قوله تعالى : { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن } ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، كانوا يسمونه رحمان اليمامة . { أنسجد لما تأمرنا } قرأ حمزة والكسائي يأمرنا بالياء ، أي : لما يأمرنا محمد بالسجود له ، وقرأ الآخرون بالتاء ، أي : لما تأمرنا أنت يا محمد ، { وزادهم } يعني : زادهم قول القائل لهم : اسجدوا للرحمن { نفوراً } عن الدين والإيمان .
ثم أخبر - سبحانه - عن جهالات المشركين وسخافاتهم فقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } .
أى : وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه لهؤلاء المشركين : اجعلوا سجودكم وخضوعكم للرحمن وحده ، { قَالُواْ } على سبيل التجاهل وسوء الأدب والجحود : { وَمَا الرحمن } . أى : وما الرحمن الذى تأمروننا بالسجود له { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } أى : أنسجد لما تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه ، ومن غير أن نؤمن به .
{ وَزَادَهُمْ نُفُوراً } أى : وزادهم الأمر بالسجود نفورا عن الإيمان وعن السجود لله الواحد القهار .
فالآية الكريمة تحكى ما جبل عليه أولئك المشركون من استهتار وتطاول وسوء أدب ، عندما يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إخلاص العبادة لله - عز وجل ، وإلى السجود للرحمن الذى تعاظمت رحماته ، وتكاثرت آلاؤه .
ولقد بلغ من تطاول بعضهم أنهم كانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا ذاك الذى باليمامة ، يعنون به مسيلمة الكذاب .
ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين ، يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار :
( وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن : قالوا : وما الرحمن ? أنسجد لما تأمرنا ? وزادهم نفورا ) !
وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول ؛ تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فهم لا يوقرون ربهم ، فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية ، فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا ? وهم ينفرون من اسم الله الكريم ، زعمون أنهم لا يعرفون اسم( الرحمن )ويسألون عنه بما ، زيادة في الاستهتار . ( قالوا : وما الرحمن ? ) . ولقد بلغ من تطاولهم واستخفافهم أن يقولوا : ما نعرف الرحمن إلا ذاك باليمامة . يعنون به مسيلمة الكذاب !
لما جرى وصف الله تعالى بالرحمان مع صفات أخر استطرد ذكر كُفر المشركين بهذا الوصف . وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم ( الرحمان ) هو من وضع القرآن ولم يكن معهوداً للعرب ، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مُسيلمة :
سموْتَ بالمجد يابن الأكرمين أباً *** وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة ، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصداً بالتورّك على النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جارياً على مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء ؛ فكانوا يقولون : انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن . وفي ذلك نزل قوله تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيّاً مَّا تدعوا فله الأسماء الحسنى } وقد تقدم في آخر سورة الإسراء ( 110 ) وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء .
والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عِنادهم وبهتانهم ، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم .
والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام ، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام ، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مراداً هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يُسلِموا . ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبيءُ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ثم قال : فإن هم أطاعوا لِذلك فأعلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في اليوم والليلة الخ . ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها .
وواو العطف في قولهم { وما الرحمن } لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وُجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمان ، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى : { قال إني جاعلُك للناس إماماً قال ومِن ذرّيّتي } [ البقرة : 124 ] . و { ما } من قوله { وما الرحمن } استفهامية .
والاستفهام مستعمل في الاستغراب ، يعنون تجاهل هذا الاسم ، ولذلك استفهموا عنه بما دون ( مَن ) باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم .
والاستفهام في { أنسجد لما تأمرنا } إنكار وامتناع ، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن { ما } نكرة موصوفة ، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت { ما } موصولة ، وحُذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما اتصل هو به لدلالة ما سبق عليه ، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنيّة انفراد الله به دون غيره ، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى : { وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون } [ القلم : 43 ] ، أي فيأبَون ، وقال : { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } [ المرسلات : 48 ] . ويدل على ذلك قوله { وزادهم نفوراً } فالنفور من السجود سابق قبل سماع اسم الرحمن .
وقرأ الجمهور { تأمرنا } بتاء الخطاب . وقرأه حمزة والكسائي بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافِهون به النبي صلى الله عليه وسلم .
والضمير المستتر في { زادهم } عائد إلى القول المأخوذ من { وإذا قيل لهم } . والنفور : الفرار من الشيء . وأطلق هنا على لازمه وهو البعد . وإسناد زيادة لنفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بُعداً من الإيمان ، وهذا كقوله في سورة نوح ( 6 ) { فلم يَزدْهم دُعائي إلا فراراً } .
وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق . ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمان ، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عُزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي هنا مخالفاً لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله : { وتوكل على الحي الذي لا يموت } [ الفرقان : 58 ] الآيات الثلاث . وسنّ الرسول عليه السلام السجود في هذا المَوضع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرّهم:"اسْجُدُوا لِلرّحْمَنِ": أي اجعلوا سجودكم لله خالصا دون الآلهة والأوثان، قالوا: "أنَسْجُدُ لِمَا تَأمُرُنَا"...
وقوله: "وَزَادَهُمْ نُفُورا "يقول: وزاد هؤلاء المشركين قول القائل لهم: اسجدوا للرحمن من إخلاص السجود لله، وإفراد الله بالعبادة بعدا مما دعوا إليه من ذلك فرارا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وزادهم نفورا} أي زادهم دعاؤه إلى عبادة الرحمن نفورا من رسول الله.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا الرحمن} يجوز أن يكون سؤالاً عن المسمى به؛ لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم والسؤال عن المجهول ب «ما». ويجوز أن يكون سؤالاً عن معناه، لأنه لم يكن مستعملاً في كلامهم كما استعمل الرحيم والرحوم والراحم. أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله تعالى {لِمَا تَأْمُرُنَا} أي للذي تأمرناه، بمعنى تأمرنا سجوده؛ على قوله: أمرتك الخير. أو لأمرك لنا. وقرئ بالياء، كأن بعضهم قال لبعض: أنسجد لما يأمرنا محمد صلى الله عليه وسلم، أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو.
{وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان} فهو خبر عن قوم قالوا هذا القول. ويحتمل أنهم جهلوا الله تعالى، ويحتمل أنهم إن عرفوه لكنهم جحدوه، ويحتمل أنهم وإن اعترفوا به لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى وكثير من المفسرين على هذا القول الأخير.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر إحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم فقال: {وإذا قيل لهم} أي هؤلاء الذين يتقلبون في نعمه، ويغذوهم بفضله وكرمه، من أيّ قائل كان: {اسجدوا} أي اخضعوا بالصلاة وغيرها {للرحمن} الذي لا نعمة لكم إلا منه {قالوا} قول عال متكبر كما تقدم في معنى {ظهيراً}: {وما الرحمن} متجاهلين عن معرفته فضلاً عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل، وقال ابن العربي: إنهم إما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم الصفة، دون الموصوف.
ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه، بقولهم: {أنسجد لما تأمرنا} فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره والإنكار على الداعي إليه أيضاً بأداة ما لا يعقل {وزادهم} هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكراً للنعم وطمعاً في الزيادة {نفوراً} لما عندهم من الحرارة الشيطانية التي تؤزهم أزاً، فلا نفرة توازي هذه النفرة، ولا ذم أبلغ منه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومع هذا فإن أولئك المتبجحين المتطاولين، يقابلون الدعوة إلى عبادة الرحمن باستخفاف واستنكار: (وإذا قيل لهم: اسجدوا للرحمن: قالوا: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وزادهم نفورا)! وهي صورة كريهة من صور الاستهتار والتطاول؛ تذكر هنا للتهوين من وقع تطاولهم على الرسول [صلى الله عليه وسلم] فهم لا يوقرون ربهم، فيتحدثون بهذه اللهجة عن ذاته العلية، فهل يستغرب من هؤلاء أن يقولوا عن الرسول ما قالوا؟ وهم ينفرون من اسم الله الكريم، زاعمون أنهم لا يعرفون اسم (الرحمن) ويسألون عنه بما، زيادة في الاستهتار. (قالوا: وما الرحمن؟). ولقد بلغ من تطاولهم واستخفافهم أن يقولوا: ما نعرف الرحمن إلا ذاك باليمامة. يعنون به مسيلمة الكذاب!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى وصف الله تعالى بالرحمان مع صفات أخر استطرد ذكر كُفر المشركين بهذا الوصف. وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم (الرحمان) هو من وضع القرآن ولم يكن معهوداً للعرب، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مُسيلمة:
سموْتَ بالمجد يابن الأكرمين أباً *** وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصداً بالتورّك على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جارياً على مقاييس لغتهم،ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء؛ فكانوا يقولون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيّاً مَّا تدعوا فله الأسماء الحسنى} وقد تقدم في آخر سورة الإسراء (110) وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء. والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عِنادهم وبهتانهم، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم. والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مراداً هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يُسلِموا.
ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبيءُ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قال: فإن هم أطاعوا لِذلك فأعلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في اليوم والليلة الخ. ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها...
و {ما} من قوله {وما الرحمن} استفهامية. والاستفهام مستعمل في الاستغراب، يعنون تجاهل هذا الاسم، ولذلك استفهموا عنه بما دون (مَن) باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم. والاستفهام في {أنسجد لما تأمرنا} إنكار وامتناع، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن {ما} نكرة موصوفة، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت {ما} موصولة، وحُذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما اتصل هو به لدلالة ما سبق عليه، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنيّة انفراد الله به دون غيره، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى: {وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم: 43]، أي فيأبَون، وقال: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات: 48]. ويدل على ذلك قوله {وزادهم نفوراً} فالنفور من السجود سابق قبل سماع اسم الرحمن...
والنفور: الفرار من الشيء. وأطلق هنا على لازمه وهو البعد. وإسناد زيادة لنفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بُعداً من الإيمان، وهذا كقوله في سورة نوح (6) {فلم يَزدْهم دُعائي إلا فراراً}. وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق.
ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمان، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عُزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي هنا مخالفاً لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] الآيات الثلاث.
وسنّ الرسول عليه السلام السجود في هذا المَوضع.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ} الذي خلقكم من موقع رحمته التي امتدت إلى كل جوانب حياتكم فأفاضت عليكم النعم الوفيرة في كل زمان ومكان، {قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ} كأنّهم لا يعرفون عنه شيئاً، كما لو كنت تحدثهم عن شخص بشري مسمّىً بهذا الاسم، إمعاناً منهم في العناد والتجاهل والابتعاد عن مواجهة الحقيقة المطلقة المتمثلة بالله في إشراق نور معرفته التي تمتد في العقل والقلب والشعور، وتتحرك في كل ظاهرة كونية من ظواهر الوجود، ناطقةٍ بعظمته، دالةٍ على وجوده، ويتصاعد جوّ الاستكبار والإصرار في منطقهم، ليتحدثوا معه من منطق الاستعلاء الذي يشعرون به تجاهه. {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هل أنت الشخص الذي يفرض إرادته علينا بالسجود لمن لا نعرفه، أو لما لا نعرفه، وإن لم نقتنع به، فمن أنت؟ وما موقعك؟ وبم امتزت علينا لنطيعك في ما تأمرنا، ولنتعبد بأقوالك وتعليماتك؟ {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} وهروباً منه وابتعاداً عنه، لأنهم لا يريدون الالتزام بالخط المستقيم الذي يحررهم من كل عوامل الانحراف، ومن نوازع العبودية والخضوع للشيطان. وقد نلاحظ في أسلوب المشركين، أن المسألة عندهم لم تكن مسألة مناقشة الرسول في طرحه عليهم عبادة الله الرحمن، بل كانت مسألة هروبٍ من الدخول في البحث الجدِّي للقضية، لأنهم كانوا يستهدفون مواجهة الدعوة بكل الأساليب المتعنتة، أو الساخرة، من أجل إسقاط روح الرسول، وتشويه صورة الرسالة. وهذا ما يجب للداعية أن يعيشه عندما ينطلق أعداء الدعوة لمواجهته بالأساليب المماثلة بغية إسقاط روحه، وتشويه دعوته، فلا ينفعل، ولا يسقط، ولا يتزلزل، بل يواجه ذلك كله، بما يستحقه من الردّ الحاسم بالحكمة، والقوّة، والأسلوب المتّزن المنفتح على كل جوانب القضية وأعماق المشكلة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لا شكّ أنّ أنسب اسم من أسماء الله للدعوة إلى الخضوع والسجود بين يديه، هو ذلك الاسم الممتلئ جاذبية «الرحمن» مع مفهوم رحمته العامّة الواسعة، لكن أولئك بسبب عمى قلوبهم ولجاجتهم، لم يظهروا تأثراً حيال هذه الدعوة، بل تلقوها بالسخرية والاستهزاء، وقالوا على سبيل التحقير: (وما الرحمن) كما قال فرعون حيال دعوة موسى (عليه السلام): (وما رب العالمين). فهؤلاء لم يكونوا على استعداد حتى ليقولوا: «ومن الرحمن» أو «من ربّ العالمين». ورغم أن بعض المفسّرين يرى أن اسم «الرحمن» لم يكن مأنوساً بين عرب الجاهلية، وحينما سمعوا هذا الوصف من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طرحوا هذا السؤال على سبيل التعجب واقعاً، حتى كان يقول البعض منهم: «ما نعرف الرحمن إلاّ رجلا باليمامة» (يعنون به مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوّة كذباً، وعرفه وقومه بهذا الاسم «الرحمن»). لكن هذا القول بعيد جدّاً، لأنّ مادة هذا الاسم وصيغته كلاهما عربيان، وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتلو دائماً في بداية السور القرآنية، الآية (بسم الله الرحمن الرحيم) وعلى هذا فلم يكن هدف أُولئك إلاّ التحجج والسخرية، والعبارة التالية شاهد على هذه الحقيقة أيضاً لأنهم يقولون: (أنسجد لما تأمرنا). وبما أن تعاليم القادة الإلهيين تؤثر في القلوب المؤهلة فقط، فإنّ عمي القلوب من المعاندين مضافاً إلى عدم انتفاعهم بها، فإنّها تزيدهم نفوراً لأنّ آيات القرآن كقطرات المطر الباعثة على الحياة تنمي الورد والخضرة في البستان، والشوك في الأرض السبخة، ولذا لا مجال للتعجب حيث يقول: (وزادهم نفوراً).