قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية } . وهذه الآية منسوقة على الآية الأولى ، تقديره ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) وهل رأيت الذي مر على قرية ؟ وقيل : تقديره هل رأيت الذي حاج إبراهيم في ربه ؟ وهل رأيت كالذي مر على قرية ؟ واختلفوا في ذلك المار ، فقال قتادة وعكرمة والضحاك : هو عزيز بن شرخياً ، وقال وهب بن منبه ، هو أرمياء بن حلقيا ، وكان بن سبط هارون ، وهو الحضر وقال مجاهد : هو كافر شك البعث . واختلفوا في تلك القرية فقال وهب وعكرمة وقتادة : هي بيت المقدس ، وقال الضحاك : هي الأرض المقدسة ، وقال الكلبي : هي دير سابر أباد ، وقال السدي : مسلم أباد ، وقيل :دير هرقل ، وقيل : هي الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقيل : هي قرية العنب وهي على فرسخين من بيت المقدس .
قوله تعالى : { وهي خاوية } . ساقطة يقال : " خوي البيت " بكسر الواو يخوي خوى ، مقصوراً إذا سقط وخوى البيت بالفتح خواءً ممدوداً إذا خلا .
قوله تعالى : { على عروشها } . سقوفها ، واحدها عرش وقيل : كل بناء عرش ، ومعناه : أن السقوف سقطت ثم وقعت الحيطان عليها .
قوله تعالى : { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } . وكان السبب في ذلك على ما روى محمد بن إسحاق بن منبه أن الله تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أموص ملك بني إسرائيل ليسدده في ذلك ويأتيه بالخبر من الله عز وجل ، فعظمت الأحداث في بني إسرائيل ، وركبوا المعاصي فأوحى الله تعالى إلى أرمياء : أن ذكر قومك نعمي وعرفهم أحداثهم وادعهم إلي ، فقال أرمياء : إني ضعيف إن لم تقوني ، عاجز إن لم تبلغني ، مخذول إن لم تنصرني ، فقال الله عز وجل : أنا ألهمك ، فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه الله في الوقت خطبة بليغة طويلة بين لهم ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وقال في آخرها عن الله تعالى : " وإني أحلف بعزتي لأقبضن لهم فتنة بتحير فيها الحكيم ، ولأسلطن عليهم جباراً فارسياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم " ، ثم أوحى الله تعالى إلى إرمياء " إني مهلك بني إسرائيل ، وبافث من أهل بابل " ، وهم من ولد بافث ابن نوح عليه السلام ، فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه ، فلما سمع الله تضرعه وبكاءه ناداه : يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك ؟ قال : نعم يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به فقال الله تعالى : وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ، ففرح أرمياء بذلك وطابت نفسه ، فقال : لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل ، ثم أتى الملك فأخبره بذلك ، وكان ملكاً صالحاً . فاستبشر وفرح فقال : إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة وإن عفا عنا فبرحمته . ثم إ نهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتمادياً في الشر وذلك حين اقترب هلاكهم ، فقل الوحي ، ودعاهم الملك إلى التوبة ، فلم يفعلوا ، فسلط الله عليهم بختنصر ، فخرج في ست مائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ، فلما فصل سائراً أتى الملك الخبر ، فقال لأرمياء : أين ما زعمت أن الله أوحى إليك ؟ فقال أرمياء : إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق فلما قرب الأجل بعث الله إلى أرمياء ملكاً قد تمثل له رجلاً من بني إسرائيل فقال له أرمياء : من أنت ؟ قال : أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهل رحمي ، وصلت أرحامهم ، ولم آت إليهم إلا حسناً ، ولا يزيدهم إكرامي إياهم إلا إسخاطاً لي فأفتني فيهم ، قال : أحسن فبما بينك وبين الله وصلهم وأبشر بخير . فانصرف الملك فمكث أياماً ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل ، فقعد بين يديه فقال له أرمياء : من أنت ؟ قال : أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي ؟ فقال له أرمياء : أما طهرت أخلاقهم بعدلك ؟ قال : يا نبي الله والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمة إلا قدمتها إليهم وأفضل ، فقال له النبي أرمياء عليه الصلاة والسلام : ارجع إليهم أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم ، فانصرف الملك ، فمكث أياماً وقد نزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد ، ففزع منهم بنو إسرائيل فقال ملكهم لأرمياء : يا نبي الله أين ما وعدك الله ؟ قال : إني بربي واثق ، ثم أقبل الملك إلى أرمياء وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده ، فقعد بين يديه فقال له أرمياء : من أنت ؟ فقال : أنا الذي أتيتك في شأن أهلي مرتين ، فقال النبي : ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه ؟ فقال الملك : يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه ، فاليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله ، فقال النبي : على أي عمل رأيتهم ؟ قال : على عمل عظيم من سخط الله ، فغضب الله وأتيتك لأخبرك ، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق نبياً إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم ، فقال أرمياء : يا مالك السماوات والأرض ، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم ، وإن كانوا على عمل لا ترضاه فأهلكهم ، فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء ، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها ، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال : يا مالك السماوات أين ميعادك الذي وعدتني ؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعائك ، فاستيقن النبي عليه السلام أنها فتياه ، وأن ذلك السائل كان رسول ربه ، فطار أرمياء حتى خالط الوحوش . ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وخرب بيت المقدس ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه فيقذفه في بيت المقدس ، ففعلوا حتى ملؤوه ، ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عندهم صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه ، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان ، وكان من أولئك الغلمان دانيال وحنانيا ، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ، فثلثاً قتلهم ، وثلثاً سباهم ، وثلثاً أقرهم بالشام ، وكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزلها الله في بني إسرائيل بظلمهم ، فلما ولى عنهم بختنصر راجعاً إلى بابل ومعه سبايا بني إسرائيل أقبل أرمياء على حمار له معه عصير عنب في ركوة ، وسلة تين حتى غشي إيلياء ، فلما وقف عليها ورأى خرابها قال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " .
وقال الذي قال إن المار كان عزيراً : وأن بختنصر لما خرب بيت المقدس وقدم بسبي بني إسرائيل ببابل كان فيهم عزير ، ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود ، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة ، فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، وعامة شجرها حامل فأكل من الفاكهة ، واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة في سلة ، وفضل العصير في زق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : ( نى يحيي هذه الله بعد موتها ) قالها تعجباً لا شكاً في البعث .
رجعنا إلى حديث وهب قال : ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد ، فألقى الله تعالى عليه النوم ، فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام ، وأمات حماره ، وعصيره وتينه عنده ، فأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد ، وذلك ضحىً ، ومنع الله السباع والطير لحمه ، فلما مضى من موته سبعون سنة أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس يقال له فوشك فقال : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيلياء حتى يعود أعمر ما كان ، فانتدب الملك بألف قهرمان ، مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل ، وجعلوا يعمرونه ، فأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل ، ولم يمت ببابل أحد وردهم جميعاً إلى بيت المقدس ونواحيه ، وعمروها ثلاثين سنة ، وكثروا حتى عادوا على أحسن ما كانوا عليه ، فلما مضت المائة أحيا الله منه عينيه ، وسائر جسده ميت ، ثم أحيا جسده وهو ينظر إليه ، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح ، فسمع صوتاً من السماء : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع بعضها إلى بعض ، واتصل بعضها ببعض ثم نودي : إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً ، فكانت كذلك ثم نودي : إن الله يأمرك أن تحيا ، فقام بإذن الله ونهق ، وعمر الله أرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك .
قوله تعالى : { فأماته الله مائة عام ثم بعثه } . أي أحياه .
قوله تعالى : { قال كم لبثت } . أي : كم مكثت ؟ يقال : لما أحياه الله بعث إليه ملكاً فسأله ، كم لبثت ؟ .
قوله تعالى : { قال لبثت يوماً } . وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس ، فقال : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوماً وهو يرى أن الشمس قد غربت ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس .
قوله تعالى : { أو بعض يوم } . بل بعض يوم .
قوله تعالى : { قال } . له الملك .
قوله تعالى : { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } . يعني التين .
قوله تعالى : { وشرابك }ز يعني العصير .
قوله تعالى : { لم يتسنه } . أي لم يتغير ، فكان التين كأنه قطف من ساعته ، والعصير كأنه عصر من ساعته . قال الكسائي : كأنه لم تأت عليه السنون . وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب " لم يتسن " بحذف الهاء في الوصل وكذلك ( فبهداهم اقتده ) . وقرأ الآخرون بالهاء فيهما وصلاً ووقفاً ، فمن أسقط الهاء في الوصل جعل الهاء صلة زائدة وقال : أصله " يتسنى " فحذف الياء بالجزم ، وأبدل منه هاء في الوقف ، وقال أبو عمرو : هم من التسنن بنونين : وهو التغير كقوله تعالى : ( من حمإ مسنون ) أي متغير فعوضت من إحدى النونين ياء كقوله تعالى : ( ثم ذهب إلى أهله يتمطى ) أي يتمطط ، وقوله ( وقد خاب من دساها ) وأصله " دسسها " ومن أثبت الهاء في الحالين جعل الهاء أصلية لام الفعل وهذا على قول من جعل أصل السنة " السنهة " وتصغيرها سنيهة ، والفعل من المسانهة وإنما قال : لم يتسنه ولم يثنه مع أنه أخبر عن شيئين ردا للمتغير إلى أقرب اللفظين به ، وهو الشراب واكتفى بذكر أحد المذكورين لأنه في معنى الآخر .
قوله تعالى : { وانظر إلى حمارك } . فنظر فإذا هو عظام بيض فركب الله تعالى العظام بعضها على بعض فكساه اللحم ، والجلد وأحياه وهو ينظر .
قوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } . قيل الواو زائدة مقحمة . وقال الفراء : أدخلت الواو فيه دلالة على أنها شرط لفعل بعدها معناه : ولنجعلك آية ، عبرة ودلالة على البعث ، بعد الموت قاله أكثر المفسرين ، وقال الضحاك وغيره : إنه عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد شيوخ وعجائز وهو أسود الرأس واللحية .
قوله تعالى : { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } . قرأ أهل الحجاز والبصرة " ننشرها " بالراء معناه نحييها يقال : أنشر الله الميت إنشاراً ونشرة ونشوراً قال الله تعالى : ( ثم إذا شاء أنشره ) وقال في اللازم ( وإليه النشور ) وقرأ الآخرون : بالزاي أي نرفعها من الأرض ، ونردها إلى مكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض ، وإنشاز الشيء رفعه وإزعاجه ، يقال : أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع . واختلفوا في معنى الآية ، فقال الأكثرون : أراد به عظام حماره ، وقال السدي : إن الله تعالى أحيا عزيراً ثم قال له : انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، فبعث الله تعالى ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ، وقد ذهبت بها الطير والسباع ، فاجتمعت فركب بعضها في بعض وهو ينظر ، فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم .
قوله تعالى : { ثم نكسوها لحماً } . ثم كسا العظام لحماً ودماً ، فصار حماراً لا روح فيه ، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الخمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله . وقال قوم : أراد به عظام هذا الرجل ، وذلك أن الله تعالى لم يمت حماره بل أماته هو فأحيا الله عينيه ورأسه ، وسائر جسده ميت ، ثم قال : انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً كهيئته يوم ربطه ، حياً لم يطعم ولم يشرب مائة عام ، ونظر الرمة في عنقه جديدة لم تتغير ، وتقدير الآية : وانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشزها وهذا قول قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما والسدي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، لما أحيا الله تعالى عزيراً بعد ما أماته مائة سنة ركب حماره حتى أتى محلته ، فأنكره الناس ومنازله فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت عرفته وعقلته فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير ؟ قالت : نعم هذا منزل عزير وبكت وقالت : ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً قال : فإني أنا عزير ، قالت : سبحان الله : فإن عزيراً قد فقدناه من مائة سنة لم نسمع له بذكر قال : فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني ، قالت : فإن عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة ويدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية ، فادع الله أن يرد لي بصري حتى أراك ، فإن كنت عزيراً عرفتك ، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال : قومي بإذن الله تعالى ، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة ، فنظرت إليه فقالت : أشهد أنك عزير ، فانطلقت إلى بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن لعزير شيخ كبير ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس ، فنادت : هذا عزير قد جاءكم ، فكذبوها ، فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله كان أماته مائة سنة ثم بعثه ، فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ولده : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير .
وقال السدي والكلبي : لما رجع عزير إلى قومه وقد أحرق بختنصر التوراة ولم يكن من الله عهد بين الخلق ، فبكى عزير على التوراة ، فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله التوراة ، وبعثه نبياً ، فقال : أنا عزير فلم يصدقوه فقال : إني عزير قد بعثني الله إليكم لأجدد لكم توراتكم قالوا : أملها علينا ؟ فأملاها عليهم من ظهر قلبه ، فقالوا : ما جعل الله التوراة في صدر رجل بعد ما ذهبت إلا أنه ابنه ، فقالوا : عزير ابن الله ، وستأتي القصة في سورة براءة إن شاء الله تعالى . قوله تعالى : { فلما تبين له } . ذلك عياناً .
قوله تعالى : { قال أعلم } . قرأ حمزة والكسائي مجزوماً موصولا على الأمر على معنى : قال الله تعالى له : اعلم ، وقرأ الآخرون " أعلم " بقطع الألف ورفع الميم على الخبر عن عزير أنه قال : لما رأى ذلك أعلم .
ثم ساقت السورة الكريمة قصتين تدلان أبلغ دلالة على قدرة الله - تعالى - وعلى صحة البعث والنشور ، استمع إلى القرآن وهو يحكي هاتين القصتين بأسلوبه البليغ فيقول :
{ أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ . . . }
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 259 ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 260 )
قال الآلوسي ما ملخصه : قوله : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ } معطوف على سابقه - وهو قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ } والكاف اسمية بمعنى مثل معمولة لا رأيت محذوفاً . أي أو أرأيت مثل الذي مر على قرية . . وحذف لدلالة ( أَلَمْ تَرَ ) عليه . وقيل : إن الكاف زائدة والتقدير : ألأم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية . . وقيل : إن العطف هنا محمول على المعنى كأنه قيل : أرأيت شيئاً عجيباً - كالذي حاج إبراهيم في ربه ، أو كالذي مر على قرية " .
والذي { مَرَّ على قَرْيَةٍ } قيل هو عزير بن شرخيا ، وقيل حزقيال بن بوزي وقيل غير ذلك ، والقرية قيل المراد بها بيت المقدس وكان قد خربها " بختنصر " البابلي . . والقرآن الكريم لم يهتم بتحديد الأشخاص والأماكن لأنه يقصد العبرة وبيان الحال والشأن . وجملة { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } في موضع الحال من الضمير المستتر في { مَرَّ } والواو رابطة بين الجملة الحالية وبين صاحبها والإِتيان بها واجب لخلو الجملة من ضمير يعود على صاحبها وقيل هي حال من قرية ، وسوغ إتيان الحال منها مع كونها نكرة وقوعها بعد الاستفهام المقدر وهو أرأيت ومعنى { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } أن جدرانها ساطقة على سقوفها ، أي أن الخراب قد عمها والدمار قد نزل بها ، فأصبحت خالية من أهلها وفارغة ممن كان يعمرها وأصل الخواء الخلو . يقال خوت الدار وخربت تخوى خواء إذا سقطت وخلت .
والعروش جمع عرش وهو سقف البيت ويسمى العريش ، وكل شيء يهيأ ليظل أو يكنّ فهو عريش وعرش .
وقوله - تعالى - : { قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } حكاية لما قاله ذلك الذي مر على تلك القرية ورأى فيها ما رأى من مظاهر الخراب والدمار والمعنى : أو أرأيت مثل الذي مر على قرية وهي ساقطة حياطانها على سقوفها ، وفارغة ممن كان يسكنها ، فهاله أمرها ، وراعه شأنها ، وقال على سبيل التعجب كيف يحيى الله هذه القرية بعد موتها ، بأن يعيد إليها العمران بعد الخراب ، ويجعلها عامرة بسكانها الذي خلت منهم . فقوله : { قَالَ أنى يُحْيِي هذه } بمعنى كيف فتكون منصوبة على الحالية من اسم الإِشارة ويجوز أن تكون { أنى } هنا بمعنى متى أي : متى يحيى الله هذه القرية بعد موتها فتكون منصوبة على الظرفية .
وقال القرطبي : قوله { قَالَ أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } معناه من أي طريق وبأي سبب ، وظاهر اللفظ السؤال عن إحياء القرية بعمارة وسكان ، كما يقال الآن في المدن الخربة يبعد أن تعمر وتسكن أي : أنى تعمر هذه بعد خرابها . فكأن هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته " .
وقوله هذا إنما هو تساؤل عن كيفية الإِعادة لا عن أصل الإِعادة لأنه كان مؤمنا بالبعث والنشور ، إلا أنه لما رأى حال القرية على تلك الصورة من الخراب تعجب من قدرة الله على إحيائها ، وتشوق إلى عمارتها واعترف بالعجو عن معرفة طريق الإِحياء . فماذا كانت نتيجة هذا التساؤل ؟ كانت نتيجته كما حكاها القرآن : { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
أي : بعد أن قال هذا الذي مر على تلك القرية الخاوية على عروشها ما قال ، ألبثه الله - تعالى - في الموت مائة عام { ثُمَّ بَعَثَهُ } أي أحياه ببعث روحه إلى بدنه { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } أي كم مدة من الزمان لبتثها على هذه الحال ؟ { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
وقال - سبحانه - : { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } ولم يقل ثم أحياه ، للدلالة على أنه عاد كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية وللإِشهار بسرعته وسهولة تأتيه على الباري - سبحانه - .
قال ابن كثير : كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيى بدنه فلما استقل سوياً قال الله له بواسطة الملك { كَمْ لَبِثْتَ } ؟ { قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } .
وقوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتَ } استئناف مبنى على سؤال كأنه قيل : فماذا قال له بعد بعثه ؟
فقيل : قال كم لبثت ليظهر له العجز عن الإِحاطة بشئون الله - تعالى - على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة .
وكم منصوبة على الظرفية ومميزها محذوف والتقدير كم يوما أو وقتا والناصب لها قوله : { لَبِثْتُ } .
وفي هذه الجملة الكريمة بيان للناس بأن الموت يشبه النوم ، وأن البعث يشبه اليقظة بعده وأنه لا شيء محال على الله - تعالى - فهو القائل : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } وفي الحديث الشريف : " والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن بما تعملون ، ولتجزون بالإِحسان إحسانا وبالسوء سوءا ، وإنها لجنة أبدا ، أو لنار أبدا " .
وقوله - تعالى - : { قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ } معطوف على مقدر ، أي : ليس الأمر كما قلت إنك لبثت يوما أو بعض يوم بل إنك لبثت مائة عام ثم أرشده - سبحانه - إلى التأمل في أمور فبها أبلغ دلالة على قدرة الله تعالى وعلى صحة البعث فقال - سبحانه - : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } .
قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } أي لم يتغير بمرور السنين الطويلة ولم تذهب طراوته فكأنه لم تمر عليه السنون ولفظ يتسنه : مشتق من السنة ، والهاء فيه أصلية إذا قدر لام سنة هام ، وأصلها سنهة لتصغيرها على سنيهة وجمعها على سنهات كسجدة وسجدات ، ولقولهم : سانهته إذا عاملته سنة فسنة ، وتسنه عند القوم إذا أقام فيهم سنة . أو الهاء للوقف نحو كتابيه وجزمه بحذف حرف العلة إذا قدر لام سنة واوا ، وأصلها سنوه لتصغيرها على سنية وجمعها على سنوات .
وقوله : { نُنْشِزُهَا } أي نرفعها . يقال : أنشز الشيء إذا رفعه من مكانه . وأصله من النشز - بفتحتين وبالسكون - وهو الكان المرتفع . وقرئ { نُنْشِزُهَا } - بضم النون والراء - أي نحييها من أنشر الله الموتى أي أحياهم . والمعنى : قال الله - تعالى - لهذا الذي مر على قرية وهي خاوية على غروشها إنك لم تلبث يوما أو بعض يوم في الموت كما تظن بل لبثت مائة عام فإن كنت في شك من ذلك فانظر إلى طعامك وشرابك لتشاهد أمرا آخر من دلائل قدرتنا فإن هذا الطعام والشراب كما ترى لم يتغير بمرور السنين وكر الأعوام بل بقي على حالته . وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه ، وتفرقت أوصاله مما يشهد بأنه قد مرت عليه السنوات الطويلة .
وقوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } معطوف على محذوف متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق ، والتقدير : فعلنا ما فعلنا لترى وتشاهد بنفسك مظاهر قدرة الله ، ولنجعلك آية معجزة ودليلا على صحة البعث وقوله : { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } أي انظر وتأمل في هذا العظام كيف نركب بعضها في بعض بعد أن نوجدها .
وقيل المعنى : وانظر إلى العظام أي عظام حمارك التي تفرقت وتناثرت لتشاهد كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها في جسده .
قال ابن كثير : قال السدي وغيره : " تفرقت عظام حماره يمينا وشمالا حوله فنظر إليها وهي تلوح من بياضها ، فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع ، ثم ربك كل عظم في موضعه ، وذلك كله بمرأى من العزير " .
وجاء الضمير في قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } بالإِفراد مع أن المتقدم طعام وشراب ، لأنهما متلازمان بمعننى أن أحدهما لا يكتفى به عن الآخر فصارا بمنزلة شيء واحد ، فكأنه قال : انظر إلى غذائك .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي فلما تبين له بالأدلة الناصعة ، وبالمشاهدة الحسية قدرة الله - تعالى - على الإِحياء والإِماتة ، وعلى البعث والنشور قال أعلم أي أستيقن وأومن وأعتقد أن الله - تعالى - على كل شيء قدير ، وأنه - سبحانه - لا يعجزه شيء .
والفاء في قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ . . . } عاطفة على مقدر يستدعيه المقام فكأنه قيل : رفع الله العظام من أماكنها وأكساها لحما فلما تبين له ذلك ، وتيقنه قال أعلم أن الله على كل شيء قدير . وفاعل { تَبَيَّنَ } مضمر يفسره سياق الكلام والتقدير : فلما تبين له كيفية الإِحياء أو فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر إحياء الموتى قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} نظير الذي عنى بقوله: {ألَمْ تَرَ الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهَ} من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
وقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} عطف على قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ}. وإنما عطف قوله: {أوْ كالّذِي} على قوله: {إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ} وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما، لأن قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ} بمعنى: هل رأيت يا محمد كالذي حاجّ إبراهيم في ربه، ثم عطف عليه بقوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه وإن خالف لفظه لفظه. وقد زعم بعض نحويي البصرة أن «الكاف» في قوله: {أوْ كالّذِي مَرّ على قَرْيَةٍ} زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاجّ إبراهيم، أو الذي مرّ على قرية. وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
واختلف أهل التأويل في الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها؛ فقال بعضهم: هو عُزَيْر.
وقال آخرون: هو إرميا بن حلقيّا. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجّب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال إذ رأى قرية خاوية على عروشها: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها، حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصحّ من قبله البيان على اسم قائل ذلك، وجائز أن يكون ذلك عزيرا، وجائز أن يكون إرميَا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك. وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش، ومن كان يكذّب بذلك من سائر العرب، وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل بإطلاعه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوّته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذمّ قيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
واختلف أهل التأويل في القرية التي مرّ عليها القائل: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}؛ فقال بعضهم: هي بيت المقدس. مرّ بها عُزَيْر بعد إذ خرّبها بختنصر.
وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا. والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} سواء لا يختلفان.
{وَهِيَ خاوِيَةٌ على عُرُوشِها}: وهي خالية من أهلها وسكانها...وأما العروش: فإنها الأبنية والبيوت، ومنه قول الله تعالى ذكره: {وَما كانُوا يَعْرِشُونَ} يعني يبنون، ومنه قيل عريش مكة، يعني به: خيامها وأبنيتها.
قال ابن عباس: خاوية: خراب. قال ابن جريج: بلغنا أن عزيرا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرّبه بختنصر، فوقف فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلة والمال ما كان! فحزن.
{قالَ أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عامٍ}.
ومعنى ذلك فيما ذكرت: أن قائله لما مرّ ببيت المقدس، أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به خرابا بعد ما عهده عامرا، قال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}؟ فقال بعضهم: كان قيله ما قال من ذلك شكّا في قدرة الله على إحيائه. فأراه الله قدرته على ذلك بضربه المثل له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمر ما كان قبل خرابه. وذلك أن قائل ذلك كان فيما ذكر لنا عهده عامرا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويا على عروشه، قد باد أهله وشتتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحد، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد الحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وجه يحيي هذه الله بعد خرابها فيعمرها! استنكارا فيما قاله بعض أهل التأويل. فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان من شرابه وطعامه، ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره إحياء ما كان عجبا عنده في قدرة الله إحياؤه لرأي عينه حتى أبصره ببصره، فلما رأى ذلك قال: {أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
{ثُمّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ}: ثم أثاره حيا من بعد مماته.
{كَمْ لَبِثْتَ}: كم استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، وتأويله: قال الله له: كم قدر الزمان الذي لبثت ميتا قبل أن أبعثك من مماتك حيا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثت ميتا إلى أن بعثتني حيا يوما واحدا أو بعض يوم. وذكر أن المبعوث هو إرميا أو عزير، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر. وإنما قال: {لَبِثْتُ يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لأن الله تعالى ذكره كان قبض روحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخر النهار بعد المائة عام فقيل له: كم لبثت؟ قال: لبثت يوما¹ وهو يرى أن الشمس قد غربت فكان ذلك عنده يوما لأنه ذكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتا آخر النهار وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: لبثت يوما، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: أو بعض يوم، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: {وأرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ} بمعنى: بل يزيدون. فكان قوله: {أوْ بَعْضَ يَوْمٍ} رجوعا منه عن قوله: {لَبِثْتُ يَوْما}. فقال: بل لبثت مائة عام.
{فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ}: لم تغيره السنون التي أتت عليه. وكان طعامه فيما ذكر بعضهم سلة تين وعنب وشرابه قلة ماء. وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين وشرابه زقّ من عصير. وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دن خمر أو زُكْرَة خمر.
{لَمْ يَتَسَنّهْ} لم يأت عليه السنون فيتغير، على لغة من قال: أسنهتُ عندكم أَسْنِهُ: إذا أقام سنة، فجعل الهاء في السنة أصلاً، وهي اللغة الفصحى، وغير جائز حذف حرف من كتاب الله في حال وقف أو وصل لإثباته وجه معروف في كلامها.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله {لَمْ يَتَسَنّهْ}؛ فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير. وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.
{وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ}: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَانْظُرْ إلى حِمارِكَ}؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارك، وإلى عظامه كيف أنشزها ثم أكسوها لحما.
ثم اختلف متأوّلو ذلك في هذا التأويل؛ فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن أحياه خلقا سويّا، ثم أراد أن يحيي حماره¹ تعريفا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} مستنكرا إحياء الله إياها... فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض، وقد كان مات معه بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: {أعْلَمُ أنّ اللّهَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
فتأويل الكلام على ما تأوله قائل هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف ننشزها ثم نكسوها لحما، ولنجعلك آية للناس. فيكون في قوله: {وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ} متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} بدلاً من الهاء المرادة في المعنى، لأن معناه: وانظر إلى عظامه: يعني إلى عظام الحمار.
وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه، قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سوّاه خلقا سويا، وقبل أن يحيى حماره. وكان طعامه سلّ عنب وشرابه دنّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره وجسده ميتا، فرأى حماره قائما كهيئته يوم ربطه وطعامه وشرابه كهيئته يوم حلّ البقعة، ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها. وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قول من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائلَ {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانا من نفسه وطعامه وحماره، فجعل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلاً لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاوية على عروشها، وجعل ما أراه من العبرة في طعامه وشرابه عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجنانها، وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزها، ثم نكسوها لحما، وقد كان حماره أدركه من البلى في قول أهل التأويل جميعا نظير الذي لحق عظام من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ} إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام الحمر دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنظر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمر بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرة وعظة.
{وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ}؛ أمتناك مائة عام ثم بعثناك. وإنما أدخلت الواو مع اللام التي في قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً للنّاسِ} وهو بمعنى «كي»... وإنما عنى بقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً}: ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشكّ في عظمتي، وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإفناء وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كله، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.
وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده شابا وهم شيوخ. وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدم عليه من قومه. والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: إن الله تعالى ذكره، أخبر أنه جعل الذي وصف صفته في هذه الآية حجة للناس، فكان ذلك حجة على من عرفه من ولده وقومه ممن علم موته، وإحياء الله إياه بعد مماته، وعلى من بعث إليه منهم.
{وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها}: قد دللنا فيما مضى قبل على أن العظام التي أمر بالنظر إليها هي عظام نفسه وحماره.
{كَيْفَ نُنْشِزُها}: فإن القراء اختلفت في قراءته؛ فقرأ بعضهم: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قراءة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم. وأصل النشز: الارتفاع، ومنه قيل: قد نشز الغلام إذا ارتفع طوله وشبّ، ومنه نشوز المرأة على زوجها، ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض: نَشَزٌ وَنَشْزٌ وَنَشاز، فإذا أردت أنك رفعته، قلت: أنشزته إنشازا، ونشز هو: إذا ارتفع. فمعنى قوله: {وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعها من أماكنها من الأرض فنردّها إلى أماكنها من الجسم.
عن ابن عباس في قوله: {كَيْفَ نُنْشِزُها} كيف نخرجها.
عن السدي: {كَيْفَ نُنْشِزُها} قال: نحركها.
وقرأ ذلك آخرون: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» بضم النون، قالوا من قول القائل: أنشر الله الموتى فهو ينشرهم إنشارا. وذلك قراءة عامة قراء أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها ثم نكسوها لحما. قال ابن زيد في قوله: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» قال: كيف نحييها.
واحتجّ بعض قراء ذلك بالراء وضم نون أوله بقوله: {ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ} فرأى أن من الصواب إلحاق قوله: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِرُها» به. وقرأ ذلك بعضهم: «وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نَنْشُرُها» بفتح النون من أوله وبالراء كأنه وجه ذلك إلى مثل معنى نشر الشيء وطيّه. وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول: أنشر الله الموتى، فنَشَرُوا هم بمعنى: أحياهم فحيوا هم. ويدلّ على ذلك قوله: {ثُمّ إذَا شاءَ أنْشَرَهُ} وقوله: {آلهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}. وعلى أنه إذا أريد به حي الميت وعاش بعد مماته، قيل: نشر. والقول في ذلك عندي أن معنى الإنشار ومعنى الإنشاز متقاربان، لأن معنى الإنشاز: التركيب والإثبات وردّ العظام من العظام وإعادتُها لا شك أنه ردّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى، وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئا يقطع العذر ويوجب الحجة، فبأيهما قرأ القارئ فمصيب لانقياد معنييهما، ولا حجة توجب لإحداهما من القضاء بالصواب على الأخرى. فإن ظنّ ظان أن الإنشار إذا كان إحياء فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنشر إنما أمر به ليرى عيانا ما أنكره بقوله: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع إنما عنى به ردّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يحيا، لا إعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. والذي يدل على ذلك قوله: {ثُمّ نَكْسُوها لَحْما} ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشرت بعد أن كسيت اللحم. وإذا كان ذلك كذلك، وكان معنى الإنشاز تركيب العظام وردّها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى الإنشار، وكان معلوما استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه. وأما القراءة الثالثة فغير جائزة القراءة بها عندي، وهي قراءة من قرأ: «كَيْفَ نَنْشُرُها» بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب. {ثُمّ نَكْسُوهَا لَحْما}: العظام لحما. والهاء التي في قوله: {ثُمّ نَكْسِوها لَحْما} من ذكر العظام. ومعنى نكسوها: نلبسها ونواريها به كما يواري جسد الإنسان كسوته التي يلبسها، وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطى شيئا وواراه لباسا له وكسوة،
{فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ قَالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: فلما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك، قال: أعلم الاَن بعد المعاينة والإيضاح والبيان أن الله على كل شيء قدير.
ثم اختلفت القراءة في قراءة قوله: {قالَ أعْلَمُ أنّ اللّهَ}؛ فقرأه بعضهم: «قال اعْلَمْ» على معنى الأمر بوصل الألف من «اعلم»، وجزم الميم منها. وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة، ويذكرون أنها في قراءة عبد الله: «قيل اعْلَمْ» على وجه الأمر من الله للذي أحيى بعد مماته، فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك رُوي عن ابن عباس.
فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبين من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صرف متأول قوله: «قال اعلم» وقد قرأه على وجه الأمر إلى أنه من قبل المخبر عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجها صحيحا، وكان ذلك كما يقول القائل: اعلم أن قد كان كذا وكذا، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه.
وقرأ ذلك آخرون: {قالَ أعْلَمُ} على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به بهمز ألف أعلم وقطعها ورفع الميم. بمعنى: فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال أليس ذلك: أعلم الاَن أنا أن الله على كل شيء قدير. وبذلك قرأ عامة أهل المدينة وبعض قراء أهل العراق، وبذلك من التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل.
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: «اعْلَمْ» بوصل الألف وجزم الميم على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته بالأمر بأن يعلم أن الله الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه من إحيائه إياه وحماره بعد موت مائة عام وبلائه حتى عادا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظ عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير على كل شيء قادر كذلك.
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره¹ لأن ما قبله من الكلام أمر من الله تعالى ذكره قولاً للذي أحياه الله بعد مماته وخطابا له به، وذلك قوله: {فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنّهْ وَانْظُرْ إلى حِمَارِكَ... وَانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها} فلما تبين له ذلك جوابا عن مسألته ربه: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها}! قال الله له: اعلم أن الله الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت على غير ذلك من الأشياء قدير كقدرته على ما رأيت وأمثاله، كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: {رَبّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى}: {وَاعْلَمْ أنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فأمر إبراهيم بأن يعلم بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى أنه عزيز حكيم، فكذلك أمر الذي سأل فقال: {أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها} بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها أن يعلم أن الله على كل شيء قدير.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم عليه السلام. وقوله: {أَنَّى يُحْيي} اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء، واستعظام لقدرة المحيي...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والإشارة بهذه إنما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ووجود البناء والسكان...
وقف في هذه الألفاظ على بقاء طعامه وشرابه على حاله لم يتغير، وعلى بقاء حماره حيّاً على مربطه. هذا على أحد التأويلين. وعلى التأويل الثاني: وقف على الحمار كيف يحيى وتجتمع عظامه.
أما قوله تعالى: {ثم بعثه} فالمعنى: ثم أحياه، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، وإنما قال {ثم بعثه} ولم يقل: ثم أحياه لأن قوله {ثم بعثه} يدل على أنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية، ولو قال: ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الإحياء والإماتة من أظهر آيات الربانية وأخصها بها أظهر سبحانه وتعالى الغيرة عليها تارة بإبهات المدعي للمشاركة، وتارة بإشهاد المستبعد في نفسه وغيره بفعل ربه، وتارة بإشهاد المسترشد في غيره بنفسه معبراً في كل منها بما اقتضاه حاله وأشعر به سؤاله، فعبر في الكافر ب"إلى" إشارة إلى أنه في محل البعد عن المخاطب صلى الله عليه وسلم، وفي المتعجب بإسقاطها إسقاطاً لذلك البعد، وفي المسترشد المستطلع ب"إذ" كما هي العادة المستمرة في أهل الصفاء والمحبة والوفاء فأتبع التعجيب من حال المحاجج التعجيب أيضاً من حال من استعظم إحياءه تعالى لتلك القرية.
ولما كان معنى {ألم تر} هل رأيت لأن هل كما ذكر الرضى وغيره تختص مع كونها للاستفهام بأن تفيد فائدة النافي حتى جاز أن يجيء بعدها {إلا} قصداً للإيجاب كقوله سبحانه تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} [الرحمن: 60] وقوله سبحانه وتعالى {هل هذا إلا بشر مثلكم} [الأنبياء: 3]...
قال الحرالي: وفي لفظة "أنى" لشمول معناها لمعنى كيف وحيث ومتى استبعاده الإحياء في الكيف والمكان والزمان، ومنشأ هذا الاستبعاد إنما يطوق النفس من طلبها لمعرفة تكييف ما لا يصل إليه علمها...
{وانظر إلى العظام} أي من حمارك وهي جمع عظم وهو عماد البدن الذي عليه مقوم صورته {كيف ننشزها} قال الحرالي: بالراء من النشر وهو عود الفاني إلى صورته الأولى وبالضم جعل وتصيير إليه، وبالزاي من النشز وهو إظهار الشيء وإعلاؤه...
ويجوز أن يدل التعبير بالمضارع في أعلم على أنه لم يزل متصفاً بهذا العلم من غير نظر إلى حال ولا استقبال ويكون ذلك اعتذاراً عن تعبيره في التعجيب بما دل على الاستبعاد بأنه إنما قاله استبعاداً لتعليق القدرة بذلك لا للقدرة عليه {أن الله} أي لما أعلم من عظمته {على كل شيء} أي من هذا وغيره {قدير}
قال الحرالي: في إشعاره إلزام البصائر شهود قدرة الله سبحانه وتعالى في تعينها في الأسباب الحكمية التي تتقيد بها الأبصار إلحاقاً لما دون آية الإحياء والإماتة بأمرها ليستوي في العلم أن محييك هو مصرفك، فكما أن حياتك بقدرته فكذلك عملك بقدرته فلاءم تفصيل افراد القدرة لله بما تقدم من إبداء الحفظ بالله والعظمة لله، فكأنها جوامع وتفاصيل كلها تقتضي إحاطة أمر الله سبحانه وتعالى بكلية ما أجمل وبدقائق تفاصيل ما فصل...
وفي الآية بيان لوجه مغالطة الكافر لمن استخفه من قومه في المحاجة مع الخليل صلوات الله وسلامه عليه بأن الإحياء الذي يستحق به الملك الألوهية هو هذا الإحياء الحقيقي لا التخلية عمن استحق القتل...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} استشهادٌ على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ له معطوفٌ على الموصول السابق، وإيثارُ أو الفارقةِ على الواو الجامعة للاحتراز عن توهّم اتحادِ المستشهد عليه من أول الأمر...
والمعنى أَوَ لَمْ تَرَ إلى مثل الذي أو إلى الذي مرَّ على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظُلمة الاشتباه إلى نور العِيان والشهود، أي قد رأيت ذلك وشاهدتَه فإذن لا ريب في أن الله وليُّ الذين آمنوا الخ...
فلما تمت المائةُ من موت عُزير أحياه الله تعالى وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ} وإيثارُه على أحياه للدلالة على سرعته وسهولةِ تأتِّيه على البارئ تعالى كأنه بعثه من النوم وللإيذان بأنه أعاده كهيئته يومَ موته عاقلاً فاهماً مستعداً للنظر والاستدلال، {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال له بعد بعثه؟ فقيل: قال: {كَمْ لَبِثْتَ} ليُظهرَ له عجزَه عن الإحاطة بشؤونه تعالى وأن إحياءَه ليس بعد مدة يسيرةٍ ربما يُتوَهم أنه هيِّنٌ في الجملة بل بعد مدةٍ طويلةٍ وينحسِم به مادةُ استبعادِه بالمرة ويطلُع في تضاعيفه على أمر آخرَ من بدائع آثارِ قُدرتِه تعالى وهو إبقاءُ الغذاء المتسارعِ إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهراً طويلاً من غير تغيّرٍ ما، وكم نُصبَ على الظرفية مميِّزُها محذوفٌ أي كم وقتاً لبِثَ والقائلُ هو الله تعالى أو ملَكٌ مأمورٌ بذلك من قِبَله تعالى...
وقولُه عز وجل: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} عطفٌ على مقدر متعلقٍ بفعل مقدرٍ قبله بطريق الاستئنافِ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق، أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر لتُعايِنَ ما استبعَدْتَه من الإحياء بعد دهرٍ طويلٍ ولنجعلَك آيةً للناس الموجودين في هذا القرنِ بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرونِ الخاليةِ ويأخذوا منك ما طُوِي عنهم منذ أحقابٍ مِنْ علمِ التوراة كما سيأتي، أو متعلقٌ بفعل مقدرٍ بعده، أي ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما فعلنا فهو على التقديرين دليلٌ على ما ذكر من اللُبث المديدِ ولذلك فُرِّق بينه وبين الأمرِ بالنظر إلى حماره...
{قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلّ شَيْء} من الأشياء التي من جملتها ما شاهده في نفسه وفي غيره من تعاجيبِ الآثارِ {قَدِيرٌ} لا يستعصي عليه أمرٌ من الأمور، وإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدَلالة على أن علمَه بذلك مستمِرٌّ نظراً إلى أن أصلَه لم يتغيرْ ولم يتبدل، بل إنما تبدل بالعِيان وصفُه، وفيه إشعارٌ بأنه إنما قال ما قال بناءً على الاستبعاد العادي واستعظاماً للأمر...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والقرية –بالفتح- الضيعة والمصر الجامع، وأصل معنى المادة: الجمع ومنه قرية النمل لمجتمع ترابها ويعبر بالقرية عن الأمة...
{قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها} يتعجب من ذلك ويعده غريبا لا يكاد يقع {فأماته الله مئة عام ثم بعثه} قالوا معناه ألبثه مئة عام ميتا. وذلك أن الموت يكون في لحظة واحدة قال الأستاذ الإمام: وفاتهم أن من الموت ما يمتد زمنا طويلا وهو ما يكون من فقد الحس والحركة والإدراك من غير أن تفارق الروح البدن بالمرة، وهو ما كان لأهل الكهف وقد عبر عنه تعالى بالضرب على الآذان.
أقول: ولعل وجهه أن السمع آخر ما يفقد من إدراك من أخذه النوم أو الموت. وهذا الموت أو الضرب على الآذان هو المراد بالشق الثاني من قوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [العنكبوت: 42] والبعث هو الإرسال. فإذا كان هذا النوع من الموت يكون بتوفي النفس أي قبضها فزواله إنما يكون بإرسالها وبعثها...
قال الأستاذ الإمام: إنه بعد أن أراه الآية التي تكون حجة خاصة لمن رآها نبهه إلى الحجة العامة والدليل الثابت الذي يمكن أن يحتج به على البعث في كل زمان ومكان وهو سنته تعالى في تكوين الحيوان وإنشاء لحمه وعظمه فالإنشاء معناه التقوية والإنشاز معناه التنمية لأن الذي ينمو يعلو ويرتفع، كانه يقول كما أطلعناك على بعض الآيات الخاصة التي تدلك على قدرتنا على البعث نهديك إلى الآية الكبرى العامة وهي كيفية التكوين. وإنما كانت هي الآية العامة لأن القرآن يحتج بها على جميع الخلق بمثل قوله: {كما بدأكم تعودون} [الأعراف: 29] وقوله: {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104] وقوله في آيات تبين تفصيل كيفية البدء: {فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما} [المؤمنون: 14]. أقول: ويؤيد هذا التفسير قراءة أبي رضي الله عنه "وانظر إلى العظام كيف ننشيها "من الإنشاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي سياق الحديث عن سر الموت والحياة تجيء القصة الأخرى:... فلنقف نحن -على طريقتنا في هذه الظلال- عند تلك الظلال. إن المشهد ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا. مشهد الموت والبلى والخواء.. يرتسم بالوصف: (وهي خاوية على عروشها).. محطمة على قواعدها. ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية. هذه المشاعر التي ينضح بها تعبيره: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟).. إن القائل ليعرف أن الله هناك. ولكن مشهد البلى والخواء ووقعه العنيف في حسه جعله يحار: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ وهذا أقصى ما يبلغه مشهد من العنف والعمق في الإيحاء.. وهكذا يلقي التعبير القرآني ظلاله وإيحاءاته، فيرسم المشهد كأنما هو اللحظة شاخص تجاه الأبصار والمشاعر. (أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟).. كيف تدب الحياة في هذا الموات؟ (فأماته الله مائة عام. ثم بعثه).. لم يقل له كيف. إنما أراه في عالم الواقع كيف! فالمشاعر والتأثرات تكون أحيانا من العنف والعمق بحيث لا تعالج بالبرهان العقلي، ولا حتى بالمنطق الوجداني؛ ولا تعالج كذلك بالواقع العام الذي يراه العيان.. إنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلىء بها الحس، ويطمئن بها القلب، دون كلام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثم بعثه}: أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده؛ لأنّ جسده لم يبلَ كسائر الأنبياء، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر... وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذْ أحيى جسده بنفخ الروح عن غير إعادة، وأحيى طعامه بحفظه من التغيّر، وأحيى حماره بالإعادة، فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك، ولعلّ الله أطْلَع على ذلك الإحياءِ بعض الأحياء من أصفيائه...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
والقرية: المدينة من القَرْي بمعنى الجمع؛ لأنها الجامعة لأشتات الناس وأصنافهم...
و موت القرية هو موت السكان فهو من قبيل إطلاق المحل وإرادة الحال، وكذلك الحياة فليست الحياة هي حياة البناء والجدران؛ لأنه لا حياة لهما إنما الإحياء يكون لمن كانوا يسكنون البناء والجدران. سأل ذلك المار عن كيفية الإحياء وهو سر القدرة الإلهية لا يعلمه أحد من عباده ولكن يرون آثاره، ولقد أجاب سبحانه ذلك السائل عن الكيفية بالحال العملية...
وفي ذلك تصوير للإنسان بأن الموت يشبه النوم والبعث يشبه اليقظة بعد النوم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في جمع قريش عندما دعاهم دعوة الحق:"والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، وإنها للجنة أبدا أو للنار أبدا"...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وروح الآية وفحواها يلهمان أن الرجل كان مؤمنا وأهلا لوحي الله وخطابه، وأنه قال ما قال في حالة نفسية بائسة...
ويروي المفسرون عن علماء الأخبار أن القصة من قصص بني إسرائيل... وعلى كل حال فرواية علماء الأخبار من الصدر الأول لهذه القصة بإسهاب استغرق في تفسير الطبري ثلاث عشرة صفحة تدل على أنها مما كان متداولا في أوساط اليهود ثم في البيئة العربية عن طريقهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. ونعتقد أن ذلك مما كان وارداً في بعض القراطيس اليهودية التي لم تصل إلينا. وفي صدد القصة نرى من واجب المسلم أن يقف عندما اقتضت حكمة التنزيل إيراده وأن يؤمن أنه لا بد لإيرادها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة يمكن أن يكون منها قصد التمثيل على تنوع مواقف الناس من الله تعالى.
فالملك الكافر أنكر الله وقدرته واغتر حتى ظن نفسه ندّاً لله وهذا الرجل سارع إلى الاعتراف بقدرة الله حينما رأى الدليل؛ لأنه حسن النية راغب في الحق. وهكذا تتصل الآية بسابقتها وتتصل الآيتان بالسياق جميعه اتصال تذكير وتمثيل وموعظة وتسرية، وتستحكم الحجة القرآنية على السامعين؛ لأن ما فيها متسق مع حوادث يعرفونها. ولقد أُريد صرف هذه القصة إلى مفهوم معنوي ورمزي، ونحن لا نطمئن إلى مثل هذا الأسلوب ولا نرى فيه طائلاً، فالقصة لم تكون مجهولة كما تلهم روح الآية والروايات التي وردت في سياقها معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فأوردت على سبيل التذكير والتمثيل والعظة، والله أعلم.
ويبسط الحق القضية التي عدل عنها إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانه: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يُحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف نُنشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير 259} وعندما ننظر إلى بداية الآية نجدها تبدأ ب (أو)، وما بعد (أو) يكون معطوفاً على ما قبلها، فكأن الحق يريد أن يقول لنا: أو (ألم تر) إلى مثل الذي مر على قرية. وعندما تسمع كلمة (قرية) فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود، ونفهم أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها، إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة. ونلحظ كذلك أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها. والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث، فقول الحق: (أنّى يُحيي هذه الله).. يعني: كيف يُحيي الله هذه القرية بعد موتها، فكأن القائل لا يشك في أن الله يُحيي، ولكنه يريد الكيفية، والكيفية ليست مناط إيمان، فالله لم ينهنا عن التعرف على الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر على إيجاد هذا الحدث...
ولذلك يذيل الحق الآية بالقول: (قال أعلم أن الله على كل شيء قدير). ألم يكن قبل ذلك يعلم أن الله على كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم الاستدلال، وهو الآن يعلم علم المشهد، علم الضرورة، فليس مع العين أين. إذن ف (أعلم أن الله على كل شيء قدير) هي تأكيد وتعريف بقدرة الله على أن يبسط الزمن ويقبضه، وقدرة الله على الإحياء والإماتة، فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين. وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة. ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي، أي تنكمش في الشتاء في ذاتها ولا تُبدي حركة، وتظل هكذا إلى أن يذهب الشتاء، ومدة البيات الشتوي لا تحتسب من عمر الثعابين، ولذلك يقال: إن ذلك هو عملية تعليق الحياة. وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف. فأهل الكهف أيضا مرت عليهم العملية نفسها...