سماعا منها : مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكُرّاث والبصل ، يعني : ما تنبت غير الكرّاث والبصل ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بالقلة ، والمعنى فيه نفي جميعه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا} للنبي صلى الله عليه وسلم: {قلوبنا غلف} يعني: في غطاء، ويعنون في أكنة عليها الغطاء، فلا تفهم ولا تفقه ما تقول يا محمد، كراهية لما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: إنكم كذبتم فريقا من الأنبياء وفريقا قتلتم...
{بل لعنهم الله بكفرهم} فطبع على قلوبهم.
{فقليلا ما يؤمنون} يعني: بالقليل بأنهم لا يصدقون بأنه من الله، وكفروا بما سواه مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله عز وجل في النساء: {فلا يؤمنون إلا قليلا} (النساء: 155)...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ} مخففة اللام ساكنة، وهي قراءة عامة الأمصار في جميع الأقطار. وقرأه بعضهم: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ» مثقلة اللام مضمومة. فأما الذين قرأوها بسكون اللام وتخفيفها، فإنهم تأوّلوها أنهم قالوا قلوبنا في أكنة وأغطية وغُلْف. والغُلْفُ على قراءة هؤلاء، جمع أغلف، وهو الذي في غلاف وغطاء كما يقال للرجل الذي لم يختتن: أغلف، والمرأة غلفاء، وكما يقال للسيف إذا كان في غلافه: سيف أغلف، وقوس غلفاء، وجمعها «غُلْف»... {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} عليها غشاوة...أي لا تفقه... هو كقوله:"قُلُوبُنَا فِي أكِنّةٍ"... عليها طابع، قال هو كقوله: {قُلُوبُنَا فِي أكِنّةٍ}... عليها غلاف وهو الغطاء.
قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوها: «غُلُفٌ» بتحريك اللام وضمها، فإنهم تأوّلوها أنهم قالوا: قلوبنا غُلُف للعلم، بمعنى أنها أوعية. قال: والغلف على تأويل هؤلاء جمع غلاف، كما يجمع الكتاب كُتُب، والحجاب حُجُب، والشهاب شُهُب.
فمعنى الكلام على تأويل قراءة من قرأ: «غُلُفٌ» بتحريك اللام وضمها: وقالت اليهود قلوبنا غُلُف للعلم، وأوعية له ولغيره... {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلُفٌ}: مملوءة علما لا تحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره.
والقراءة التي لا يجوز غيرها في قوله: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} هي قراءة من قرأ «غُلْف» بتسكين اللام، بمعنى أنها في أغشية وأغطية لاجتماع الحجة من القراء وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ من شذّ عنهم بما خالفه من قراءة ذلك بضم اللام. وقد دللنا على أن ما جاءت به الحجة متفقة عليه حجة على من بلغه، وما جاء به المنفرد فغير جائز الاعتراض به على ما جاءت به الجماعة التي تقوم بها الحجة نقلاً وقولاً وعملاً في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا المكان.
{بَلْ لَعَنَهُمُ اللّه بِكُفْرِهِمْ}: بل أقصاهم الله وأبعدهم وطردهم وأخزاهم وأهلكهم بكفرهم وجحودهم آيات الله وبيناته وما ابتعث به رسله وتكذيبهم أنبياءه. فأخبر تعالى ذكره أنه أبعدهم منه ومن رحمته بما كانوا يفعلون من ذلك. وأصل اللعن: الطرد والإبعاد والإقصاء، يقال: لَعَنَ الله فلانا يلعنُه لَعْنا وهو ملعون، ثم يصرّف مفعول فيقال هو لَعِينٌ..
في قول الله تعالى ذكره: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ} تكذيبٌ منه للقائلين من اليهود: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، لأن قوله: بَلْ دلالة على جحده جل ذكره، وإنكاره ما ادّعوا من ذلك إذ كانت «بل» لا تدخل في الكلام إلا نقضا لمجحود.
فإذا كان ذلك كذلك، فبيّنٌ أن معنى الآية: وقالت اليهود قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه يا محمد. فقال الله تعالى ذكره: ما ذلك كما زعموا، ولكن الله أقصى اليهود وأبعدهم من رحمته وطردهم عنها وأخزاهم بجحودهم له ولرسله فقليلاً ما يؤمنون.
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ}.
فقال بعضهم: معناه: فقليل منهم من يؤمن، أي لا يؤمن منهم إلا قليل...عن قتادة قوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكْفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ}: فلعمري لَمن رجع من أهل الشرك أكثر ممن رجع من أهل الكتاب، إنما آمن من أهل الكتاب رهط يسير.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم.
وأولى التأويلات في قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} بالصواب ما نحن مُتقنوه إن شاء الله وهو أن الله جل ثناؤه أخبر أنه لعن الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم أخبر عنهم أنهم قليلو الإيمان بما أنزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك نصب قوله: "فَقَلِيلاً "لأنه نعت للمصدر المتروك ذكره، ومعناه: بل لعنهم الله بكفرهم فإيمانا قليلاً ما يؤمنون. فقد تبين إذا بما بينا فساد القول الذي روي عن قتادة في ذلك لأن معنى ذلك لو كان على ما روي من أنه يعني به: فلا يؤمن منهم إلا قليل، أو فقليل منهم من يؤمن، لكان القليل مرفوعا لا منصوبا لأنه إذا كان ذلك تأويله كان القليل حينئذٍ مرافعا «ما» وإن نصب القليل، و«ما» في معنى «من» أو «الذي» بقيت «ما» لا مرافع لها، وذلك غير جائز في لغة أحد من العرب
فأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في معنى «ما» التي في قوله: فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ فقال بعضهم: هي زائدة لا معنى لها، وإنما تأويل الكلام: فقليلاً يؤمنون، كما قال جل ذكره: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ "وما أشبه ذلك. فزعم أن «ما» في ذلك زائدة، وأن معنى الكلام: فبرحمة من الله لنت لهم.
وأنكر آخرون ما قاله قائل هذا القول في «ما» في الآية، وقالوا: إنما ذلك من المتكلم على ابتداء الكلام بالخبر عن عموم جميع الأشياء، إذ كانت «ما» كلمة تجمع كل الأشياء، ثم تخصّ وتعمّ ما عمته بما تذكره بعدها. وهذا القول عندنا أولى بالصواب لأن زيادة «ما» لا تفيد من الكلام معنى في الكلام غير جائز إضافته إلى الله جل ثناؤه.
ولعل قائلاً أن يقول: هل كان للذين أخبر الله عنهم أنهم قليلاً ما يؤمنون من الإيمان قليل أو كثير فيقال فيهم فقليلاً ما يؤمنون؟ قيل: إن معنى الإيمان هو التصديق، وقد كانت اليهود التي أخبر الله عنها هذا الخبر تصدّق بوحدانية الله وبالبعث والثواب والعقاب، وتكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، وكل ذلك كان فرضا عليهم الإيمان به لأنه في كتبهم، ومما جاءهم به موسى، فصدّقوا ببعض هو ذلك القليل من إيمانهم، وكذّبوا ببعض فذلك هو الكثير الذي أخبر الله عنهم أنهم يكفرون به.
وقد قال بعضهم: إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء، وإنما قيل: {فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ} وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلّما رأيت مثل هذا قط، وقد رُوي عنها سماعا منها: مررت ببلاد قلما تنبت إلا الكُرّاث والبصل، يعني: ما تنبت غير الكرّاث والبصل، وما أشبه ذلك من الكلام الذي ينطق به بوصف الشيء بالقلة، والمعنى فيه نفي جميعه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بل لعنهم الله بكفرهم} وعتوهم وتفريطهم في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وعنادهم إياه، لا أن قلوبهم بمحل لا يفهمون شيئا مما يخاطبون به كما يزعمون، ولكن ذلك لترك التفكر والتدبر فيها...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
{بل لعنهم الله بكفرهم}: طردهم الله عن الفهم والرحمة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{غُلْفٌ} جمع أغلف، أي هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ولا تفقهه...
ثم ردّ الله أن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك، لأنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق، بأن الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم، فهم الذين غلفوا قلوبهم بما أحدثوا من الكفر الزائغ عن الفطرة، وتسببوا بذلك لمنع الألطاف التي تكون للمتوقع إيمانهم وللمؤمنين.
{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} فإيماناً قليلاً يؤمنون... وهو إيمانهم ببعض الكتاب. ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بل} في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه.
والضمير في {يؤمنون} لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم،
ويتجه قلة هذا الإيمان... لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيماناً قليلاً...
[أنها] كالغلاف الخالي لا شيء فيه...
[و] أما قوله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} ففيه أجوبة.
(أحدها): هذا يدل على أنه تعالى لعنهم بسبب... هذه المقالة فلعله تعالى حكى عنهم قولا ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم.
(وثانيها): المراد من قوله: {وقالوا قلوبنا غلف} أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار يعني ليست قلوبنا في أغلاف ولا في أغطية، بل قوية وخواطرنا منيرة ثم إنا بهذه الخواطر والأفهام تأملنا في دلائلك يا محمد، فلم نجد منها شيئا قويا. فلما ذكروا هذا التصلف الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بسبب هذا القول،
(وثالثها) لعل قلوبهم ما كانت في الأغطية بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} إلا أنهم أنكروا تلك المعرفة وادعوا أن قلوبهم غلف وغير واقفة على ذلك فكان كفرهم كفر العناد فلا جرم لعنهم الله على ذلك الكفر.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قالوا ذلك بهتاً ودفعاً لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات، وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات، فنزلوا بذلك عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
لا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم والحكمة. وهذا ظاهر جدا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{بل لعنهم الله بكفرهم}؛ قال الحرالي: أعظم الذنوب ما تكون عقوبة الله تعالى عليها الإلزام بذنوب أشد منها، فأعقب استكبارهم اللعن كما كان في حق إبليس مع آدم عليه السلام، فانتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجن والإنس الذي انختم به القرآن في قوله: {من الجنة والناس} [الناس: 6] ليتصل طرفاه. ولما أخبر بلعنهم سبب عنه قوله: {فقليلاً ما يؤمنون}، فوصفه بالقلة، وأكده بما إيذاناً بأنه مغمور بالكفر لا غناء له.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قصدوا به إقناط النبي صلى الله عليه وسلم عن الإجابة وقطع طمعه عنهم بالكلية.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ولقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة وكما تعطيه ظواهر الألفاظ، ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلا، ولم يفقهوا حكمها وأسرارها، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة، ويصرفها عامل اللذة، فالإيمان إنما كان عندهم قولا باللسان، ورسما يلوح في الخيال، تكذبه الأعمال، وتطمسه السجايا الراسخة والخلال، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله تعالى. ومن العجب أن نرى آيات القرآن تبطله بالحجج القيمة، والأساليب المؤثرة، وأهل القرآن عن ذلك غافلون، فقليلا ما يعتبرون ويتذكرون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الأسلوب هنا يعنف ويشتد، ويتحول -في بعض المواضع- إلى صواعق وحمم.. إنه يجبههم جبها شديدا بما قالوا وما فعلوا؛ ويجردهم من كل حججهم ومعاذيرهم، التي يسترون بها استكبارهم عن الحق، وأثرتهم البغيضة، وعزلتهم النافرة، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير، وحسدهم أن يؤتي الله أحدا من فضله. جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم...
(وقالوا: قلوبنا غلف. بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون)... قالوا: إن قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة، ولا تستمع إلى داعية جديد! قالوها تيئيسا لمحمد [ص] وللمسلمين، من دعوتهم إلى هذا الدين؛ أو تعليلا لعدم استجابتهم لدعوة الرسول... يقول الله ردا على قولتهم: (بل لعنهم الله بكفرهم)... إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم. فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى...
(فقليلا ما يؤمنون).. أي قليلا ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق، وضلالهم القديم.
أو أن هذه حالهم: أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريرا... وكلا المعنيين يتفق مع المناسبة والموضوع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إما عطف على قوله: {استكبرتم} [البقرة: 87] أو على {كذبتم} [البقرة: 87] فيكون على الوجه الثاني تفسيراً للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على {كذبتم} من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع: تكذيبٌ وتقتيل وإعراض. وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور، فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراضَ البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية... وقد حسَّن الالتفاتَ أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبيء صلى الله عليه وسلم صار الخطاب جارياً مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة.
على أنه يحتمل أن قولهم {قلوبنا غلف} لم يصرحوا به علَنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى: {ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل} [البقرة: 92].
والقلوبُ مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل.
والغُلْف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غَلَّفه إذا جعل له غِلافاً وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يُكره له. وهذا كلام كانوا يقولونه للنبيء صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم للإسلام، قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين: {قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5].
وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوباً عما لا يلائمه، فإن ذلك معنى الغِلاف فهم يُخيَلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك قال المفسرون: إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان حقاً لوعته، وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه...
وقوله: {بل لعنهم الله بكفرهم} تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبيء صلى الله عليه وسلم، فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير، فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول، فاللعنة حصلت لهم عقاباً على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و"ما" في النص واضح أنها في العدد لا في الإيمان، فالإيمان لا يتجزأ إلى قليل أو كثير، فهو كامل دائما، أو هو الإذعان للحق بعد تصديقه، وذلك لا يكون إلا كاملا، فالقلة أو الكثرة في عدد المؤمنين لا في مقدار إيمانهم، فالمعنى بسبب تغليف قلوبهم لا يؤمن إلا عدد قليل وقوله تعالى: {فقليلا ما يؤمنون} إن قليلا وصف لمصدر محذوف تقديره: إيمانا قليلا أي (قلة يؤمنون) والقلة كما أشرنا ليست في أصل الإيمان، بل فيمن اتصفوا بالإيمان، لأنهم يكونون عددا قليلا، ومصداق ذلك قوله تعالى في أهل الكتاب: {منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66)} [المائدة] وقوله تعالى في أهل الكتاب السابقين على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم: {ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115)}
{بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون}: لفظ "بل "يؤكد لنا أن كلامهم غير صحيح... فهم ليس عندهم كفاية من العلم بحيث لا يحتاجون إلى منهج الرسل... ولكنهم ملعونون ومطرودون من رحمة الله... فلا تنفذ إشعاعات النور ولا الهداية إلى قلوبهم... ولكن ذلك ليس لأن الله ختم عليها بلا سبب... ولكنه جزاء على أنهم جاءهم النور والهدى... فصدوه بالكفر أولا... ولذلك فإنهم أصبحوا مطرودين من رحمة الله... لأن من يصد الإيمان بالكفر يطرد من رحمة الله، ولا ينفذ إلى قلبه شعاع من أشعة الإيمان...
وهنا يجب أن نتنبه إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يبدأهم باللعنة. وبعض الناس الذين يريدون أن يهربوا من مسئولية الكفر علها تنجيهم من العذاب يوم القيامة يقولون إن الله سبحانه وتعالى قال: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} (من الآية 8 سورة فاطر)...
إنهم يريدون أن يقولوا إن الله يضل من يشاء... ومادام الله قد شاء أن يضلني فما ذنبي أنا؟ وهل أستطيع أن أمنع مشيئة الله... نقول له: إن الله إذا قيد أمرا من الأمور المطلقة فيجب أن نلجأ إلى التقييد... والله تبارك وتعالى يقول: {والله لا يهدي القوم الكافرين} (من الآية 37 سورة التوبة). ويقول سبحانه: {والله لا يهدي القوم الظالمين} (من الآية 19 سورة التوبة). ويقول جل جلاله: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} (من الآية 24 سورة التوبة). [ف] الحق سبحانه وتعالى أخبرنا أنه منع إعانته للهداية عن ثلاثة أنواع من الناس... الكافرين والظالمين والفاسقين...
[ف] هل هو سبحانه وتعالى منع معونة الهداية أولا؟ أم أنهم هم الذين ارتكبوا من الضلال ما جعلهم لا يستحقون هداية الله؟! إنسان واجه الله بالكفر... كفر بالله... ورفض أن يستمع لآيات الله ورسله.. ورفض أن يتأمل في كون الله.. ورفض أن يتأمل في خلقه هو نفسه ومن الذي خلقه... [و] رفض أن يتأمل في خلق السماوات والأرض... ومضى يصنع لنفسه طريق الضلال ويشرع لنفسه الكفر... لأنه فعل ذلك أولا... ولأنه بدأ بالكفر برغم أن الله سبحانه وتعالى وضع له في الكون وفي نفسه آيات تجعله يؤمن بالله هو الذي بدأ والله سبحانه وتعالى ختم على قلبه.
[وكذا] الإنسان الظالم يظلم الناس ولا يخشى الله... يذكرونه بقدرة الله وقوة الله فلا يلتفت... يختم الله على قلبه...
[و] كذلك الإنسان الفاسق الذي لا يترك منكرا إلا فعله... ولا إثما إلا ارتكبه... ولا معصية إلا أسرع إليها... لا يهديه الله...
أكنت تريد أن يبدأ هؤلاء الناس بالكفر والظلم والفسوق ويصرون عليه ثم يهديهم الله؟ يهديهم قهرا أو قسراً، والله سبحانه وتعالى خلقنا مختارين؟ طبعا لا [لان] ذلك يضيع الاختيار البشري في أن يطيع الإنسان أو يعصى. والحق تبارك وتعالى أثبت طلاقة قدرته فيما نحن مقهورون فيه... في أجسادنا التي تعمل أعضاءها الداخلية بقهر من الله سبحانه وتعالى وليس بإرادة منا كالقلب والتنفس والدورة الدموية... والمعدة والأمعاء والكبد... كل هذا وغيره مقهور لله جل جلاله... لا نستطيع أن نأمره ليفعل فيفعل... وأن نأمره ألا يفعل فلا يفعل...
[لقد] أثبت الله سبحانه وتعالى طلاقة قدرته فيما يقع علينا من أحداث في الكون... فهذا يمرض، وهذا تدهمه سيارة، وهذا يقع عليه حجر... وهذا يسقط، وهذا يعتدي عليه إنسان... كل الأشياء التي تقع عليك لا دخل لك فيها ولا تستطيع أن تمنعها...
بقى ذلك الذي يقع منك وأهمه تطبيق منهج الله في افعل ولا تفعل... هذا لك اختيار فيه. إن الله سبحانه وتعالى أوجد لك هذا الاختيار حتى يكون الحساب في الآخرة عدلا... فإذا اخترت الكفر لا يجبرك الله على الإيمان... وإذا اخترت الظلم لا يجبرك الله على العدل... وإذا اخترت الفسوق لا يجبرك الله على الطاعة... إنه يحترم اختيارك لأنه أعطاك هذا الاختيار ليحاسبك عليه يوم القيامة. لقد أثبت الله لنفسه طلاقة القدرة بأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء. ولكنه سبحانه قال إنه لا يهدي القوم الكافرين ولا القوم الظالمين ولا القوم الفاسقين...
لذلك فقد قال الكافرون من بني إسرائيل إن الله ختم على قلوبهم فهم لا يهتدون، ولكنهم هم الذين اختاروا هذا الطريق ومشوا فيه فاختاروا عدم الهداية...
لقد أثارت هذه القضية جدلا كبيراً بين العلماء ولكنها في الحقيقة لا تستحق هذا الجدل... فالله سبحانه وتعالى قال: {بل لعنهم الله بكفرهم}... واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله... و [إنما] يتم ذلك بقدرة الله سبحانه وتعالى.. لأن الطرد يتناسب مع قوة الطارد...
{بل لعنهم الله بكفرهم}... طردهم بسبب كفرهم... والله تبارك وتعالى لا يتودد للناس لكي يؤمنوا... ولا يريد للرسل أن يتعبوا أنفسهم في حمل الناس على الإيمان.. إنما وظيفة الرسول هي البلاغ حتى يكون الحساب حقا وعدلا... واقرأ قوله جل جلاله: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين "3" إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين "4 "} (سورة الشعراء). أي إنهم لا يستطيعون ألا يؤمنون إذا أردناهم مؤمنين قهرا... ولكننا نريدهم مؤمنين اختيارا... وإيمان العبد هو الذي ينتفع به... فالله لا ينتفع بإيمان البشر...
[ف] قولنا لا إله إلا الله لا يسند عرش الله... قلناها أو لم نقلها فلا إله إلا الله... ولكننا نقولها لتشهد علينا يوم القيامة... نقولها لتنجينا من أهوال يوم القيامة ومن غضب الله...
{فقليلا ما يؤمنون}.. عندما تقول قليلا ما يحدث كذا، فإنك تقصد به هنا صيانة الاحتمال، لأنه من الممكن أن يثوب واحد منهم إلى رشده ويؤمن... فيبقى الله الباب مفتوحا لهؤلاء. ولذلك نجد الذين أسرفوا على أنفسهم في شبابهم قد يأتون في آخر عمرهم ويتوبون... في ظاهر الأمر أنهم أسرفوا على أنفسهم... ولكنهم عندما تابوا واعترفوا بخطاياهم وعادوا إلى طريق الحق تقبل الله إيمانهم لذلك يقول الله جل جلاله: {فقليلا ما يؤمنون} أي أن الأغلبية تظل على كفرها.. والقلة هي التي تعود إلى الإيمان...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
منها: أن هؤلاء الذين لم يقبلوا الحق احتجوا بما ليس بحجة؛ فقالوا: قلوبنا غلف
ومنها: أن من صنع مثل صنيعهم فهو شبيه بهم؛ يوجد أناس نسمع عنهم أنهم إذا نُصِحوا، ودُعوا إلى الحق قالوا:"ما هدانا الله"؛ وهؤلاء مشابهون لليهود الذين قالوا: (قلوبنا غلف).
ومنها: أن القلوب بفطرتها ليست غلفاء؛ لقوله تعالى: {بل لعنهم الله}؛ وهذا الإضراب للإبطال. يعني ليست القلوب غَلفاء لا تقبل الحق، لكن هناك شيء آخر هو الذي منع من وصل الحق؛ وهو لَعْن الله إياهم بسبب كفرهم...
ومنها: أن الفطرة من حيث هي فطرة تقبل الحق، ولكن يوجد لها موانع...
[و] منها: بيان أن الأسباب مهما قويت إذا غلب عليها المانع لم تؤثر شيئاً؛ فالقلوب وإن كانت مفطورة على الدين القيم لكن إذا وجد موانع لم تتمكن من الهدى؛ وقد قيل: إن الأمور لا تتم إلا بوجود أسبابها، وانتفاء موانعها...
ومنها: إثبات الأسباب، وأن لها تأثيراً في مسبباتها بإذن الله؛ لقوله تعالى: (بل لعنهم الله بكفرهم)...
ومنها: أن الإيمان في هؤلاء اليهود قليل، أو معدوم؛ لقوله تعالى: (فقليلاً ما يؤمنون).