معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا} (81)

قوله تعالى : { ويقولون طاعة } يعني : المنافقين ، يقولون باللسان للرسول صلى الله عليه وسلم : إنا آمنا بك فمرنا ، فأمرك طاعة ، قال النحويون : أي أمرنا وشأننا أن نطيعك .

قوله تعالى : { فإذا برزوا } خرجوا .

قوله تعالى : { من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول } ، قال قتادة والكلبي : بيت أي : غير وبدل الذي عهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون التبييت بمعنى التبديل ، وقال أبو عبيدة والقتيبي : معناه : قالوا وقدروا ليلاً غير ما أعطوك نهاراً ، وكل ما قدر بليل فهو مبيت ، وقال أبو الحسن الأخفش : تقول العرب للشيء إذا قدر بيت ، يشبهونه بتقدير بيوت الشعر .

قوله تعالى : { والله يكتب } أي : يثبت ويحفظ .

قوله تعالى : { ما يبيتون } ما يزورون ، ويغيرون ، ويقدرون . وقال الضحاك عن ابن عباس : يعني ما يسرون من النفاق .

قوله تعالى : { فأعرض عنهم } ، يا محمد ولا تعاقبهم ، وقيل : لا تخبر بأسمائهم ، منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأسماء المنافقين .

قوله تعالى : { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلاً } ، أي : اتخذوه وكيلاً وكفى بالله وكيلاً وناصراً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا} (81)

ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا آخر من صفات المنافقين ومن على شاكلتهم من ضعاف الإِيمان حتى يحذرهم المؤمنون الصادقون فقال - تعالى - : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ . . . . إِلاَّ قَلِيلاً } .

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ( 81 ) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ( 82 ) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ( 83 )

والضمير فى قوله { وَيَقُولُونَ } للمنافقين ومن يلفون لفهم .

أى : أن هؤلاء المنافقين إذا أمرتم يا محمد بأمروهم عندك يقولون طاعة أى أمرنا وشأننا طاعة . يقولون ذلك بألسنتهم أما قلوبهم فهى تخالف ألسنتهم .

وقوله { طَاعَةٌ } خبر لمبتدأ محذوف وجوبا أى : أمرنا طاعة . ويجوز النصب على معنى : أطعناك طاعة . كما يقول المأمور لمن أمره : سمعاً وطاعة ، وسمع وطاعة .

قال صاحب الكشاف : ونحوه قول سيبويه : سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال له : كيف أصبحت ؟ فيقول : حمد الله وثناء عليه ، كأنه قال : أمرى وشأنى حمد الله . ولو نصب " حمد الله " كان على الفعل . والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها .

ثم حكى - سبحانه - ما يكون عليه أمر هؤلاء المنافقين بعد خروجهم من عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : { فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ } .

وقوله { بَيَّتَ } من التبييت واشتقاقه - كما يقول الفخر الرازى - من البيتوتة ، لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الإِنسان فى بيته بالليل ، فهناك تكون الخواطر أخلى ، والشواغل أقل . لا جرم سمى الفكر المستقصى مبيتا . أو من بيت الشعر ، لأن العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا فى التفكر فيه . .

والمراد : زوَّر وموَّه ودَّبر .

والمعنى : أن هؤلاء المنافقين إذا كانوا عندك - يا محمد - وأمرتهم بأمر قالوا : طاعة ، فإذا ما خرجوا من عندك وفارقوك دبر وأضمر طائفة منهم وهم رؤساؤهم { غَيْرَ الذي تَقُولُ } أى خلاف ما قلت للتلك الطائفة أو قالت لك من ضمان الطاعة . فهم أمامك يظهرون الطاعة المطلقة ، ومن خلفك يدبرون ويضمرون ما يناقض هذه الطاعة ويخالفها .

والتعبير عن الخروج بالبروز للإِشارة إلى تفاوت ما بين أحوالهم ، وتناقض مظهرهم مع خبيئتهم .

وإسناد هذا التبييت إلى طائفة منهم ، لبيان أنهم هم المتصدون له بالذات ، أما الباقون فتابعون لهم فى ذلك ، لا أنهم ثابتون على الطاعة .

وقوله { والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أى يثبته فى صحائف أعمالهم . ويفضحهم بسبب سوء أعمالهم فى الدنيا ، ثم يجازيهم على هذا النفاق بما يستحقون فى الآخرة ، فالجملة الكريمة تهديد لهم على سوء صنيعهم ، لعلهم يكفون عن هذا النفاق ، وتطمين للنبى صلى الله عليه وسلم بأنه - سبحانه - سيطلعه على مكرهم السئ لكى يتقى شرهم ، ولذا فقد أمره - سبحانه - بعدم الالتفات إليهم ، وبالتوكل عليه - تعالى - وحده فقال :

{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً } . أى : إذا كان هذا هو شأنهم يا محمد . فلا تكثرت بهم ، ولا تلتفت إليهم ، وسر فى طريقك متوكلا على الله ، ومتعمدا على رعايته وحفظه ، وكفى بالله وكيى وكفيلا لمن توكل عليه ، واتبع أمره ونهيه .

فانت ترى أن الاية الكريمة قد كشفت عن جانب من صفات المنافقين وأحوالهم ، ثم هددتهم على جرائمهم ، ورسمت للنبى صلى الله عليه وسلم الخطة الحكيمة لعلاجهم واتقاء شرهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٞ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنۡ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُمۡ غَيۡرَ ٱلَّذِي تَقُولُۖ وَٱللَّهُ يَكۡتُبُ مَا يُبَيِّتُونَۖ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلًا} (81)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم أخبر عن المنافقين، فقال سبحانه: {ويقولون طاعة} للنبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بالجهاد، وذلك أنهم دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مرنا بما شئت: فأمرك طاعة، فإذا خرجوا من عنده خالفوا، وقالوا غير الذي قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: {ويقولون طاعة} للنبي صلى الله عليه وسلم، {فإذا برزوا من عندك}: خرجوا من عندك يا محمد، {بيت طائفة}: ألفت طائفة، {منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون}، يعني الحفظة، فيكتبون ما يقولون من الكذب.

{فأعرض عنهم}: فلا تعاتبهم، {وتوكل على الله}: وثق بالله عز وجل. {وكفى بالله وكيلا}: وكفى به منيعا، فلا أحد أمنع من الله عز وجل، ويقال: وكيلا، يعني شهيدا لما يكتمون...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{وَيَقُولُونَ طاعَةٌ} يعني: الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال، خشوا الناس كخشية الله وأشدّ خشية، يقولون لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: أمرك طاعة، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه! {فَإذَا بَرزُوا مِنْ عِنْدِكَ}: فإذا خرجوا من عندك يا محمد {بيّتَ طائفةٌ منهمْ غيرَ الذِي تقولُ}: غيّر جماعة منهم ليلاً الذي تقول لهم. وكلّ عَمل عُمل ليلاً فقد بُيّت، ومن ذلك بَيّتَ العدوّ وهو الوقوع بهم ليلاً. {وَاللّه يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ}: والله يكتب ما يغيرون من قولك ليلاً في كتب أعمالهم التي تكتبها حفظته.

عن ابن عباس قوله: {وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده¹ فعابهم الله، فقال: {بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ} يقول: يغيّرون ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم.

{فأعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ على اللّهِ وكَفَى باللّهِ وَكِيلاً}.

يقول جلّ ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: فأعرض يا محمد عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم: أمرك طاعة، فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به وغيّروه إلى ما نهيتهم عنه، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة، وارض لهم بي منتقما منهم، وتوكل أنت يا محمد على الله. يقول: أي وحسبك بالله وكيلاً: أي فيما يأمرك، ووليّا لها، ودافعا عنك وناصرا.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} يعني المنافقين، أي أمرنا طاعة. {فَإِذَا بَرَزُوا مِن عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} والتبييت كل عمل دُبر ليلاً...

وفي تسمية العمل بالليل بياتاً قولان: أحدهما: لأن الليل وقت المبيت. والثاني: لأنه وقت البيوت...

وفي المراد بقوله تعالى: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} قولان: أحدهما: أنها غيّرت ما أضمرت من الخلاف فيما أمرتهم به أو نهيتهم عنه، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والسدي.

والثاني: معناه فدبَّرت غير الذي تقول على جهة التكذيب، وهذا قول الحسن. {وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} فيه قولان: أحدهما: يكتبه في اللوح المحفوظ ليجازيهم عليه. والثاني: يكتبه بأن ينزله إليك في الكتاب، وهذا قول الزجاج...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَيَقُولُونَ} إذا أمرتهم بشيء {طَاعَةٌ} بالرفع أي أمرنا وشأننا طاعة. ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة. وهذا من قول المرتسم: سمعاً وطاعة. وسمع وطاعة... والرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها. {بَيَّتَ طَائِفَةٌ}: زورت طائفة وسوت. {غَيْرَ الذى تَقُولُ}: خلاف ما قلت وما أمرت به. أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنهم أبطنوا الرد لا القبول، والعصيان لا الطاعة. وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون. والتبييت: إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، يقال: هذا أمر بيت بليل. وإما من أبيات الشعر، لأن الشاعر يدبرها ويسويها. {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} يثبته في صحائف أعمالهم، ويجازيهم عليه على سبيل الوعيد. أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن إبطانهم يغني عنهم.

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تحدّث نفسك بالانتقام منهم.

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في شأنهم، فإنّ الله يكفيك معرّتهم وينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعز أنصاره.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحفظ من أطاعه ومن عصاه ليبلغ ذلك من أرسله، وكان سبحانه وتعالى قد أشار له إلى الإعراض عن ذلك، لكونه لا يحيط بذلك علماً وإن اجتهد؛ شرع يخبره ببعض ما يخفونه فقال حاكياً لبعض أقوالهم مبيناً لنفاقهم فيه وخداعهم {ويقولون} أي إذا أمرتهم بشيء من أمرنا وهم بحضرتك {طاعة} أي كل طاعة منا لك دائماً، نحن ثابتون على ذلك، والتنكير للتعظيم بالتعميم {فإذا برزوا} أي خرجوا {من عندك بيَّت طائفة} هم في غاية التمرد {منهم} أي قدرت وزورت على غاية من التقدير والتحرير مع الاستدارة والتقابل كفعل من يدبر الأمور ويحكمها ويتقنها ليلاً {غير الذي تقول} أي تجدد قوله لك في كل حين من الطاعة التي أظهروها أو غير قولك الذي بلغته لهم... ولما كان الإنسان من عادته إثبات الأمور التي يريد تخليدها بالكتابة أجرى الأمر على ذلك فقال: {والله} أي والحال أن الملك المستجمع لصفات الكمال {يكتب ما يبيتون} أي يجددون تبييته كلما فعلوه، وهو غني عنه ولكن ذلك ليقربهم إياه يوم يقوم الأشهاد، ويقيم به الحجة عليهم على ما جرت به عاداتهم، أو يوحى به إليك فيفضحهم بكتابته وتلاوته مدى الدهر، فلا يظنوا أن تبييتهم يغنيهم شيئاً. ولما تسبب عن ذلك كفايته صلى الله عليه وسلم هذا المهم قال: {فأعرض عنهم} أي فإنهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم {وتوكل} أي في شأنهم وغيره {على الله} أي الذي لا يخرج شيء عن مراده {وكفى بالله} أي المحيط علماً وقدرة {وكيلاً *} فستنظر كيف تكون العاقبة في أمرك وأمرهم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

زعم بعض المفسرين أن الأمر بالإعراض عن المنافقين هنا منسوخ بقوله تعالى: {جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة:73] ورده الفخر الرازي، وقالوا مثله في الآية السابقة، وقال الأستاذ الإمام إنهم لا يكادون يتركون آية من آيات العفو والصفح والحلم ومكارم الأخلاق في معاملة المخالفين إلا ويزعمون نسخه. وأنكر ذلك أشد الإنكار. وليس عندي شيء عنه في تفسير هذه الآيات غير هذا وما تقدم قريبا من قوله بأن الآية ليست في المنافقين خاصة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

بعد ذلك يحكي السياق عن حال طائفة أخرى -في الصف المسلم- أم لعلها هي طائفة المنافقين يذكر عنها فعلا جديدا، وفصلا جديدا! ومع الحكاية التنفير من الفعلة؛ ومع التنفير التعليم والتوجيه والتنظيم.. كل ذلك في آيات قليلة، وعبارات معدودة:

(ويقولون: طاعة. فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول -والله يكتب ما يبيتون- فأعرض عنهم، وتوكل على الله، وكفى بالله وكيلا. أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا)..

إن هذا الفريق من الناس إذا كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن وما فيه من التكاليف.. قالوا: (طاعة).. قالوها هكذا جامعة شاملة. طاعة مطلقة. لا اعتراض ولا استفهام ولا استيضاح ولا استثناء! ولكن ما إن يخرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تبيت طائفة منهم غير الذي تقول؛ وتروح في ما بينها تتآمر على عدم التنفيذ؛ وعلى اتخاذ خطة للتخلص من التكليف.

أم لعل النص يصور حال الجماعة المسلمة كلها؛ ويستثني منها هذه الطائفة ذات الشأن الخاص، والتصرف الخاص.. ويكون المعنى أن المسلمين يقولون: طاعة. بجملتهم. ولكن طائفة منهم -وهي هذه الطائفة المنافقة- إذا خرجت بيت أفرادها غير ما قالوا.. وهي صورة ترسم تلك الخلخلة بعينها في الصف المسلم. فإن هؤلاء مندسون فيه على كل حال. وتصرفهم على هذا النحو يؤذي الصف ويخلخله؛ والجماعة المسلمة تخوض المعركة في كل ميادينها وبكل قوتها!

والله -سبحانه- يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم والمخلصين في الصف. يطمئنهم بأن عينه على هذه الطائفة التي تبيت وتمكر. وشعور المسلمين بأن عين الله على المبيتين الماكرين يثبت قلوبهم، ويسكب فيها الطمأنينة إلى أن هذه الطائفة لن تضرهم شيئا بتآمرها وتبيتها. ثم هي تهديد ووعيد للمتآمرين المبيتين؛ فلن يذهبوا مفلحين، ولن يذهبوا ناجين:

(والله يكتب ما يبيتون)..

وكان الخطة التي وجه الله إليها نبيه صلى الله عليه وسلم في معاملة المنافقين، هي أخذهم بظاهرهم -لا بحقيقة نواياهم- والإعراض والتغاضي عما يبدر منهم.. وهي خطة فتلتهم في النهاية، وأضعفتهم، وجعلت بقاياهم تتوارى ضعفا وخجلا.. وهنا طرف من هذه الخطة:

(فأعرض عنهم).

ومع هذا التوجيه بالإغضاء عنهم، التطمين بكلاءة الله وحفظة مما يبيتون:

(وتوكل على الله.. وكفى بالله وكيلاً)..

نعم.. وكفى بالله وكيلا. لا يضار من كان وكيله؛ ولا يناله تآمر ولا تبيت ولا مكيدة..

وكأنما كان الذي يدفع هذه الطائفة إلى أن تقول في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع القائلين: (طاعة) فإذا خرجت بيتت غير الذي تقول.. كأنما كان هذا بسبب شكهم في مصدر ما يأمرهم به الرسول -صلى الله عليه وسلم -وظنهم أن هذا القرآن من عنده! وحين يوجد مثل هذا الشك لحظة يتوارى سلطان الأمر والتكليف جملة. فهذا السلطان مستمد كله من الاعتقاد الجازم الكامل، بأن هذا كلام الله، وبأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.. ومن ثم كان هذا التوكيد الشديد الجازم المكرر على هذه الحقيقة..

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول}

إنما يقول المسلمون جميعا: أمرنا معك طاعة وخضوع لما تطلب، فليس لنا إلا أن نطيعك، ولا يجوز أن نخالفك لأن طاعتك هي طاعة الله، فأنت فينا المطاع دائما وقد قصرنا أحوالنا على طاعتك.

هذا قول المسلمين عامة، ولكن المؤمنين يقولون ويذعنون ظاهرا وباطنا، وسرا وإعلانا، والمنافقون يقولون ذلك بظاهر من القول، وهو ينوون المخالفة ويصرون عليها ولا يتركونها، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: {فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول}، أي فإذا خرجوا من عندك بارزين ظاهرين غير مستخفين، أخذوا يتدبرون فيما بينهم الأمر الذي يكون مخالفا للطاعة والتعبير عن الخروج بالبروز للإشارة إلى تفاوت ما بين أحوالهم! وتضارب مظهرهم مع خبيئتهم. والمعنى -على أي حال- أن هذه الطائفة بعد خروجها من عندك، تدبر أمر مخالفتك، وتحسن هذه المخالفة وتزينها لنفسها في خفاء، والله يعلم ما يسرون وما يلعنون ولذا قال: {والله يكتب ما يُبَيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله} والله سبحانه وتعالى يعلم ما يبيتون، فلم يكن خافيا قبل أن يقع، ولم يزدد به علما بعد الوقوع، فهو يعلم ما كان وما يكون إلى يوم الدين. وفي هذه الجملة تهديد لهم وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم، بل إن علمه به علم ما يكتب وما يسجل عليهم، ليكون مرئيا لهم في صحائف أعمالهم يوم القيامة، وليعلم نبيه بتدبيرهم السيئ ونيتهم، ليتقي شرهم ويحفظه من أذاهم، فإنه هو ناصره وكافله. وإذا كان الله تعالى يكتب عليهم ما يخفونه، فليس للنبي أن يأبه لهم والله حافظه وكالئه، ولذلك أمره بألا يلتفت إليهم، ولا يأخذه هم في شأنهم وليعتمد على الله،وليكل إليه أموره، ولا يكل أموره إلى غيره، وإنه إن توكل على الله حق التوكل، حفظه، وكفاه شرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: {وكفى بالله وكيلا}.

والمعنى: يكفيك أن الله تعالى هو الموكل بأمرك، وهو حافظك وكالئك وحاميك، ومن كان الله تعالى وكيله والموكل بأموره، فلن يضيع أبدا.

اللهم هيئ للمسلمين أسباب العزة، ووفقهم للعمل الصالح، واجعلهم يكلون مآل أمورهم إليك، إنك نعم المولى ونعم النصير.