الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

قوله تعالى : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } . . مبتدأٌ وخبر ، والجملةُ في محلِّ نصبِ بالقول قبلَه ، وقرأ الجمهورُ : " غُلْفٌ " بسكون اللام ، وفيها وجهان ، أحدهما وهو الأظهرُ : أن يكونَ جمع " أَغْلَف " كأحمر وحُمْر وأصفر وصُفْر ، والمعنى على هذا : أنها خُلِقَتْ وجُبِلت مُغَشَّاةً لا يَصِلُ إليها الحقُّ استعارةً من الأغلف الذي لم يُخْتَتَنْ . والثاني : أن يكونَ جمعَ " غِلاف " ، ويكونُ أصلُ اللامِ الضمَّ فخُفِّفَ نحو : حِمار وحُمُر وكتاب وكُتُب ، إلاَّ أنَّ تخفيفَ فُعُل إنما يكون في المفرد غالباً نحو عُنْق في عُنُق ، وأمَّا فُعُل الجمع فقال ابن عطية : " لا يجوز تخفيفُه إلا في ضرورةٍ " ، وليس كذلك ، بل هو قليل ، وقد نصّ غيرُه على جوازه ، وقرأ ابن عباس ويُروى عن أبي عمرو بضمِّ اللامِ وهو جمع " غِلاف " ، ولا يجوز أن يكون فُعُل في هذه القراءة جمعَ " أَغْلف " لأنَّ تثقيلَ فُعُل الصحيحِ العينِ لا يجوز إلاَّ في شِعْر ، والمعنى على هذه القراءة أنَّ قلوبَنا أوعيةٌ للعلمِ فهي غيرُ محتاجةٍ إلى علمٍ آخر ، والتغليفُ كالتغشِيَة في المعنى .

قوله : { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ } " بل " حرفُ إضرابٍ ، والإِضرابُ راجعٌ إلى ما تَضَمَّنه قولُهم من أن قلوبَهم غُلْف ، فردَّ الله عليهم ذلك بأنَّ سببَه لَعْنُهم بكفرهم السابق . والإِضرابُ على قسمين : إبطالٍ وانتقالٍ ، فالأول نحو : ما قام زيدٌ بل عمروٌ ، ولا تَعْطِفُ " بل " إلا المفردات ، وتكونُ في الإِيجاب والنفي والنهي ، ويُزاد قبلها " لا " تأكيداً . واللَّعْنُ : الطَّرْدُ والبُعْدُ ، ومنه : شَأْوٌ لعين أي بعيد : قال الشمَّاخ .

ذَعَرْتُ به القَطا ونَفَيْتُ عنه *** مقامَ الذئبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ

أي : البعيد ، وكان وجهُ الكلام أن يقول : " مقام الذئب اللعين كالرجل " . والباءُ في " بكفرهم " للسببِ ، وهي متعلِّقَةٌ بلَعَنَهُمْ . وقال الفارسي : " النية به التقديمُ أي : وقالوا : قُلوبنا غلفٌ بسببِ كفرهم ، فتكونُ الباءُ متعلقةً بقالوا وتكونُ " بل لعنهم " جملةً معترضةً " ، وفيه بُعْدٌ ، ويجوز أن تكونَ حالاً من المفعولِ في " لَعَنهم " أي لعَنهم كافرين أي : مُلتبسين بالكفرِ كقوله :

{ وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ } [ المائدة : 61 ] .

قوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } في نصبِ " قليلاً " ستةُ أوجهٍ ، أحدُها وهو الأظهرُ : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : فإيماناً قليلاً يُؤمنون . الثاني : أنه حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المحذوفِ أي : فيؤمنونه أي الإِيمانَ في حالِ قلَّته ، وقد تقدَّم أنه مذهب سيبويه وتقدَّم تقريره . الثالث : أنه صفةٌ لزمان محذوفٍ ، أي : فزماناً قليلاً يؤمنون ، وهو كقوله : { آمِنُواْ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ } [ آل عمران : 72 ] . الرابع : أنه على إسقاطِ الخافض والأصل : فبقليل يؤمنون ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ انتصب ، ويُعْزَى لأبي عبيدة .

الخامس : أن يكونَ حالاً من فاعل " يؤمنون " ، أي فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون أي المؤمِنُ فيهم قليلٌ ، قال معناه ابنُ عباس وقتادة . إلا أن المهدوي قال : " ذهب قتادة إلى أنَّ المعنى : فقليلٌ منهم مَنْ يؤمن ، وأنكره النحويون ، وقالوا : لو كانَ كذلك لَلَزِمَ رفعُ " قليل " . قلت : لا يلزمَ الرفعُ مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قتادة لِما تقدَّم من أنَّ نصبَه على الحالِ وافٍ بهذا المعنى : و " ما " على هذه الأقوالِ كلها مزيدةٌ للتأكيد . السادس : أن تكونَ " ما " نافيةً أي : فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً ، ومثلُه : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ }

[ الأعراف : 10 ] ، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] ، وهذا قويٌ من جهة المعنى ، وإنما يَضْعُفُ شيئاً من جهةٍ تقدُّم ما في حَيِّزها عليها ، قاله أبو البقاء ، وإليه ذهب ابن الأنباري ، إلا أنَّ تقديمَ ما في حَيِّزها عليها لم يُجْزِه البصريون ، وأجازه الكوفيون . قال أبو البقاء : " ولا يَجُوز أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً ، لأن " قليلاً " يبقى بلا ناصبٍ " . يعني أنَّك إذا جَعَلْتَها مصدريةً كان ما بعدَها صلتَها ، ويكون المصدرُ مرفوعاً ب " قليلاً " على أنه فاعلٌ به فأين الناصبُ له ؟ وهذا بخلافِ قولِه { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } [ الذاريات : 17 ] فإنَّ " ما " هناك يجوزُ أن تكونَ مصدريةً لأنَّ " قليلاً " منصوبٌ ب كان . وقال الزمخشري : " ويجوز أن تكونَ القِلَّةُ بمعنى العَدَم " . قال الشيخ : " وما ذهبَ إليه من أنَّ " قليلاً " يُراد به النفيُ فصحيحٌ ، لكنْ في غيرِ هذا التركيب ، أعني قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } لأنَّ " قليلاً " انتصبَ بالفعلِ المثبتِ فصار نظيرَ " قُمْتُ قليلاً " أي : قمتُ قياماً قليلاً ، ولا يَذْهَبُ ذاهبٌ إلى أنَّك إذا أَتَيْتَ بفعلٍ مُثْبَتٍ وجَعَلْتَ " قليلاً " منصوباً نعتاً لمصدرِ ذلك الفعلِ يكونُ المعنى في المُثْبَتِ الواقعِ على صفةٍ أو هيئةٍ انتفاءَ ذلك المُثْبَتِ رأساً وعدَمَ قوعِه بالكلِّية ، وإنما الذي نَقَل النحويون : أنَّه قد يُراد بالقلة النفيُ المَحْضُ في قولهم : " أقَلُّ رجلٍ يقول ذلك ، وقَلَّما يقوم زيد " ، وإذا تقرَّر هذا فَحَمْلُ القلةِ على النفي المَحْضِ هنا ليس بصحيحٍ " . انتهى . / قلت : ما قاله أبو القاسم الزمخشري رحمه الله من أنَّ معنى التقليلِ هنا النفيُ قد قال به الواحديُّ قبلَه ، فإنه قال : " أَيْ : لا قليلاُ ولا كثيراً ، كما تقول : قَلَّما يفعلُ كذا ، أي : ما يفعله أصلاً " .