وقوله : { واستفزز } ، واستخفف واستجهد { من استطعت منهم } ، أي : من ذرية آدم ، { بصوتك } ، قال ابن عباس و قتادة : بدعائك إلى معصية الله . وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس . قال الأزهري : معناه ادعهم دعاء تستفزهم به إلى جانبك ، أي : تستخفهم . وقال مجاهد : بالغناء والمزامير . { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } ، قيل : اجمع عليهم مكايدك وخيلك ، ويقال : أجلبوا ، و جلبوا ، إذا صاحوا ، يقول : صح بخيلك ورجلك وحثهم عليه بالإغواء . قال مقاتل : استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم ، والخيل : الركبان ، والرجل : المشاة . قال أهل التفسير : كل راكب وماش في معاصي الله فهو من جند إبليس . وقال مجاهد و قتادة : إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس ، وهو كل من يقاتل في المعصية ، والرجل ، والرجالة والراجلة واحد ، يقال : راجل ورجل ، مثل : تاجر وتجر ، وراكب وركب ، وقرأ حفص ورجلك بكسر الجيم وهما لغتان . { وشاركهم في الأموال والأولاد } فالمشاركة في الأموال : كل ما أصيب من حرام ، أو أنفق في حرام ، هذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير . وقال عطاء : هو الربا وقال قتادة هو ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال الضحاك : هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم . وأما الشركة في الأولاد : روي عن ابن عباس : أنها المؤودة . وقال مجاهد والضحاك : هم أولاد الزنا . وقال الحسن ، وقتادة : هو أنهم هودوا أولادهم ، ونصروهم ، ومجسوهم . وعن ابن عباس رواية أخرى : هو تسميتهم الأولاد عبد الحارث وعبد شمس ، وعبد العزى ، وعبد الدار ، ونحوها . وروي عن جعفر بن محمد أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل : بسم الله أصاب معه امرأته ، وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل . وروي في بعض الأخبار : إن فيكم مغربين ، قيل : وما المغربون ؟ قال : الذي يشارك فيهم الجن . وروي أن رجلاً قال لابن عباس : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار ؟ قال : ذلك من وطء الجن . وفي الآثار : إن إبليس لما أخرج إلى الأرض ، قال : يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم ، فسلطني عليه وعلى ذريته ، قال : أنت مسلط ، فقال : لا أستطيعه إلا بك فزدني ، قال : استفزز من استطعت منهم بصوتك الآية ، فقال آدم : يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه ، قال : زدني ، قال : الحسنة بعشرة أمثالها ، والسيئة بمثلها ، قال : زدني ، قال : التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد ، فقال : زدني ، قال : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية [ الزمر – 53 ] . وفي الخبر : أن إبليس قال : يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتباً فما قراءتي ؟ قال : الشعر ، قال : فما كتابي ؟ قال الوشم ، قال : ومن رسلي ؟ قال : الكهنة ، قال : وأين مسكني ؟ قال : الحمامات ، قال : وأين مجلسي ؟ قال : الأسواق ، قال : أي شيء مطعمي ؟ قال : ما لم يذكر عليه اسمي ، قال : ما شرابي ؟ قال : كل مسكر ، قال : وما حبالي ؟ قال : النساء ، قال : وما أذاني ؟ قال : المزامير . قوله عز وجل : { وعدهم } أي : منهم الجميل في طاعتك . وقيل : قل لهم : لا جنة ولا نار ولا بعث . { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } ، والغرور تزيين الباطل بما يظن أنه حق . فإن قيل : كيف ذكر الله هذه الأشياء وهو يقول : { إن الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف – 28 ] ؟ قيل : هذا على طريق التهديد ، كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت – 40 ] ، وكقول القائل : افعل ما شئت فسترى .
ثم أضاف - سبحانه - إلى إهانته وتحقيره لإِبليس أوامر أخرى ، فقال - تعالى - : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } .
قال الجمل : أمر الله - تعالى - إبليس بأوامر خمسة ، القصد بها : التهديد والاستدراج ، لا التكليف ، لأنها كلها معاص ، والله لا يأمر بها .
وهذه الأوامر الخمسة هى : اذهب ، واستفزز . . . وأجلب . . . وشاركهم .
وقوله : واستفزز ، من الاستفزاز ، بمعنى الاستخفاف والإِزعاج ، يقال : استفز فلان فلانا إذا استخف به ، وخدعه ، وأوقعه فيما أراده منه . ويقال : فلان استفزه الخوف ، إذا أزعجه .
وقوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أصل الإِجلاب : الصياح بصوت مسموع . يقال : أجلب فلان على فرسه وجلب عليه ، إذا صاح به ليستحثه على السرعة فى المشى .
قال الآلوسى : " قوله { وأجلب عليهم } أى : صح عليهم من الجلَبة وهى الصياح . قاله الفراء وأبو عبيدة . وقال الزجاج : أجلب على العدو : جمع عليه الخيل . وقال ابن السكيت : جلب عليه : أعان عليه . وقال ابن الأعرابى : أجلب على الرجل ، إذا توعده الشر ، وجمع عليه الجمع .
والخيل : يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ، وعلى الفرسان مجازا ، وهو المراد هنا .
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فى بعض غزواته لأصحابه : " يا خيل الله اركبى " والرجل - بكسر الجيم - بمعنى راجل - كحذر بمعنى حاذر - هو الذى يمشى رجلاً ، أى غير راكب . . . " .
والمعنى . قال الله - تعالى - لإِبليس : اذهب أيها اللعين مذءوما مدحورًا . فإن جهنم هى الجزاء المعد لك ولأتباعك من ذرية آدم ، وافعل ما شئت معهم من الاستفزاز والخداع والإِزعاج ولهو الحديث وأجلب عليهم ما تستطيع جلبه من مكايد ، وما تقدر عليه من وسائل ، كأن تناديهم بصوتك ووسوستك إلى المعاصى ، وكأن تحشد جنودك على اختلاف أنواعهم لحربهم وإغوائهم وصدهم عن الطريق المستقيم .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته ، وإجلابه بخيله ورجله ؟
قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل شبهت حاله فى تسلطه على من يغويه ، بمغوار أوقع على قوم ، فصوت بهم صوتًا يستفزهم من أماكنهم ، ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجنده ، من خيالة ورجالة حتى استأصلهم ، وقيل : بصوته ، أى : بدعائه إلى الشر ، وبخيله ، ورجله : أى كل راكب وماش من أهل العبث . وقيل : يجوز أن يكون لإِبليس خيل ورجال " .
وعلى أية حال ، فالجملة الكريمة تصوير بديع ، لعداوة إبليس لآدم وذريته ، وأنه معهم فى معركة دائمة ، يستعمل فيها كل وسائل شروره ، ليشغلهم عن طاعة ربهم ، وليصرفهم عن الصراط المستقيم ، ولكنه لن يستطيع أن يصل إلى شئ من أغراضه الفاسدة ، ما داموا معتصمين بدين ربهم - عز وجل - .
وقوله - سبحانه - : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ } ، معطوف على ما قبله .
أى : وشاركهم فى الأموال ، بأن تحضهم على جمعها من الطرق الحرام ، وعلى إنفاقها فى غير الوجوه التى شرعها الله ، كأن يستعملوها فى الربا والرشوة وغير ذلك من المعاملات المحرمة .
وشاركهم فى الأولاد : بأن تحثهم على أن ينشئوهم تنشئة تخالف تعاليم دينهم الحنيف وبأن تيسر لهم الوقوع فى الزنا الذى يترتب عليه ضياع الأنساب ، وبأن تظاهرهم على أن يسموا أولادهم بأسماء يبغضها الله - عز وجل - ، إلى غير ذلك من وساوسك التى تغرى الآباء بأن يربوا أبناءهم تربية يألفون معها الشرور والآثام ، والفسوق والعصيان .
قال الإِمام ابن جرير بعد أن ساق عددًا من الأقوال فى ذلك : " وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : كل مولود ولدته أنثى ، عصى الله فيه ، بتسميته بما يكرهه الله ، أو بإدخاله فى غير الدين الذى ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو بقتله أو وأده ، أو غير ذلك من الأمور التى يعصى الله بفعله به أو فيه ، فقد دخل فى مشاركة إبليس فيه ، من ولد ذلك الولد له أو منه ، لأن الله لم يخصص بقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد } معنى الشركة فيه ، بمعنى دون معنى ، فكل ما عصى الله فيه أو به ، أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة . . . " .
وقد علق الإِمام ابن كثير على كلام ابن جرير بقوله : وهذا الذى قاله - ابن جرير - متجه ، فقد ثبت فى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله - عز وجل - إنى خلقت عبادى حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتى أهله قال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد فى ذلك لم يضره الشيطان أبدًا " .
وقوله : { وعدهم } أى : وعدهم بما شئت من المواعيد الباطلة الكاذبة . كأن تعدهم بأن الدنيا هى منتهى آمالهم . فعليهم أن يتمتعوا بها كيف شاءوا بدون تقيد بشرع أو دين أو خلق . وكأن تعدهم بأنه ليس بعد الموت حساب أو ثواب أو عقاب ، أو جنة أو نار . . .
وقوله سبحانه { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } تحذير من الله تعالى لعباده من اتباع الشيطان ، ومن السير وراء خطواته .
وأصل الغرور تزين الباطل بما يوهم أنه حق . يقال : غر فلان فلانا فهو يغُره غرورًا إذا خدعه ، وأصله من الغُرُّ ، وهو الأثر الظاهر من الشئ ، ومنه غرة الفرس لأنها أبرز ما فيه . ولفظ { غرورا } صفة لموصوف محذوف .
والتقدير : وعدهم - أيها الشيطان - بما شئت من الوعود الكاذبة ، وما يعد الشيطان بنى آدم إلا وعدا غرورا .
ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله فيكون المعنى : وما يعدهم الشيطان إلا من أجل الغرور والمخادعة .
وفى الجملة الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إهمالاً لشأن الشيطان ، وبيانًا لحاله مع بنى آدم ؛ حتى يحترسوا منه ويحذروه .
( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) .
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة ، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة ، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة ، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل ، وأحاطت بهم الرجال !
( وشاركهم في الأموال والأولاد ) . .
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية ، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة . وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث !
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام ، أو يتصرف فيه بغير حق ، أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة !
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها ، ومنها الوعود المغرية المخادعة : ( وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . . .
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ؛ وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة ، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة !
{ واستفزز } واستخفف . { من استطعت منهم } أن تستفزه والفز الخفيف { بصوتك } بدعائك إلى الفساد . { وأجلب عليهم } وصح عليهم من الجلبة وهي الصياح . { بخيلك ورجلك } بأعوانك من راكب وراجل ، والخيل الخيالة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام " يا خيل الله اركبي " والرجل اسم جمع للراجل كالصحب والركب ، ويجوز أن يكون تمثيلا لتسلطه على من يغويه بمغوار صوت على قوم فاستفزهم من أماكنهم واجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم . وقرأ حفص { ورجلك } بالكسر وغيره بالضم وهما لغتان كندس وندس ومعناه : وجمعك الرجل . وقرئ و " رجالك " و " رجالك " . { وشاركهم في الأموال } بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام والتصرف فيها على ما لا ينبغي { والأولاد } بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم ، والإشراك فيه بتسميته عبد العزى ، والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة . { وعدهم } المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة لطول الأمل . { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } اعتراض لبيان مواعيده الباطلة ، والغرور تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب .