نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

ولما بين سبحانه مخازيهم حتى ختمها بعظيم ما ارتكبوا من الرسل من القتل المعنوي بالتكذيب والحسي بإزهاق الروح مع العلم بأنهم أتوا بالبينات والآيات المعجزات فأرشد المقام إلى أن التقدير فقالوا للأنبياء لما أتوهم أموراً كثيرة يعجب من صدورها عن عاقل وأتوا في الجواب عن تكذيبهم وقتلهم من التناقضات بما لا يرضاه عالم ولا جاهل عطف عليه أو{[3583]} على

{ وقالوا لن تمسّنا النار{[3584]} }[ البقرة : 80 ] قوله - بياناً لشدة بهتهم وقوة عنادهم : { وقالوا{[3585]} } في جواب ما كانوا يلقون إليهم من جواهر العلم التي هي أوضح من الشمس { قلوبنا غلف{[3586]} } جمع أغلف وهو المغشى الذكر بالقلفة التي هي جلدته ، كأن الغلفة{[3587]} في طرفي المرء : ذكره وقلبه ، حتى يتم الله كلمته في طرفيه بالختان{[3588]} والإيمان - قاله الحرالي . فالمعنى : عليها أغطية فهي لا تفهم ما تقولون{[3589]} . فكان المراد بذلك مع أنهم أعلم الناس أن ما يقولونه{[3590]} ليس بأهل لأن{[3591]} يوجه إليه الفهم ، ولذلك أضرب الله{[3592]} سبحانه عنه{[3593]} بقوله : { بل } أي ليس الأمر كما قالوا{[3594]} من أن هناك غلفاً حقيقة بل{[3595]} { لعنهم الله } أي طردهم{[3596]} الملك الأعظم{[3597]} عن قبول ذلك لأنهم ليسوا بأهل للسعادة{[3598]} بعد أن خلقهم على الفطرة الأولى القويمة{[3599]} لا غلف على قلوبهم ، لأن اللعن إبعاد في المعنى والمكانة والمكان إلى أن يصير الملعون بمنزلة النعل في أسفل القامة يلاقي به ضرر الموطي - قاله الحرالي{[3600]} .

ثم بين علة ذلك بقوله : { بكفرهم } . قال الحرالي : أعظم الذنوب ما تكون{[3601]} عقوبة الله تعالى{[3602]} عليها الإلزام بذنوب أشد منها ، فأعقب استكبارهم اللعن كما كان في حق إبليس مع آدم عليه السلام ، فانتظم صدر هذه السورة إظهار الشيطنتين من الجن والإنس الذي انختم به القرآن في قوله :

{ من الجنة والناس }[ الناس : 6 ] ليتصل طرفاه ، فيكون ختماً لا أول له ولا آخر ، والفاتحة محيطة به لا يقال{[3603]} : هي أوله ولا آخره ، ولذلك ختم بعض القراء بوصله حتى لا يتبين له طرف ، كما قالت العربية{[3604]} لما سئلت عن بنيها : هم{[3605]} كالحلقة المفرغة{[3606]} لا يدرى أين طرفاها . ولما أخبر بلعنهم سبب{[3607]} عنه قوله : { فقليلاً ما يؤمنون } ، فوصفه بالقلة وأكده بما{[3608]} إيذاناً بأنه مغمور{[3609]} بالكفر لا غناء له{[3610]} .


[3583]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: و
[3584]:زاد في ظ: "إلا أياما معدودة"
[3585]:الضمير في "قالوا" عائد إلى اليهود وهم أبناء بني إسرائيل الذين كانوا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا ذلك بهتا ودفعا لما قامت عليهم الحجج وظهرت لهم البينات وأعجزتهم عن مدافعة الحق المعجزات، نزلوا عن رتبة الإنسانية إلى رتبة البهيمية –قاله أبو حيان
[3586]:وفي البحر المحيط 1/ 301: وقرأ ابن عباس والأعرج وابن هرمز وابن محيصن {غلف} بضم اللام وهي مروية عن أبي عمرو، وهو جمع غلاف ولا يجوز أن يكون في هذه القراءة جمع أغلف لأن تثقيل فعل الصحيح العين لا يجوز إلا في الشعر، يقال غلفت السيف جعلت له غلافا، فأما من قرأ غلف بالإسكان فمعناه أنها مستورة عن الفهم والتمييز؛ وقال مجاهد: أي عليها غشاوة، وقال عكرمة: عليها طابع، وقال الزجاج: ذوات غلف، أي عليها غلف لا تصل إليها الموعظة، ويحتمل على هذه القراءة أن يكون قولهم هذا على سبيل البهت والمدافعة حتى يسكتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من قرأ بضم اللام فمعناه أنها أوعية للعلم فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته –قاله ابن عباس والسدي- انتهى
[3587]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: الغفلة
[3588]:في ظ: بالحسينان -كذا
[3589]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: يقولون.
[3590]:في م: تقولونه
[3591]:في ظ: أن
[3592]:في ظ: عنه سبحانه
[3593]:في ظ: عنه سبحانه
[3594]:ليست في ظ، وفي م: حقيقة –مكان حقيقة
[3595]:ليست في ظ، وفي م: حقيقة – مكان: حقيقة
[3596]:ليست في ظ
[3597]:ليست في ظ
[3598]:العبارة من هنا إلى "قلوبهم" ليست في ظ
[3599]:في م: القوية
[3600]:قال أبو حيان "بل للإضراب وليس إضرابا عن اللفظ المقول لأنه واقع لا محالة فلا يضرب عنه وإنما الإضراب عن النسبة التي تضمنها قولهم: إن قلوبهم غلف، لأنها خلقت متمكنة من قبول لاحق مفطورة لإدراك الصواب فأخبروا عنها بما لم تخلق عليها، ثم أخبر تعالى أنها لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب الذي هو الكفر –البحر المحيط 1/ 300
[3601]:من م و ظ، وفي الأصل: يكون
[3602]:ليس في م.
[3603]:زاد في ظ: أنها
[3604]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: العرية -كذا
[3605]:زيد من م ومد
[3606]:في ظ: المغرغة -كذا
[3607]:قال أبو حيان: ثم أخبر تعالى أنهم لعنوا بسبب ما تقدم من كفرهم وجازاهم بالطرد الذي هو اللعن المتسبب عن الذنب هو الكفر
[3608]:من م ومد و ظ، وفي الأصل: لما
[3609]:في ظ: معمور - كذا
[3610]:وفي البحر المحيط انتصاب "قليلا" على أنه نعت لمصدر محذوف أي فإيمانا قليلا يؤمنون – قاله قتادة، وفي التفسير المظهري ص 94: وقال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا كقول الرجل للآخر: ما أقل ما تفعل كذا، أي لا تفعل أصلا؛ فالقلة مجاز عن العدم -انتهى