قوله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } الآية . قال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، إن الرجال يغزون ولا نغزو ، ولهم ضعف ما لنا من الميراث ، فلو كنا رجالاً غزونا كما غزوا ، وأخذنا من الميراث مثل ما أخذوا . فنزلت هذه الآية .
وقيل : لما جعل الله عز وجل للذكر مثل حظ الأنثيين في الميراث ، قالت النساء : نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الرجال ، لأنا ضعيفات وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منا ، فأنزل الله تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } . وقال قتادة والسدي : لما أنزل قوله : { للذكر مثل حظ الأنثيين } ، قال الرجل إنا لنرجو أن نفضل على السناء بحسناتنا في الآخرة ، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث .
قوله تعالى : { للرجال نصيب مما اكتسبوا } من الأجر .
قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما اكتسبن } . معناه : أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء ، وذلك أن الحسنة تكون بعشر أمثالها يستوي فيها الرجال ، والنساء ، وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء . وقيل معناه : ( للرجال نصيب مما اكتسبوا ) من أمر الجهاد ( وللنساء نصيب مما اكتسبن ) من طاعة الأزواج ، وحفظ الفروج . قوله تعالى : { واسألوا الله من فضله } ، قرأ ابن كثير والكسائي : ( وسلوا ، وسل ، وفسل ) إذا كان قبل السين واو ، أو فاء بغير همز ، ونقل حركة الهمزة إلى السين ، والباقون بسكون السين مهموزاً ، فنهى الله تعالى عن التمني لما فيه من دواعي الحسد ، والحسد : أن يتمنى زوال النعمة عن صاحبه ، سواء تمناها لنفسه أم لا ، وهو حرام والغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه وهو جائز . قال الكلبي : لا يتمنى الرجل مال أخيه ، ولا امرأته ، ولا خادمه ، ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله ، وهو كذلك في التوراة وذلك في القرآن . قوله : { واسألوا الله من فضله } قال ابن عباس : ( واسألوا الله من فضله ) أي : من رزقه ، وقال سعيد بن جبير : من عبادته ، فهو سؤال التوفيق للعبادة . قال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي . { إن الله كان بكل شيء عليماً } .
ثم نهى - سبحانه - عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من المال ونحوه مما يجرى فيه التنافس ، وبين - سبحانه - أنه قد جعل لكم إنسان حقا معينا فيما تركه الوالدان والأقربون فقال - تعالى - : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ . . . شَهِيداً } .
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 32 ) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ( 33 )
روى المفسرون فى سبب نزول الآية الأولى روايات منها ما رواه الإِمام أحمد والترمذى عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث فأنزل الله - تعالى - { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } .
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان ، فلما ورثوا وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين تمنى النساء أن لو جعل أنصباؤهن كأنصباء الرجال . وقال الرجال : إنا لنرجوا أن نفضل على النساء بحسناتنا فى الآخرة كما فضلنا عليهن فى الميراث فنزلت { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } .
والتمنى المنهى عنه هنا : هو الذى يتضمن معنى الطمع فيما فى يد الغير ، والحسد له على ما أعطاه الله من مال أو جاه أو غير ذلك مما يجرى فيه التنافس بين الناس وذلك لأن التمنى بهذه الصورة يؤدى إلى شقاء النفس ، وفساد الخلق والدين ، ولأنه أشبه ما يكون بالاعتراض على قسمة الخالق العليم الخبير بأحوال خلقه وبشئون عباده .
ولا يدخل فى التمنى المنهى عنه ما يسميه العلماء بالغبطة ، وهى أن يتمنى الرجل أن يكون له مثل ما عند غيره من خير دون أن ينقص شئ مما عند ذلك الغير .
قال صاحب الكشاف : قوله { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ } نهوا عن التحاسد وعن تمنى ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال ، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد ، وبما يصلح المقسوم له من بسط فى الرزق أو قبض { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم الله به ، علماً بأن ما قسم له هو مصلحته ، ولو كان خلافه لكان مفسدة له ، ولا يحسد أخاه على حظه .
وقوله - تعالى - { بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن } تعليل للنهى السابق . أى لكل من فريقى الرجال والنساء حظ مقدر مما اكتسبوه من أعمال ، ونصيب معين فيما ورثوه أو أصابوه من أموال ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يليق بعاقل أن يتمنى خلاف ما قسم الله له من رزق ، بل عليه أن يرضى بما قسم الله له . فالله - تعالى - هو الذى قدر أرزاق الرجال والنساء على حسب ما تقتضيه حكمته وعلمه ، وهو الذى كلف كل فريق منهم بواجبات وأعمال تليق باستعداده وتكوينه .
وقوله { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } عطف على النهى . فكأنه قيل : لا تتمنوا ولا تتطلعوا إلى ما فى أيدى غيركم ، ولا تحسدوه على ما رزقه الله ، بل اجعلوا تجاهكم إلى الله وحده ، والتمسوا منه ما تشاءوه من نعمه الجليلة ، ومن حظوظ الدنيا والآخرة ، فهو القائل
{ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم } وحذف المفعول من الجملة الكريمة لإِفادة العموم . أى : واسألوا الله ما شئتم من إحسانه الزائد ، وإنعامه المتكاثر حتى تطمئن نفوسكم ، ويبتعد عنها الطمع والقلق والألم .
قال ابن كثير : قوله { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } أى لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض ؛ فإن التمنى لا يجدى شيئاً ، ولكن سلونى من فضلى أعطكم فإنى كريم وهاب . روى أبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أحب عباد الله إلى الله للذى يحب الفرج " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أى إن الله - تعالى - كان وما زال عليما بكل شئ من شئون هذا الكون ، وقد وزع - سبحانه - أرزاقه ومواهبه على عباده بمقتضى علمه وحكمته ، فجعل فيهم الغنى والفقير ، فيحتاج بعضهم إلى بعض ، وليتبادلوا المنافع التى لا غنى لهم عنها ، وكلف كل فريق منهم بما يتناسب مع تكونيه واستعداده { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }
وفي سياق الحديث عن الأموال ، وتداولها في الجماعة ، تجيء تكملة فيما بين الرجال والنساء من ارتباطات ومعاملات . وفيما كان من عقود الولاء وعلاقاتها بنظام التوريث العام . الذي سبق تفصيله في أوائل السورة :
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض . . للرجال نصيب مما اكتسبوا ، وللنساء نصيب مما اكتسبن . . واسألوا الله من فضله . إن الله كان بكل شيء عليما . ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون . والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . إن الله كان على كل شيء شهيدًا . .
والنص عام في النهي عن تمني ما فضل الله بعض المؤمنين على بعض . . من أي أنواع التفضيل ، في الوظيفة والمكانة ، وفي الاستعدادات والمواهب ، وفي المال والمتاع . . وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة . . والتوجه بالطلب إلى الله ، وسؤاله من فضله مباشرة ؛ بدلا من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت ؛ وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد ؛ ومن حنق كذلك ونقمة ، أو من شعور بالضياع والحرمان ، والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور . . وما قد ينشأ عن هذا كله من سوء ظن بالله ؛ وسوء ظن بعدالة التوزيع . . حيث تكون القاصمة ، التي تذهب بطمأنينة النفس ، وتورث القلق والنكد ؛ وتستهلك الطاقة في وجدانات خبيثة ، وفي اتجاهات كذلك خبيثة . بينما التوجه مباشرة إلى فضل الله ، هو ابتداء التوجه إلى مصدر الإنعام والعطاء ، الذي لا ينقص ما عنده بما أعطى ، ولا يضيق بالسائلين المتزاحمين على الأبواب ! وهو بعد ذلك موئل الطمأنينة والرجاء ؛ ومبعث الإيجابية في تلمس الأسباب ، بدل بذل الجهد في التحرق والغيظ أو التهاوي والانحلال !
النص عام في هذا التوجيه العام . ولكن موضعه هنا من السياق ، وبعض الروايات عن سبب النزول ، قد تخصص من هذا المعنى الشامل تفاوتًا معينًا ، وتفضيلا معينا هو الذي نزل هذا النص يعالجه . . هو التفاضل في أنصبة الرجال وأنصبة النساء . . كما هو واضح من سياق الآية في عمومها بعد ذلك . . وهذا الجانب - على أهميته الكبرى في تنظيم العلاقة بين شطري النفس البشرية وإقامتها على الرضا وعلى التكامل ؛ وإشاعة هذا الرضا - من ثم - في البيوت وفي المجتمع المسلم كله ؛ إلى جانب إيضاح الوظائف المنوعة فيه بين الجنسين والمهام . . هذا الجانب على أهميته هذه لا ينفي عموم النص مع خصوص السبب . . ولهذا روت التفاسير المأثورة ، هذا المعنى وذاك :
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، تغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث . . فأنزل الله : ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) .
ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه . من حديث الثوري ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله . لا نقاتل فنستشهد ، ولا نقطع الميراث . . فنزلت الآية . . ثم أنزل الله : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم ، من ذكر أو أنثى ) . . الآية .
وقال السدي في الآية : إن رجالاً قالوا : إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان ! وقالت النساء : إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء ، فإننا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا ! فأبى الله ذلك ، ولكن قال لهم : سلوني من فضلي . قال ليس بعرض الدنيا . . وروى مثل ذلك عن قتادة . . كذلك وردت روايات أخرى بإطلاق معنى الآية :
قال علي بن أبى طلحة عن ابن عباس في الآية ، قال : " ولا يتمنى الرجل فيقول : ليت لي مال فلان وأهله . فنهى الله عن ذلك . ولكن يسأل من فضله " . . وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا . .
ونجد في الأقوال الأولى ظلالاً من رواسب الجاهلية في تصور ما بين الرجال والنساء من روابط ؛ كما نجد روائح للتنافس بين الرجال والنساء ، لعلها قد أثارتها تلك الحريات والحقوق الجديدة التي علمها الإسلام للمرأة ، تمشيًا مع نظريته الكلية في تكريم الإنسان بجنسيه ، وفي إنصاف كل جنس فيه وكل طبقة وكل أحد . . إنصافه حتى من نفسه التي بين جنبيه . .
ولكن الإسلام إنما كان يستهدف من هذا كله تحقيق منهجه المتكامل بكل حذافيره . لا لحساب الرجال ، ولا لحساب النساء ! ولكن لحساب " الإنسان " ولحساب " المجتمع المسلم " ولحساب الخلق والصلاح والخير في إطلاقه وعمومه . وحساب العدل المطلق المتكامل الجوانب والأسباب .
إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف ؛ وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء . والفطرة ابتداء جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة ؛ وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة ؛ لتنوط بكل منهما وظائف معينة . . لا لحسابه الخاص . ولا لحساب جنس منهما بذاته . ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم ، وتنتظم ، وتستوفي خصائصها ، وتحقق غايتها - من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة - عن طريق هذا التنوع بين الجنسين ، والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف . . وعن طريق تنوع الخصائص ، وتنوع الوظائف ، ينشأ تنوع التكاليف ، وتنوع الأنصبة ، وتنوع المراكز . . لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى . . المسماة بالحياة . .
وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداء ، ثم يدرس الجانب الخاص منه بالارتباطات بين شطري النفس الواحدة ، لا يبقى مجال لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات ، ولا كذلك للجدل الحديث ، الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام . ويطغى أحيانًا على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام !
إنه عبث تصوير الموقف كما لو كان معركة حادة بين الجنسين ، تسجل فيه المواقف والانتصارات . . ولا يرتفع على هذا العبث محاولة بعض الكتاب الجادين تنقص " المرأة " وثلبها ، وإلصاق كل شائنة بها . . سواء كان ذلك باسم الإسلام أو باسم البحث والتحليل . . فالمسألة ليست معركة على الإطلاق ! إنما هي تنويع وتوزيع . وتكامل . وعدل بعد ذلك كامل في منهج الله .
يجوز أن تكون هناك معركة في المجتمعات الجاهلية ؛ التي تنشى ء أنظمتها من تلقاء نفسها ؛ وفق هواها ومصالحها الظاهرة القريبة . أو مصالح طبقات غالبة فيها ، أوبيوت ، أو أفراد . . ومن ثم تنتقص من حقوق المرأة لأسباب من الجهالة بالإنسان كله ، وبوظيفة الجنسين في الحياة ، أو لأسباب من المصالح الاقتصادية في حرمان المرأة العاملة من مثل أجر الرجل العامل في نفس مهنتها . أو في توزيع الميراث ، أو حقوق التصرف في المال - كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية الحديثة !
فأما في المنهج الإسلامي فلا . . لا ظل للمعركة . ولا معنى للتنافس على أعراض الدنيا . ولا طعم للحملة على المرأة أو الحملة على الرجل ؛ ومحاولة النيل من أحدهما ، وثلبه ، وتتبع نقائصه ! . . ولا مكان كذلك للظن بأن هذا التنوع في التكوين والخصائص ، لا مقابل له من التنوع في التكليف والوظائف ، ولا آثار له في التنوع في الاختصاصات والمراكز . . فكل ذلك عبث من ناحية وسوء قهم للمنهج الإسلامي ولحقيقة وظيفة الجنسين من ناحية !
وننظر في أمر الجهاد والاستشهاد ونصيب المرأة منه ومن ثوابه . . وهو ما كان يشغل بال الصالحات من النساء في الجيل الصالح ، الذي يتجه بكليته إلى الآخرة ؛ وهو يقوم بشئون هذه الدنيا . . وفي أمر الإرث ونصيب الذكر والأنثى منه . وقد كان يشغل بعض الرجال والنساء قديمًا . . وما يزال هو وأمثاله يشغل رجالا ونساء في هذه الأيام . .
إن الله لم يكتب على المرأة الجهاد ولم يحرمه عليها ؛ ولم يمنعها منه - حين تكون هناك حاجة إليها ، لا يسدها الرجال - وقد شهدت المغازي الإسلامية آحادًا من النساء - مقاتلات لا مواسيات ولا حاملات أزواد - وكان ذلك على قلة وندرة بحسب الحاجة والضرورة ؛ ولم يكن هو القاعدة . . وعلى أية حال ، فإن الله لم يكتب على المرأة الجهاد كما كتبه على الرجال .
إن الجهاد لم يكتب على المرأة ، لأنها تلد الرجال الذين يجاهدون . وهي مهيأة لميلاد الرجال بكل تكوينها ، العضوي والنفسي ؛ ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة سواء . وهي - في هذا الحقل - أقدر وأنفع . . هي أقدر لأن كل خلية في تكوينها معدة من الناحية العضوية والناحية النفسية لهذا العمل ؛ وليست المسألة في هذا مسألة التكوين العضوي الظاهر ؛ بل هي - وعلى وجه التحديد - كل خلية منذ تلقيح البويضة ، وتقرير أن تكون أنثى أو ذكرًا من لدن الخالق - سبحانة - ثم يلي ذلك تلك الظواهر العضوية ، والظواهر النفسية الكبرى . . وهي أنفع - بالنظر الواسع إلى مصلحة الأمة على المدى الطويل - فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث ؛ تدع للأمة مراكز إنتاج للذرية تعوض الفراغ . والأمر ليس كذلك حين تحصد النساء والرجال - أو حتى حين تحصد النساء وتستبقي الرجال ! فرجل واحد - في النظام الإسلامي - وعند الحاجة إلى استخدام كل رخصه وإمكانياته - يمكن أن يجعل نساء أربعًا ينتجن ، ويملأن الفراغ الذي تتركه المقتلة بعد فترة من الزمان . ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد ، لتعويض ما وقع في المجتمع من اختلال . وليس ذلك إلا بابًا واحدًا من أبواب الحكمة الإلهية في إعفاء المرأة من فريضة الجهاد . . . ووراءه أبواب شتى في أخلاق المجتمع وطبيعة تكوينه ، واستبقاء الخصائص الأساسية لكلا الجنسين ، لا يتسع لها المجال هنا ، لأنها تحتاج إلى بحث خاص . . وأما الأجر والثواب ، فقد طمأن الله الرجال والنساءعليه ، فحسب كل إنسان أن يحسن فيما وكل إليه ليبلغ مرتبة الإحسان عند الله على الإطلاق . .
والأمر في الميراث كذالك . . ففي الوهلة الأولى يبدو أن هناك إيثارًا للرجل في قاعدة : ( فللذكر مثل حظ الأثنين ) . . ولكن هذه النظرة السطحية لا تفتأ أن تتكشف عن وحدة متكاملة في اوضاع الرجل والمرأة وتكاليفهما . . فالغنم بالغرم ، قاعدة ثابتة متكاملة في المنهج الإسلامي . . فالرجل يؤدي للمرأة صداقها ابتداء ولا تؤدي هي له صداقًا . والرجل ينفق عليها وعلى أولادها منه ، وهي معفاة من هذا التكليف ، ولو كان لها مال خاص - وأقل ما يصيب الرجل من هذا التكليف أن يحبس فيه إذا ماطل ! ! - والرجل عليه في الديات والأرش [ التعويض عن الجراحات ] متكافلا مع الأسرة ، والمرأة منها معفاة . والرجل عليه في النفقة على المعسرين والعاجزين والعواجز عن الكسب في الأسرة - الأقرب فالأقرب - والمرأة معفاة من فريضة التكافل العائلي العام . . حتى أجر رضاع طفلها من الرجل وحضانته عند افتراقهما في المعيشة ، أو عند الطلاق ، يتحملها الرجل ، ويؤديها لها كنفقتها هي سواء بسواء . . فهو نظام متكامل توزيع التبعات فيه هو الذي يحدد توزيع الميراث . ونصيب الرجل من التبعات أثقل من نصيبه في الميراث . ومنظور في هذا إلى طبيعته وقدرته على الكسب ؛ وإلى توفير الراحة والطمأنينة الكاملة للمرأة ، لتقوم على حراسة الرصيد البشري الثمين ؛ الذي لا يقوم بمال ، ولا يعد له إنتاج أية سلعة أو أية خدمة أخرى للصالح العام !
وهكذا نجد معالم التوازن الشامل ، والتقدير الدقيق في المنهج الإسلامي الحكيم ، الذي شرعه الحكيم العليم . .
ونسجل هنا ما منحه الإسلام للمرأة في هذا النص من حق الملكية الفردية :
( للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) . .
وهو الحق الذي كانت الجاهلية العربية - كغيرها من الجاهليات القديمة - تحيف عليه ؛ ولا تعترف به للمرأة - إلا في حالات نادرة - ولا تفتأ تحتال للاعتداء عليه . إذ كانت المرأة ذاتها مما يستولى عليه بالوراثة ، كالمتاع !
وهو الحق الذي ظلت الجاهليات الحديثة - التي تزعم أنها منحت المرأة من الحقوق والاحترام ما لم يمنحه لها منهج آخر - تتحيفه ، فبعضها يجعل الميراث لأكبر وارث من الذكور . وبعضها يجعل إذن الولي ضروريًا لتوقيع أي تعاقد للمرأة بشأن المال ؛ ويجعل إذن الزواج ضروريًا لكل تصرف مالي من الزوجة في مالها الخاص ! وذلك بعد ثوارت المرأة وحركاتها الكثيرة ؛ وما نشأ عنها من فساد في نظام المرأة كله ، وفي نظام الأسرة ، وفي الجو الأخلاقي العام .
فأما الإسلام فقد منحها هذا الحق ابتداء ؛ وبدون طلب منها ، وبدون ثورة ، وبدون جمعيات نسوية ، وبدون عضوية برلمان ! ! منحها هذا الحق تمشيًا مع نظرته العامة إلى تكريم الإنسان جملة ؛ وإلى تكريم شقي النفس الواحدة ؛ وإلى إقامة نظامه الاجتماعي كله على أساس الأسرة ؛ وإلى حياطة جو الأسرة بالود والمحبة والضمانات لكل فرد فيها على السواء .
ومن هنا كانت المساواة في حق التملك وحق الكسب بين الرجال والنساء من ناحية المبدأ العام .
وقد أورد الدكتور عبد الواحد وافي في كتاب " حقوق الإنسان " لفتة دقيقة إلى وضع المرأة في الإسلام ووضعها في الدول الغربية جاء فيه :
" وقد سوى الإسلام كذلك بين الرجل والمرأة أمام القانون ، وفي جميع الحقوق المدنية سواء في ذلكالمرأة المتزوجة وغير المتزوجة . فالزواج في الإسلام يختلف عن الزواج في معظم أمم الغرب المسيحي ، في أنه لا يفقد المرأة اسمها ولا شخصيتها المدنية ، ولا أهليتها في التعاقد ولا حقها في التملك . بل تظل المرأة المسلمة بعد زواجها محتفظة باسمها واسم أسرتها ، وبكامل حقوقها المدينة ؛ وبأهليتها في تحميل الالتزامات ، وإجراء مختلف العقود ، من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية ؛ وما إلى ذلك ؛ ومحتفظة بحقها في التملك تملكًا مستقلا عن غيرها . فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة ، وثروتها الخاصة المستقلة عن شخصية زوجها وثروته . ولا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا من مالها - قل ذلك أو كثر - قال تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا ؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا ؟ . . وقال : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا ) . . وإذا كان لا يجوز للزوج أن يأخذ شيئًا مما سبق أن آتاه لزوجته فلا يجوز له من باب أولى أن يأخذ شيئًا من ملكها الأصيل إلا أن يكون هذا أو ذاك برضاها ، وعن طيب نفس منها . وفي هذا يقول الله تعالى : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا ، فكلوه هنيئًا مريئًا ) ولا يحل للزوج كذلك أن يتصرف في شيء من أموالها ، إلا إذا أذنت له بذلك ، أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها ، وفي هذه الحالة يجوز أن تلغي وكالته ، وتوكل غيره إذا شاءت .
" وهذه المنزلة من المساواة لم يصل إلى مثلها - بعد - أحدث القوانين في أرقى الأمم الديمقراطية الحديثة . فحالة المرأة في فرنسا كانت إلى عهد قريب - بل لا تزال إلى الوقت الحاضر - أشبه شيء بحالة الرق المدني . فقد نزع منها القانون صفة الأهلية في كثير من الشئون المدنية ، كما تنص على ذلك المادة السابعة عشرة بعد المائتين من القانون المدني الفرنسي . إذ تقرر أن : " المرأة المتزوجة - حتى ولو كان زواجها قائمًا على أساس الفصل بين ملكيتها وملكية زوجها - لا يجوز لها أن تهب ، ولا أن تنقل ملكيتها ، ولا أن ترهن ، ولا أن تمتلك بعوض أو بغير عوض ، بدون اشتراك زوجها في العقد ، أو موافقته عليه موافقة كتابية ! " . . وأورد نصها الفرنسي . .
" ومع ما أدخل على هذه المادة من قيود وتعديلات ، فيما بعد ، فإن كثيرًا من آثارها لا يزال ملازمًا لوضع المرأة الفرنسية من الناحية القانونية إلى الوقت الحاضر . . وتوكيدًا لهذا الرق المفروض على المرأة الغربية تقرر قوانين الأمم الغربية ، ويقضي عرفها ، أن المرأة بمجرد زواجها تفقد اسمها واسم اسرتها ، فلا تعود تسمى فلانة بنت فلان ؛ بل تحمل اسم زوجها وأسرته ؛ فتدعى " مدام فلان " أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته ، بدلًا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها . . وفقدان اسم المرأة ، وحملها لاسم زوجها ، كل ذلك يرمز إلى فقدان الشخصية المدنية للزوجة ، واندماجها في شخصية الزوج .
" ومن الغريب أن الكثير من سيداتنا يحاولن أن يتشبهن بالغريبات - حتى في هذا النظام الجائر - ويرتضين لأنفسهن هذه المنزلة الوضيعة ؛ فتسمي الواحدة منهن نفسها باسم زوجها ؛ أو تتبع اسمها باسم زوجها وأسرته ، بدلا من أن تتبعه باسم أبيها وأسرتها ، كما هو النظام الإسلامي ، وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه المحاكاة العمياء ! وأغرب من هذا كله أن اللاتي يحاكين هذه المحاكاة ، هن المطالبات بحقوق النساء ، ومساواتهن بالرجال ؛ ولا يدرين أنهن بتصرفهن هذا يفرطن في أهم حق منحه الإسلام لهن ؛ ورفع به شأنهن ، وسواهن فيه بالرجال " [ ص 651 ، 652 ] من هذا الجزء
{ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } من الأمور الدنيوية كالجاه والمال ، فلعل عدمه خير والمقتضي للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي ، معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له ، وأنه تشه لحصول الشيء له من غير طلب وهو مذموم ، لأن تمني ما لم يقدر له معارضة لحكمة القدر ، وتمني ما قدر له بكسب بطالة وتضييع حظ ، وتمني ما قدر له بغير كسب ضائع ومحال . { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } بيان لذلك أي لكل من الرجال والنساء فضل ونصيب بسبب ما اكتسب ومن أجله ، فاطلبوا الفضل من الله تعالى بالعمل لا بالحسد ، والتمني كما قال عليه الصلاة والسلام " ليس الإيمان بالتمني " . وقيل المراد نصيب الميراث وتفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه ، وجعل ما قسم لكل منهم على حسب ما عرف من حاله الموجبة للزيادة والنقص كالمكتسب له . { وأسالوا الله من فضله } أي لا تتمنوا ما للناس واسألوا الله مثله من خزائنه التي لا تنفذ . وهو يدل على أن المنهي عنه هو الحسد ، أو لا تتمنوا واسألوا الله من فضله بما يقربه ويسوقه إليكم . وقرأ ابن كثير والكسائي { واسلوا الله من فضله } وسلهم فسل الذين وشبهه إذا كان أمرا مواجها به ، وقبل السين واو أو فاء بغير همز وحمزة في الوقف على أصله والباقون بالهمز . { إن الله كان بكل شيء عليما } فهو يعلم ما يستحقه كل إنسان فيفضل عن علم وتبيان .
عطف على جملة : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] .
والمناسبة بين الجملتين المتعاطفتين : أنّ التمنّي يحبّب للمُتمنّي الشيء الذي تمنّاه ، فإذا أحبّه أتْبَعَه نفسه فرام تحصيله وافتُتن به ، فربما بعثه ذلك الافتتان إلى تدبير الحيل لتحصيله إن لم يكن بيده ، وإلى الاستئثار به عن صاحب الحقّ فيغمض عينه عن ملاحظة الواجب من إعطاء الحقّ صاحبه وعن مناهي الشريعة التي تضمّنتها الجمل المعطوف عليها . وقد أصبح هذا التمنّي في زماننا هذا فتنة لِطوائف من المسلمين سرت لهم من أخلاق الغلاة في طلب المساواة ممّا جرّ أمما كثيرة إلى نحلة الشيوعية فصاروا يتخبَّطون لطلب التساوي في كلّ شيء ويعانون إرهاقاً لم يحصّلوا منه على طائل .
فالنهي عن التمنّي وتطلّع النفوس إلى ما ليس لها جاء في هذه الآية عامّا ، فكان كالتذييل للأحكام السابقة لسدّ ذرائعها وذرائع غيرها ، فكان من جوامع الكلم في درء الشرور . وقد كان التمنّي من أعظم وسائل الجرائم ، فإنّه يفضي إلى الحسد ، وقد كان أوّل جرم حصل في الأرض نشأ عن الحسد . ولقد كثر ما انتبهت أموال ، وقتلت نفوس للرغبة في بسطة رزق ، أو فتنة نساء ، أو نوال مُلك ، والتاريخ طافح بحوادث من هذا القبيل .
والذي يبدو أنّ هذا التمنّي هو تمنّي أموال المثرين ، وتمنّي أنصباء الوارثين ، وتمنّي الاستئثار بأموال اليتامى ذكورهم وإناثهم ، وتمنّي حرمان النساء من الميراث ليناسب ما سبق من إيتاء اليتامى أموالهم . وإنصاف النساء في مُهورهنّ ، وترك مضارّتهنّ إلجاء إلى إسقاطها ، ومن إعطاء أنصباء الورثة كما قسم الله لهم . وكلّ ذلك من تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق .
وقد أبدى القفّال مناسبة للعطف تندرج فيما ذكرته . وفي « سنن الترمذي » عن مجاهد ، عن أمّ سلمة أنّها قالت : « يا رسول الله يغزو الرجال ولا يغزو النساء ، وإنّما لنا نصف الميراث ، فأنزل الله { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } » . قال الترمذي : هذا حديث مرسل . قال ابن العربي : ورواياته كلّها حسان لم تبلغ درجة الصحّة . قلت : لمّا كان مرسلا يكون قوله : فأنزل الله { ولا تتمنوا } إلخ . من كلام مجاهد ، ومعناه أنّ نزول هذه الآية كان قريباً من زمن قول أمّ سلمة ، فكان في عمومها ما يردّ على أمّ سلمة وغيرها .
وقد رويت آثار : بعضها في أنّ هذه الآية نزلت في تمنّي النساء الجهاد ؛ وبعضها في أنّها نزلت في قول امرأة « إنّ للذكر مثل حظّ الأنثيين وشهادة امرأتين برجل أفنحن في العمل كذلك » ؛ وبعضها في أنّ رجالاً قالوا : إنّ ثواب أعمالنا على الضعف من ثواب النساء ؛ وبعضها في أنّ النساء سألن أجر الشهادة في سبيل الله وقلن لو كُتب علينا القتال لقاتلنا .
وكلّ ذلك جزئيات وأمثلة ممّا شمله عموم { ما فضل الله به بعضكم على بعض } .
والتمنّي هو طلب حصول ما يعسر حصوله للطالب . وذلك له أحوال ؛ منها أن يتمنّى ما هو من فضل الله غير ملتفت فيه إلى شيء في يد الغير ، ولا مانع يمنعه من شرع أو عادة ، سواء كان ممكن الحصول كتمنّي الشهادة في سبيل الله ، أم كان غير ممكن الحصول كقول النبي صلى الله عليه وسلم " وَلَوَدِدْتُ أني أقْتَلُ في سبيل الله ثم أُحيى ثم أقتل ثم أُحيى ثم أقتل " . وقوله صلى الله عليه وسلم " ليتنا نرى إخواننا " يعني المسلمين الذين يجيئون بعده .
ومنها أن يتمنّى ما لا يمكن حصوله لمانع عادي أو شرعي ، كتمنّي أمّ سلمة أن يغزو النساء كما يغزو الرجال ، وأن تكون المرأة مساوية الرجل في الميراث ؛ ومنها أن يتمنّى تمنيّا يدلّ على عدم الرضا بما ساقه الله والضجر منه ، أو على الاضطراب والانزعاج ، أو على عدم الرضا بالأحكام الشرعية .
ومنها أن يتمنّى نعمة تماثل نعمة في يد الغير مع إمكان حصولها للمتمنّي بدون أن تسلب من التي هي في يده كتمنّي عِلم مثل علم المجتهد أو مال مثل مال قارون .
ومنها أن يتمنّى ذلك لكن مثله لا يحصل إلاّ بسلب المنعَم عليه به كتمنّي مُلك بلدة معيّنة أو زوجة رجل معيّن .
ومنها أن يتمنّى زوال نعمة عن الغير بدون قصد مصيرها إلى المتمنّي .
وحاصل معنى النهي في الآية أنّه : إمّا نهي تنزيه لتربية المؤمنين على أن لا يشغلوا نفوسهم بما لا قبل لهم بنواله ضرورة أنّه سمّاه تمنّيا ، لئلا يكونوا على الحالة التي ورد فيها حديث : " يتمنى على الله الأماني " ويكون قوله : { واسألوا الله من فضله } إرشاد إلى طلب الممكن ، إذ قد علموا أنّ سؤال الله ودعاءه يكون في مرجوّ الحصول ، وإلاّ كان سوء أدب .
وإمّا نهي تحريم ، وهو الظاهر من عطفه على المنهيات المحرّمة ، فيكون جريمة ظاهرة ، أو قلبية كالحسد ، بقرينة ذكره بعد قوله : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] .
فالتمنّي الأوّل والرابع غير منهي عنهما ، وقد ترجم البخاري في صحيحه « باب تمني الشهادة في سبيل الله وباب الاغتباط في العلم والحكمة » ، وذكر حديث : " لا حسد إلاّ في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هَلَكته في الحقّ ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها الناس " . وأمّا التمنّي الثاني والثالث فمنهي عنهما لأنّهما يترتّب عليهما اضطراب النفس وعدم الرضا بما قسم الله والشكّ في حكمة الأحكام الشرعية .
وأمّا التمنّي الخامس والسادس فمنهي عنهما لا محالة ، وهو من الحسد ، وفي الحديث " لا تسأل المرأة طلاقَ أختها لتستفرغ صحفتها " .
ولذلك نهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه ، إلاّ إذ كان تَمَنِّيه في الحالة الخامسة تمنّيَ حصول ذلك له بعد من هي بيده بحيث لا يستعجل موته . وقد قال أبو بكر ، لمّا استَخْلَف عمر ، يخاطب المهاجرين : « فكلّكم ورم أنفه يريد أن يكون له الأمر دونه » .
والسادس أشدّ وهو شرّ الحسدين إلاّ إذا كان صاحب النعمة يستعين به على ضرّ يلحق الدين أو الأمّة أو على إضرار المتمنّي .
ثم محلّ النهي في الآية : هو التمنّي ، وهو طلب ما لا قبل لأحد بتحصيله بكسبه ، لأنّ ذلك هو الذي يبعث على سلوك مسالك العداء ، فأمّا طلب ما يمكنه تحصيله من غير ضرّ بالغير فلا نهي عنه ، لأنّه بطلبه ينصرف إلى تحصيله فيحصل فائدة دينية أو دنيوية ، أمّا طلب ما لا قبل له بتحصيله فإن رجع إلى الفوائد الأخروية فلا ضير فيه .
وحكمة النهي عن الأقسام المنهي عنها من التمنّي أنّها تفسد ما بين الناس في معاملاتهم فينشأ عنها التحاسد ، وهو أوّل ذنب عُصي الله به ، إذْ حسد إبليس آدم ، ثم ينشأ عن الحسد الغيظ والغضب فيفضي إلى أذى المحسود ، وقد قال تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } [ الفلق : 5 ] . وكان سبب أوّل جريمة في الدنيا الحسد : إذ حسد أحد ابني آدم أخاه فقتله ، ثم إنّ تمنّي الأحوال المنهي عنها يَنْشأ في النفوس أوّلَ ما ينشأ خاطراً مجرّدا ، ثم يربو في النفس رويداً رويداً حتّى يصير ملكة ، فتدعو المرء إلى اجترام الجرائم ليشفي غلّته ، فلذلك نهوا عنه ليزجروا نفوسهم عند حدوث هاته التمنّيات بزاجر الدين والحكمة فلا يَدعوها تربو في النفوس . وما نشأت الثورات والدعايات إلى ابتراز الأموال بعناوين مختلفة إلاّ من تمنّي ما فضّل به الله بعض الناس على بعض ، أو إلاّ أثر من آثار ما فضّل الله به بعض الناس على بعض .
وقوله : { بعضكم على بعض } صالح لأن يكون مراداً به آحاد الناس ، ولأن يكون مراداً به أصنافهم .
وقوله : { للرجال نصيب مما اكتسبوا } الآية : إن أريدَ بذكر الرجال والنساء هنا قصد تعميم الناس مثل ما يُذكر المشرق والمغرب ، والبر والبحر ، والنجد والغَوْر ، فالنهي المتقدّم على عمومه . وهذه الجملة مسوقة مساق التعليل للنهي عن التمنّي قطعاً لعذر المُتمَنّين ، وتأنيساً بالنهي ، ولذلك فصلت ؛ وإن أريد بالرجال والنساء كلاّ من النوعين بخصوصه بمعنى أنّ الرجال يختصّون بما اكتسبوه ، والنساء يختصصن بما اكتسبن من الأموال ، فالنهي المتقدّم متعلّق بالتمنّي الذي يفضي إلى أكلّ أموال اليتامى والنساء ، أي ليس للأولياء أكل أموال مواليهم وولاياهم إذ لكلّ من هؤلاء ما اكتسب . وهذه الجملة علّة لجملة محذوفة دلّت هي عليها ، تقديرها : ولا تتمنّوا فتأكلوا أموال مواليكم .
والنصيب : الحظّ والمقدار ، وهو صادق على الحظ في الآخرة والحظّ في الدنيا ، وتقدّم آنفاً .
والاكتساب : السعي للكسب ، وقد يستعار لحصول الشيء ولو بدون سعي وعلاجٍ . و ( مِن ) للتبعيض أو للابتداء ، والمعنى يحتمل أن يكون استحقّ الرجال والنساء كلّ حظّه من الأجر والثواب المنجرّ له من عمله ، فلا فائدة في تمنّي فريق أن يعمل عمل فريق آخر ، لأنّ الثواب غير منحصر في عمل معيَّن ، فإنّ وسائل الثواب كثيرة فلا يسوءكم النهي عن تمنّي ما فضّل الله به بعضكم على بعض . ويحتمل أنّ المعنى : استحقّ كلّ شخص ، سواء كان رجلاً أم امرأة ، حظّه من منافع الدنيا المنجرّ له ممّا سعى إليه بجهده ، أو الذي هو بعض ما سعى إليه ، فتمنّي أحد شيئاً لم يسع إليه ولم يكن من حقوقه ، هو تمنّ غير عادل ، فحَقَّ النهي عنه ؛ أو المعنى استحقّ أولئك نصيبهم ممّا كسبوا ، أي ممّا شُرع لهم من الميراث ونحوه ، فلا يحسد أحدٌ أحداً على ما جعل له من الحقّ ، لأنّ الله أعلم بأحقّيّة بعضكم على بعض .
وقوله : { وسئلوا الله من فضله } إن كان عطفاً على قوله : { للرجال نصيب مما اكتسبوا } الخ ، الذي هو علّة النهي عن التمنّي ، فالمعنى : للرجال مَزاياهم وحقوقهم ، وللنساء مزاياهنّ وحقوقهنّ ، فمن تمنّى ما لم يُعَدَّ لصنفه فقد اعتدى ، لكن يسأل الله من فضله أن يعطيه ما أعدّ لصنفه من المزايا ، ويجعل ثوابه مساوياً لثواب الأعمال التي لم تُعدّ لصنفه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء : « لكن أفضل الجهاد حجّ مبرور » وإن كان عطفاً على النهي في قوله : و { لا تتمنوا } فالمعنى : لا تتمنّوا ما في يد الغير واسألوا الله من فضله فإنّ فضل الله يسع الإنعام على الكلّ ، فلا أثر للتمنّي إلاّ تعب النفس . وقرأ الجمهور : { واسألوا } بإثبات الهمزة بعد السين الساكنة وهي عين الفعل وقرأه ابن كثير ، والكسائي بفتح السين وحذف الهمزة بعد نقل حركتها إلى السين الساكن قبلها تخفيفاً .
وقوله : { إن الله كان بكل شيء عليماً } تذييل مناسب لهذا التكليف ، لأنّه متعلّق بعمل النفس لا يراقِب فيه إلاّ ربّه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}: فضل الرجال على النساء في الميراث، ونزل في قولهن: نرجوا أن يكون الوزر على نحو ذلك: {للرجال نصيب}، يعني حظا {مما اكتسبوا} من الإثم، {وللنساء نصيب}، يعني حظا {مما اكتسبن} من الإثم، {واسألوا الله من فضله}، يعني الرجال والنساء، {إن الله كان بكل شيء} من قسمة الميراث {عليما}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ولا تتشهّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض، وذكر أن ذلك نزل في نساء تَمَنّين منازل الرجال، وأن يكون لهم ما لهم، فنهى الله عباده عن الأمانيّ الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله، إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها الحسد والغي بغير الحقّ.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان الثوريّ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أمّ سلمة: يا رسول الله: تغزو الرجال، ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فنزلت {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبوُا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}، ونزلت: {إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ}.
عن ابن عباس، قوله: {وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يقول: لا يتمنى الرجل يقول: ليت أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله.
فتأويل الكلام على هذا التأويل: ولا تتمنوا أيها الرجال والنساء الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل، ودرجات الخير وليرض أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سلوا الله من فضله.
{لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ}: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وللنساء نصيب من ذلك مثل ذلك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم، وللنساء نصيب منهم.
وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية قول من قال معناه: للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا، فعملوه من خير أو شرّ، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال.
وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية من قول من قال تأويله: للرجال نصيب من الميراث، وللنساء نصيب منه، لأن الله جلّ ثناؤه أخبر أن لكلّ فريق من الرجال والنساء نصيباً مما اكتسب، وليس الميراث مما اكتسبه الوارث، وإنما هو مال أورثه الله عن ميته بغير اكتساب، وإنما الكسب العمل، والمكتسب: المحترف، فغير جائز أن يكون معنى الآية، وقد قال الله: {لّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} للرجال نصيب مما ورثوا، وللنساء نصيب مما ورثن؛ لأن ذلك لو كان كذلك لقيل: للرجال نصيب مما لم يكتسبوا، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن.
{وَاسْألُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ}: واسألوا الله من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته، ففضله في هذا الموضع: توفيقه ومعونته. {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شيء عَلِيماً}: إن الله كان بما يصلح عباده فيما قسم لهم من خير، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم {عَلِيماً}: ذا علم، ولا تتمنوا غير الذي قضى لكم، ولكن عليكم بطاعته والتسليم لأمره، والرضا بقضائه ومسألته من فضله.
{للرِّجَالِ نَصِيبٌ ممَّا اكْتَسَبُوا وَللنِّسَاءِ نَصِيبٌ ممَّا اكْتَسَبْنَ} قيل فيه وجوه، أحدها: أن لكل واحد حظّاً من الثواب قد عَرَضَ له بحسن التدبير في أمره ولُطْفٍ له فيه حتى استحقه وبلغ عُلُوَّ المنزلة به، فلا تَتَمَنَّوْا خلاف هذا التدبير، فإن لكل منهم حظّه ونصيبه غير مبخوس ولا منقوص. والآخر: أن لكل أحد جزاء ما اكتسب فلا يضيعه بتمنّي ما لغيره محبطاً لعمله. وقيل فيه: إن لكل فريق من الرجال والنساء نصيباً مما اكتسب من نعم الدنيا، فعليه أن يرضى بما قسم الله له...
{واسْأَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ} قيل فيه: إن معناه إن احتجتم إلى ما لغيركم فسَلُوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله، لا بأن تتمنوا ما لغيركم؛ إلا أن هذه المسألة تغني إن تكن معقودة بشريطة المصلحة، والله تعالى أعلم بالصواب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَسْئَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ}: الفرق بين التمني وبين السؤال من فضله من وجوه: يكون التمني للشيء مع غفلتك عن ربك؛ فتتمنى بقلبك وجود ذلك الشيء من غير توقعه من الله، فإذا سألت الله فلا محالة تذكره، والآخر أن السائل لا يرى استحقاق نفسه فيحْمِلُه صِدْقُ الإرادة على التملُّق والتضرع، والتمني يخلو عن هذه الجملة.
والآخر أن الله نهى عن تمني ما فضل الله به غيرك إذ معناه أن يسلب صاحبك ما أعطاه ويعطيك إياه، وأباح السؤال من فضله بأن يعطيك مثل ما أعطى صاحبك.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(واسألوا الله من فضله) وفي هذا دليل على أن الحسد حرام؛ والحسد: هو أن يتمنى زوال النعمة عن صاحبه، ويتمناها لنفسه، والغبطة: هو أن يتمنى لنفسه مثل ما لصاحبه، فالحسد حرام، والغبطة لا بأس بها...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
وبالجملة: التمني إذا لم يفض إلى حسد في ابتغاء زوال نعمة الغير أو تباغض، فلا نهي عنه، فإن الواحد منا يود أن يكون إماماً وسيداً في الدين والدنيا، ولا نهي عنه، وإن علم قطعاً أنه لا يكون...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ} نهوا عن التحاسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال، لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد، وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض} [الشورى: 27] فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علماً بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، ولا يحسد أخاه على حظه. {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا} جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسباً له. {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل، ولكن سلوا الله من خزائنه التي لا تنفد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
يتركب على قول النساء: ليتنا ساوينا الرجال في الميراث، فكأنه قيل بسببهن: لا تتمنوا هذا فلكل نصيبه، وقالت فرقة: معناه من الأجر والحسنات، فكأنه قيل للناس: لا تتمنوا في أمر خلاف ما حكم الله به، لاختيار ترونه أنتم، فإن الله قد جعل لكلّ أحد نصيباً من الأجر والفضل، بحسب اكتسابه فيما شرع له. وهذا القول الواضح البيِّن الأعم، وقالت فرقة: معناه: لا تتمنوا خلاف ما حد الله في تفضيله، فإنه تعالى قد جعل لكل أحد مكاسب تختص به، فهي نصيبه، قد جعل الجهاد والإنفاق وسعي المعيشة وحمل الكلف كالأحكام والإمارة والحسبة وغير ذلك للرجال، وجعل الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت للنساء. وهذا كقول الذي قبله، إلا أنه فارقه بتقسيم الأعمال، وفي تعليقه النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه على كسب الخير.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حَقِيقَةِ التَّمَنِّي: وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْإِرَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبل كَالتَّلَهُّفِ نَوْعٌ مِنْهَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ التَّمَنِّي؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعَلُّقَ الْبَالِ بِالْمَاضِي وَنِسْيَانَ الْآجِلِ، وَلِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَتَفَطَّنَ الْبُخَارِيُّ لَهُ فَعَقَدَ لَهُ فِي جَامِعِهِ كِتَابًا فَقَالَ: كِتَابُ التَّمَنِّي، وَأَدْخَلَ فِيهِ أَبْوَابًا وَمَسَائِلَ هُنَاكَ تُرَى مُسْتَوْفَاةً بَالِغَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُرَادُ هَاهُنَا النَّهْيُ عَنِ التَّمَنِّي الَّذِي تَسْتَحْسِنُهُ عِنْدَ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَيْكَ، وَهُوَ الْحَسَدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مُطْلَقًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا أَنَّهُ يَجُوزُ تَمَنِّي مِثْلِهِ وَهِيَ الْغِبْطَةُ، فَيُسْتَحَبُّ الْغَبْطُ فِي الْخَيْرِ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَآخَر يَعْمَلُ الْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُهَا». هَذَا مَعْنَاهُ. قَالَ: اعْمَلُوا وَلَا تَتَمَنَّوْا، فَلَيْتَكُمْ قُمْتُمْ بِمَا أُوتِيتُمْ، وَاسْتَطَعْتُمْ مَا عِنْدَكُمْ.
وَأَحْسَنُ عِبَارَةٍ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الصُّوفِيَّةِ: كُنْ طَالِبَ حُقُوقِ مَوْلَاكَ وَلَا تَتَّبِعْ مُتَعَلِّقَاتِ هَوَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: أَمَّا نَصِيبُهُمْ فِي الْأَجْرِ فَسَوَاءٌ؛ كُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ.
وَأَمَّا نَصِيبُهُمْ فِي مَالِ الدُّنْيَا فَبِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَصَالِحِ، وَرَكَّبَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ رَتَّبَ أَنْصِبَاءَهُمْ، فَلَا تَتَمَنَّوْا مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ وَأَحْكَمَ بِمَا عَلِمَ وَدَبَّرَ حُكْمَهُ.
الأول: قال القفال رحمه الله: إنه تعالى لما نهاهم في الآية المتقدمة عن أكل الأموال بالباطل، وعن قتل النفس، أمرهم في هذه الآية بما سهل عليهم ترك هذه المنهيات، وهو أن يرضى كل أحد بما قسم الله له، فإنه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد، وإذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس، فإما إذا رضي بما قدره الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال...
الوجه الثاني: في كيفية النظم: هو أن أخذ المال بالباطل وقتل النفس، من أعمال الجوارح، فأمر أولا بتركهما ليصير الظاهر طاهرا عن الأفعال القبيحة. ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد، ليصير الباطن طاهرا عن الأخلاق الذميمة...
{إن الله كان بكل شيء عليما} والمعنى: أنه تعالى هو العالم بما يكون صالحا للسائلين، فليقتصر السائل على المجمل، وليحترز في دعائه عن التعيين، فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر، والله أعلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام في بيان وجه اتصال الآية بما قبلها:
نهى أولا عن أكل الناس بعضهم أموال بعض بالباطل وأوعد فاعل ذلك، وبين بعد ذلك وما قبله من المناهي ما يغفر منها وما لا يغفر، ثم أرشدنا بعد هذا كله إلى قطع عرق كل تعدّ على الأموال والأنفس وسائر الحقوق وهو التمني وعدم استعمال كل لمواهبه في الجد والكسب وكل ما يتمناه الإنسان لنفسه من الخير.
وقال البقاعي في ذلك: ولما نهى عن القتل وعن الأكل بالباطل بالفعل وهما من أعمال الجوارح ليصير الظاهر طاهرا عن المعاصي الوخيمة نهى عن التمني فإن التمني قد يكون حسدا وهو المنهي عنه هنا كما هو ظاهر الآية وهو حرام والرضا بالحرام حرام، والتمني على هذا الوجه يجر إلى الأكل، والأكل يقود إلى القتل، فإن من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فإذا انتهى عن ذلك كان باطنه طاهرا عن الأخلاق الذميمة بحسب الطريقة، ليكون الباطن موافقا للظاهر ويكون جامعا بين الشريعة والطريقة، فيسهل عليه ترك ما نهى عنه ويرضى بما قسم له.
وقال القفال: لما نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس عقبه هما يؤدي إليه من الطمع في أموالهم.
وروي في سبب نزولها ثلاث روايات إحداها عن مجاهد قال قالت أم سلمة رضي الله عنها يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل الله تعالى الآية. والثانية عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت. والثالثة عن قتادة والسدي قالا لما نزل قوله تعالى: {للذكر مثل حظ الأنثيين} [النساء:11] قال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت النساء إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فأنزل الله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} ذكر الروايات الثلاث الواحدي والسيوطي في الدر المنثور. وهي لا تتفق اتفاقا بينا مع المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير التمني بالحسد فقد روي عنه أنه قال فيها: لا يقل أحدكم ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي، فإن ذلك يكون حسدا، ولكن ليقل اللهم أعطني مثله.
سبب تلك الروايات الحيرة في فهم الآية ومعناها ظاهر وهو أن الله تعالى كلف كلا من الرجال والنساء أعمالا فما كان خاصا بالرجال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال، وليس لأحدهما أن يتمنى ما هو مختص بالآخر. وجعل الخطاب عاما للفريقين مع أن الرجال لم يتمنوا أن يكونوا نساء ولا أن يعملوا عمل النساء وهو الولادة وتربية الأولاد وغير ذلك مما هو معروف وإنما كان النساء هن اللواتي تمنين عمل الرجال، وأي عمل الرجال تمنين؟ تمنين أخص أعمال الرجولية وهو حماية الذمار والدفاع عن الحق بالقوة، ففي هذا التعبير عناية بالنساء وتلطف بهن وهن موضع للرأفة والرحمة لضعفهن وإخلاصهن فيما تمنين، والحكمة في ذلك أن لا يظهر ذلك التمني الناشئ عن الحياة الملية الشريفة فإن تمني مثل هذا العمل غريب من النساء جدا وسببه أن الأمة في عنفوان حياتها يكون النساء والأطفال فيها مشتركين مع الرجال في هذه الحياة وفي آثارها، وإنها لتسري فيها سريانا عجيبا، ومن عرف تاريخ الإسلام ونهضة العرب به وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به في زمنه يرى أن النساء من يسرن مع الرجال في كل منقبة وكل عمل، فقد كن يأتين ويبايعن النبي صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة المذكورة في (سورة الممتحنة) كما كان يبايعه الرجال، وكن ينفرن معهم إذا نفروا للقتال، يخدمن الجرحى ويأتين غير ذلك من الأعمال، فأراد الله أن يختص النساء بأعمال البيوت والرجال بالأعمال الشاقة التي في خارجها ليتقن كل منهما عمله ويقوم به كما يجب مع الإخلاص له وتنكير لفظ "نصيب "لإفادة أن ليس كل ما يعمله العامل يؤجر عليه وإنما الأجر على ما عمل بالإخلاص أي ففي الكلام حث ضمني عليه.
{واسألوا الله من فضله} أي ليسأله كل منكم الإعانة والقوة على ما نيط به حيث لا يجوز له أن يتمنى ما نيط بالآخر. ويدخل في هذا النهي تمني كل ما هو من الأمور الخلقية كالجمال والعقل إذ لا فائدة في تمنيها لمن لم يعطها ولا يدخل فيه ما يقع تحت قدرة الإنسان من الأمور الكسبية إذ يحمد من الناس أن ينظر بعضهم إلى ما نال الآخر ويتمنى لنفسه مثله وخيرا منه بالسعي والجد كأنه يقول وجهوا أنظاركم إلى ما يقع تحت كسبكم ولا توجهوها إلى ما ليس في استطاعتكم فإنما الفضل بالأعمال الكسبية فلا تتمنوا شيئا بغير كسبكم وعملكم. اه.
أقول: قال ابن الأثير في النهاية: التمني تشهي حصول الأمر المرغوب فيه وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. وقال أبو بكر تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير إلي. اه. وقد يظن أن التمني لا يدخل في حد الاختيار فيكون النهي عنه مشكلا، وإنما يظن هذا الظن من يتبع نفسه هواها، ويسلس لخواطرها العنان، بل يلقي من يده العنان واللجام، حتى تكون الأماني منه كالأحلام من النائم لا يملك دفعها إذا أتت، ولا ردها إذا غربت، وشأن قوي الإرادة غير هذا ولا يرضى الله تعالى من المؤمنين إلا أن يكونوا أصحاب عزائم قوية فهو يرشدهم بهذا النهي إلى تحكيم الإرادة في خواطرهم التي تتحدث بها أنفسهم، لتصرفها عن الجولان فيما هو لغيرهم كما يصرفون أجسامهم أن تجول في ملك غيرهم بدون إذنه، وتوجهها في وقت الفراغ من الأعمال إلى ما هو أنفع وأشرف كالتفكير في ملكوت السماوات والأرض، وسنن الله تعالى في هذا الخلق، ولا سيما سننه في حياة الأمم وموتها وقوتها وضعفها، وتطبيق ذلك على أمتهم والتفكر في أمر الآخرة، ونسبته إلى هذه الدنيا الفانية، وهو الذي يخفف عن النفس ما تحمله من أثقال الحياة وتكاليفها.
الأمر كذلك، إن النهي عن تمني كل مكلف من ذكر وأنثى ما فضل الله به غيره عليه يتضمن ما يتحقق به الانتهاء وهو أمران:
أحدهما: العمل النافع على الوجه الذي تكون به الفائدة تامة من العناية والإتقان، ولا يشغل النفس بالأماني والتشهي كالبطالة والكسل، ولذلك ذكر الكسب بعد النهي عن التمني.
ثانيهما: توجيه الفكر في أوقات الاستراحة من العمل إلى ما يغذي العقل ويزكي النفس، ويزيد في الإيمان والعلم، وقد ذكرناك به آنفا وهو يتوقف على قوة الإرادة، وإنما تقوى الإرادة باستعمالها في تنفيذ ما أمر به الشرع، ودل عليه العقل.
وفي قوله {ما فضل الله به بعضكم على بعض} إيجاز بديع وهو يشمل ما فضل الله به بعض الرجال على بعض، وما فضل به بعض النساء على بعض، وما فضل به جنس الرجال على النساء، وما فضل به جنس النساء على الرجال، من حيث أن الخصوصية فضل أي زيادة في صاحبها على غيره، وما فضل به بعض الرجال على بعض النساء، وما فضل به بعض النساء على بعض الرجال، وهذا الفضل أنواع منها: ما لا يتعلق به الكسب ولا ينال بالعمل والسعي، ولا يعاب المفضول فيه بالتقصير، ولا يمدح الفاضل فيه بالجد والتشمير، كاستواء الخلقة، وقوة البنية، وشرف النسب فتمني أمثال هذه المزايا لا يصدر إلا عن سخافة في العقل، ومهانة في النفس، فينبغي لمن عرف ذلك من نفسه أن يبادر إلى معالجته بالفضل الكسبي الذي به يكون التفاضل الحقيقي بين الناس قبل أن تستحوذ عليه الأماني فتنسيه ربه وما أرشده إليه من طرق الفضل، وتنسيه نفسه وما أودعته من الاستعداد والقدرة على الكسب، ثم تحمله آلام تلك الأماني على المركب الصعب، وهو طاعة الحسد بالإيذاء والبغي، فيكون من الهالكين.
ومنها: ما ينال بالجد والسعي كالمال والجاه وهو المقصود بالنهي أولا بالذات، لأن الأول لبعده عن المعقول، كأن من شأنه أنه لا يكون، ولا يشتغل بتمني هذا إلا ضعيف الهمة ساقط المروءة، جاهل بقدر استعداد الإنسان، وآيات الجد والاستقلال، ولا يرضى الله تعالى للمؤمن أن يكون هكذا فهو يرشده إلى علو الهمة وهو من شعب الإيمان، ويهديه إلى الاعتماد على ما أوتيه من القوى في تحصيل كل ما يرغب فيه، فالجاه الحقيقي إنما ينال بالجد والكسب كالعلم النافع والمناصب وعمل المعروف وكذلك الثروة الأصل فيها أن تنال بالكسب والسعي، والموروث منها قلما يثبت وينمو إلا عند العاملين، والذين يتربون على الاستقلال كأهل أمريكا وإنكلترا يعتمدون على الطريف دون التليد حتى أن بعض الوارثين منهم راهن على كسب مقدار عظيم من المال يضاهي ثروته الموروثة بعد أن يخرج من جميع ما يملك وضرب لذلك أجلا غير بعيد فما حل الأجل إلا وذلك المقدار العظيم في يده وكان خرج من ماله كله حتى ثيابه وابتدأ عمله الاستقلالي بالخدمة في الحمام، وهمم الرجال لا يقف أمامها شيء ولكن أكثر الناس غافلون عن استعدادهم، يتكلون على اجتناء ثمرة غيرهم، ولذلك نبهنا الفاطر جل صنعه بعد النهي عن التمني والتلهي بالباطل إلى الكسب والعمل، الذي ينال به كل أمل، فقال: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} فشرع الكسب للنساء كالرجال فأرشد كلا منهما إلى تحري الفضل بالعمل دون التمني والتشهي، وحكمة اختيار صيغة الاكتساب على صيغة الكسب أن صيغة الاكتساب تدل على المبالغة والتكلف، وهو اللائق في مقام النهي عن التمني والتشهي، كأنه يقول إن ما تطلبون من الفضل إنما ينال بفضل العناية والكلفة في الكسب، لا بما تثيره البطالة من أماني النفس، وما قيل من استعمال الكسب في الخير والاكتساب في الشر فمأخوذ من قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة:286] وليس ذلك من معنى الصيغة في شيء وإنما اختير في هذه الآية للإشارة إلى الشر ليس من مقتضى الفطرة (راجع ج 2 تفسير).
و في التعبير به في الآية التي نفسرها إرشاد إلى المبالغة والتكلف في طلب الزيادة من المال والجاه وكل ما يتفاضل فيه الناس بأعمالهم بشرط التزام الحق، وإرشاد إلى اعتماد الناس في مطالبهم ورغائبهم على ما آتاهم الله من الاستعداد دون الكسل والتواكل، واعتماد كل منهم على الآخر، والكتاب والسنة مؤيدان لذلك، فما أجدر المسلمين؛ بأن يكونوا قدوة ومثلا للمستقلين، فالمسلم بمقتضى إسلامه يعتمد على مواهبه وقواه في كل مطالبه مع الرجاء بفضل الله وتوفيقه ولذلك قال بعد الإرشاد إلى الاكتساب واسألوا الله من فضله، أي ومهما أصبتم بالجد والاكتساب فلا ينسينكم ذلك حاجتكم إلى الله تعالى بما عليكم أن تسألوه من فضله الخاص الذي لا يصل إليه كسبكم إما لجهلكم به أو بطرقه وأسبابه وإما لعجزكم عنه كمن يجتهد في الزراعة أو التجارة فيدلي إليها بأسبابها التي ينالها كسبه ويسأل الله أن يتم فضله بالمطر الذي ينمو به الزرع، واعتدال الريح ليسلم الفلك، وهذا مما يجهله الإنسان ويعجز عنه.
ومن هنا تفهم حكمة تذييل الآية بقوله تعالى: {إن الله كان بكل شيء عليما} فهو الذي علم الإنسان بالإلهام وبآياته في الأنفس والآفاق وكيف يطلب المنافع والفضل، وكلما سأله بلسان الحال والاستعداد والعمل زاده من فضله فخزائن جوده لا تنفذ {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر:21] ولا يزال العاملون يستزيدونه ولا يزال عليهم من علمه ما يفضلون به القاعدين بالبطالين، وقد بلغ التفاوت بين الناس في الفضل حدا بعيدا جدا حتى كاد التفاوت بين بعض الشعوب وبعضهم الآخر يكون أبعد من التفاوت بين بعض الحيوان وبعض الإنسان.
ألا أذن تسمع وعين تبصر!! كيف يستولي العدد القليل من أهل الشمال الغربي على ألوف الألوف من أهل الجنوب الشرقي ويسخرونهم لخدمتهم كما يسخرون غيرهم من الحيوان!؟ أينكر أصحاب النفوذ الصوري والنفوذ المعنوي من أهل الجنوب أن الأمم التي حالوا بينها وبين طلب فضل الله بالعلوم والفنون والصناعات والثروة والسياسة تارة باسم المحافظة على الدين، وأخرى باسم العبودية للأمراء والسلاطين، قد خرجت السلطة عليها من أيديهم حتى لم يبق لهم منها إلا القليل وما هذا القليل بالذي يبقى لهم، أينكرون أنهم يتمنون أن يكون لهم من الملك والعزة والثروة والعلم مثل ما لأهل الشمال أو عين ما لأهل الشمال، أينسون أنهم كانوا فوقهم أيام كانوا هم أصحاب أهل اليمين، أيجيز لهم الإسلام بعد ذلك الفضل الذي أصابوه بكسبهم أن يضيعوه ثم يقنعوا أنفسهم بالتمني والتشهي!!؟؟ فإلى متى هذا الجهل وهذا الغرور!!.
إنهم حالوا بين الأمة وبين فضل الله في الدين كما حالوا بينها وبين فضله في الدنيا فمنعوا الاستقلال في فهم الدين وأن تطلبه بلسان حالها واستعدادها ولو سألته لأعطاها الله إياه، فنسأله أن ينصرها عليهم وما النصر إلا من عند الله.
قد قتل هذه الأمة الحسد والتمني: كلما ظهرت آيات النبوغ في العلم أو العمل في رجل منها قام الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويتمنون ما فضله به عليهم وإن لم يكن لهم مثل مواهبه وكسبه، ويبدلون حسناته سيئات، ويبغونه الفتن ويضعون له العثرات، يستكبرون نعمة الله عليه، ويحتقرون نعمته عليهم، فلا يرونها أهلا لأن تدرك ما أدركه، ولكنهم يصغرون بألسنتهم، ما استكبروه في قلوبهم وأدمغتهم، ويعظمون بأقوالهم، ما يحقرونه في اعتقادهم، يقولون ما هو فلان، إنه لا يعلم إلا كذا وكذا مما يعلمه الصبيان، وما هي أعماله التي تذكر له، إنه ليقدر عليها كل الناس، أو إنه يقصد بها السمعة والرياء، أو ظاهرها نفع وباطنها إيذاء، ولكن ما بالهم قد أصبحوا منه في شغل شاغل، ولماذا حملوا أنفسهم عناء الكيد له والمكر به، ألم يروا شرا في الأرض يسعون في إزالته إلا علمه الناقص، وعمله النافع الذي يخشون احتمال ضرره، ألا يحاسب الحاسدون أنفسهم، فيتبين لهم أنهم يسيئون إليها أكثر مما يسيئون إلى محسوديهم، ألا يجدون لأنفسهم مصرفا عن نار الحسد التي تطلعه على أفئدتهم، قبل أن تأكل بقايا الرضا بقضاء الله وقدره، وقسمته الفضل بين خلقه؟ ألا وإن دخول النار في الإنسان قد تكون أشد من دخوله في النار، أو هي التي تحمله على التهوّك والتهافت على النار، وما بال هؤلاء الحسدة الأشرار، يتمنون ما فضل الله به بعض قومهم عليهم، ولا يتمنون أن يكون لهم مثله أو مثل ما أوتيه الأقوام الآخرون، إني لا أرى علاجا للحاسدين الباغين في هذه الأمة إلا نشر العلم الصحيح فيها حتى يميز الجمهور بين المصلحين والمفسدين، وإن رؤساء البغي والحسد ليعلمون أن نشر العلم في الأمة هو الذي يظهر جهلهم وسوء حالهم فهم لا يمقتون أحدا مقتهم لمن يسعى في ذلك فهم يصدون عن سبيل العلم الصحيح وهي سبيل الله ويبغونها عوجا بما يلقنونه العامة من الخرافات والضلالات التي تخدر أعصابها وتبقيها على حالها، ولا نيأس من روح الله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي سياق الحديث عن الأموال، وتداولها في الجماعة، تجيء تكملة فيما بين الرجال والنساء من ارتباطات ومعاملات. وفيما كان من عقود الولاء وعلاقاتها بنظام التوريث العام. الذي سبق تفصيله في أوائل السورة: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض.. للرجال نصيب مما اكتسبوا، وللنساء نصيب مما اكتسبن.. واسألوا الله من فضله. إن الله كان بكل شيء عليما. ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون. والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم. إن الله كان على كل شيء شهيدًا.. والنص عام في النهي عن تمني ما فضل الله بعض المؤمنين على بعض.. من أي أنواع التفضيل، في الوظيفة والمكانة، وفي الاستعدادات والمواهب، وفي المال والمتاع.. وفي كل ما تتفاوت فيه الأنصبة في هذه الحياة.. والتوجه بالطلب إلى الله، وسؤاله من فضله مباشرة؛ بدلا من إضاعة النفس حسرات في التطلع إلى التفاوت؛ وبدلاً من المشاعر المصاحبة لهذا التطلع من حسد وحقد؛ ومن حنق كذلك ونقمة، أو من شعور بالضياع والحرمان، والتهاوي والتهافت أمام هذا الشعور.. وما قد ينشأ عن هذا كله من سوء ظن بالله؛ وسوء ظن بعدالة التوزيع.. حيث تكون القاصمة، التي تذهب بطمأنينة النفس، وتورث القلق والنكد؛ وتستهلك الطاقة في وجدانات خبيثة، وفي اتجاهات كذلك خبيثة. بينما التوجه مباشرة إلى فضل الله، هو ابتداء التوجه إلى مصدر الإنعام والعطاء، الذي لا ينقص ما عنده بما أعطى، ولا يضيق بالسائلين المتزاحمين على الأبواب! وهو بعد ذلك موئل الطمأنينة والرجاء؛ ومبعث الإيجابية في تلمس الأسباب، بدل بذل الجهد في التحرق والغيظ أو التهاوي والانحلال!... النص عام في هذا التوجيه العام. ولكن موضعه هنا من السياق، وبعض الروايات عن سبب النزول، قد تخصص من هذا المعنى الشامل تفاوتًا معينًا، وتفضيلا معينا هو الذي نزل هذا النص يعالجه.. هو التفاضل في أنصبة الرجال وأنصبة النساء.. كما هو واضح من سياق الآية في عمومها بعد ذلك.. وهذا الجانب -على أهميته الكبرى في تنظيم العلاقة بين شطري النفس البشرية وإقامتها على الرضا وعلى التكامل؛ وإشاعة هذا الرضا- من ثم -في البيوت وفي المجتمع المسلم كله؛ إلى جانب إيضاح الوظائف المنوعة فيه بين الجنسين والمهام.. هذا الجانب على أهميته هذه لا ينفي عموم النص مع خصوص السبب.. ولهذا روت التفاسير المأثورة، هذا المعنى وذاك... إن المنهج الإسلامي يتبع الفطرة في تقسيم الوظائف؛ وتقسيم الأنصبة بين الرجال والنساء. والفطرة ابتداء جعلت الرجل رجلاً والمرأة امرأة؛ وأودعت كلاً منهما خصائصه المميزة؛ لتنوط بكل منهما وظائف معينة.. لا لحسابه الخاص. ولا لحساب جنس منهما بذاته. ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم، وتنتظم، وتستوفي خصائصها، وتحقق غايتها- من الخلافة في الأرض وعبادة الله بهذه الخلافة -عن طريق هذا التنوع بين الجنسين، والتنوع في الخصائص والتنوع في الوظائف.. وعن طريق تنوع الخصائص، وتنوع الوظائف، ينشأ تنوع التكاليف، وتنوع الأنصبة، وتنوع المراكز.. لحساب تلك الشركة الكبرى والمؤسسة العظمى.. المسماة بالحياة...
وحين يدرس المنهج الإسلامي كله ابتداء، ثم يدرس الجانب الخاص منه بالارتباطات بين شطري النفس الواحدة، لا يبقى مجال لمثل ذلك الجدل القديم الذي ترويه هذه الروايات، ولا كذلك للجدل الحديث، الذي يملأ حياة الفارغين والفارغات في هذه الأيام. ويطغى أحيانًا على الجادين والجادات بحكم الضجيج العام!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. والمناسبة بين الجملتين المتعاطفتين: أنّ التمنّي يحبّب للمُتمنّي الشيء الذي تمنّاه، فإذا أحبّه أتْبَعَه نفسه فرام تحصيله وافتُتن به، فربما بعثه ذلك الافتتان إلى تدبير الحيل لتحصيله إن لم يكن بيده، وإلى الاستئثار به عن صاحب الحقّ فيغمض عينه عن ملاحظة الواجب من إعطاء الحقّ صاحبه وعن مناهي الشريعة التي تضمّنتها الجمل المعطوف عليها. وقد أصبح هذا التمنّي في زماننا هذا فتنة لِطوائف من المسلمين سرت لهم من أخلاق الغلاة في طلب المساواة ممّا جرّ أمما كثيرة إلى نحلة الشيوعية فصاروا يتخبَّطون لطلب التساوي في كلّ شيء ويعانون إرهاقاً لم يحصّلوا منه على طائل...
فالنهي عن التمنّي وتطلّع النفوس إلى ما ليس لها جاء في هذه الآية عامّا، فكان كالتذييل للأحكام السابقة لسدّ ذرائعها وذرائع غيرها، فكان من جوامع الكلم في درء الشرور. وقد كان التمنّي من أعظم وسائل الجرائم، فإنّه يفضي إلى الحسد، وقد كان أوّل جرم حصل في الأرض نشأ عن الحسد. ولقد كثر ما انتبهت أموال، وقتلت نفوس للرغبة في بسطة رزق، أو فتنة نساء، أو نوال مُلك، والتاريخ طافح بحوادث من هذا القبيل...
والذي يبدو أنّ هذا التمنّي هو تمنّي أموال المثرين، وتمنّي أنصباء الوارثين، وتمنّي الاستئثار بأموال اليتامى ذكورهم وإناثهم، وتمنّي حرمان النساء من الميراث ليناسب ما سبق من إيتاء اليتامى أموالهم. وإنصاف النساء في مُهورهنّ، وترك مضارّتهنّ إلجاء إلى إسقاطها، ومن إعطاء أنصباء الورثة كما قسم الله لهم. وكلّ ذلك من تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق...
والتمنّي هو طلب حصول ما يعسر حصوله للطالب. وذلك له أحوال؛ منها أن يتمنّى ما هو من فضل الله غير ملتفت فيه إلى شيء في يد الغير، ولا مانع يمنعه من شرع أو عادة، سواء كان ممكن الحصول كتمنّي الشهادة في سبيل الله، أم كان غير ممكن الحصول كقول النبي صلى الله عليه وسلم "وَلَوَدِدْتُ أني أقْتَلُ في سبيل الله ثم أُحيى ثم أقتل ثم أُحيى ثم أقتل". وقوله صلى الله عليه وسلم "ليتنا نرى إخواننا "يعني المسلمين الذين يجيئون بعده. ومنها أن يتمنّى ما لا يمكن حصوله لمانع عادي أو شرعي، كتمنّي أمّ سلمة أن يغزو النساء كما يغزو الرجال، وأن تكون المرأة مساوية الرجل في الميراث؛ ومنها أن يتمنّى تمنيّا يدلّ على عدم الرضا بما ساقه الله والضجر منه، أو على الاضطراب والانزعاج، أو على عدم الرضا بالأحكام الشرعية...
ومنها أن يتمنّى نعمة تماثل نعمة في يد الغير مع إمكان حصولها للمتمنّي بدون أن تسلب من التي هي في يده كتمنّي عِلم مثل علم المجتهد أو مال مثل مال قارون. ومنها أن يتمنّى ذلك لكن مثله لا يحصل إلاّ بسلب المنعَم عليه به كتمنّي مُلك بلدة معيّنة أو زوجة رجل معيّن. ومنها أن يتمنّى زوال نعمة عن الغير بدون قصد مصيرها إلى المتمنّي...
وحاصل معنى النهي في الآية أنّه: إمّا نهي تنزيه لتربية المؤمنين على أن لا يشغلوا نفوسهم بما لا قبل لهم بنواله ضرورة أنّه سمّاه تمنّيا، لئلا يكونوا على الحالة التي ورد فيها حديث:"يتمنى على الله الأماني "ويكون قوله: {واسألوا الله من فضله} إرشاد إلى طلب الممكن، إذ قد علموا أنّ سؤال الله ودعاءه يكون في مرجوّ الحصول، وإلاّ كان سوء أدب...
وإمّا نهي تحريم، وهو الظاهر من عطفه على المنهيات المحرّمة، فيكون جريمة ظاهرة، أو قلبية كالحسد، بقرينة ذكره بعد قوله: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29]. فالتمنّي الأوّل والرابع غير منهي عنهما، وقد ترجم البخاري في صحيحه « باب تمني الشهادة في سبيل الله وباب الاغتباط في العلم والحكمة»، وذكر حديث:"لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلّطه على هَلَكته في الحقّ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها الناس". وأمّا التمنّي الثاني والثالث فمنهي عنهما لأنّهما يترتّب عليهما اضطراب النفس وعدم الرضا بما قسم الله والشكّ في حكمة الأحكام الشرعية. وأمّا التمنّي الخامس والسادس فمنهي عنهما لا محالة، وهو من الحسد، وفي الحديث "لا تسأل المرأة طلاقَ أختها لتستفرغ صحفتها"...
ولذلك نهي عن أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، إلاّ إذ كان تَمَنِّيه في الحالة الخامسة تمنّيَ حصول ذلك له بعد من هي بيده بحيث لا يستعجل موته. وقد قال أبو بكر، لمّا استَخْلَف عمر، يخاطب المهاجرين: « فكلّكم ورم أنفه يريد أن يكون له الأمر دونه». والسادس أشدّ وهو شرّ الحسدين إلاّ إذا كان صاحب النعمة يستعين به على ضرّ يلحق الدين أو الأمّة أو على إضرار المتمنّي. ثم محلّ النهي في الآية: هو التمنّي، وهو طلب ما لا قبل لأحد بتحصيله بكسبه، لأنّ ذلك هو الذي يبعث على سلوك مسالك العداء، فأمّا طلب ما يمكنه تحصيله من غير ضرّ بالغير فلا نهي عنه، لأنّه بطلبه ينصرف إلى تحصيله فيحصل فائدة دينية أو دنيوية، أمّا طلب ما لا قبل له بتحصيله فإن رجع إلى الفوائد الأخروية فلا ضير فيه...
وحكمة النهي عن الأقسام المنهي عنها من التمنّي أنّها تفسد ما بين الناس في معاملاتهم فينشأ عنها التحاسد، وهو أوّل ذنب عُصي الله به، إذْ حسد إبليس آدم، ثم ينشأ عن الحسد الغيظ والغضب فيفضي إلى أذى المحسود، وقد قال تعالى: {ومن شر حاسد إذا حسد} [الفلق: 5]. وكان سبب أوّل جريمة في الدنيا الحسد: إذ حسد أحد ابني آدم أخاه فقتله، ثم إنّ تمنّي الأحوال المنهي عنها يَنْشأ في النفوس أوّلَ ما ينشأ خاطراً مجرّدا، ثم يربو في النفس رويداً رويداً حتّى يصير ملكة، فتدعو المرء إلى اجترام الجرائم ليشفي غلّته، فلذلك نهوا عنه ليزجروا نفوسهم عند حدوث هاته التمنّيات بزاجر الدين والحكمة فلا يَدعوها تربو في النفوس. وما نشأت الثورات والدعايات إلى ابتراز الأموال بعناوين مختلفة إلاّ من تمنّي ما فضّل به الله بعض الناس على بعض، أو إلاّ أثر من آثار ما فضّل الله به بعض الناس على بعض...
وقوله: {بعضكم على بعض} صالح لأن يكون مراداً به آحاد الناس، ولأن يكون مراداً به أصنافهم...
والنصيب: الحظّ والمقدار، وهو صادق على الحظ في الآخرة والحظّ في الدنيا، وتقدّم آنفاً. والاكتساب: السعي للكسب، وقد يستعار لحصول الشيء ولو بدون سعي وعلاجٍ. و (مِن) للتبعيض أو للابتداء، والمعنى يحتمل أن يكون استحقّ الرجال والنساء كلّ حظّه من الأجر والثواب المنجرّ له من عمله، فلا فائدة في تمنّي فريق أن يعمل عمل فريق آخر، لأنّ الثواب غير منحصر في عمل معيَّن، فإنّ وسائل الثواب كثيرة فلا يسوءكم النهي عن تمنّي ما فضّل الله به بعضكم على بعض. ويحتمل أنّ المعنى: استحقّ كلّ شخص، سواء كان رجلاً أم امرأة، حظّه من منافع الدنيا المنجرّ له ممّا سعى إليه بجهده، أو الذي هو بعض ما سعى إليه، فتمنّي أحد شيئاً لم يسع إليه ولم يكن من حقوقه، هو تمنّ غير عادل، فحَقَّ النهي عنه؛ أو المعنى استحقّ أولئك نصيبهم ممّا كسبوا، أي ممّا شُرع لهم من الميراث ونحوه، فلا يحسد أحدٌ أحداً على ما جعل له من الحقّ، لأنّ الله أعلم بأحقّيّة بعضكم على بعض...
وقوله: {إن الله كان بكل شيء عليماً} تذييل مناسب لهذا التكليف، لأنّه متعلّق بعمل النفس لا يراقِب فيه إلاّ ربّه...
{ما فضل الله به بعضكم على بعض} يجعلنا نتساءل: من هو المفضل ومن هو المفضل عليه؟ لأنه قال:"بعضكم". لم يبينها لنا، إذن فبعض مفضل وبعض مفضل عليه. وسؤال آخر: وأي بعض مفضل وأي بعض مفضل عليه؟ إن كل إنسان هو فاضل في شيء ومفضول عليه في شيء آخر، فإنسان يأخذ درجة الكمال في ناحية، وإنسان يفتقد أدنى درجة في تلك الناحية، لكنه يملك موهبة أخرى قد تكون كامنة ومكتومة. وهذا يعني التكامل في المواهب...