الآية64 : وقوله تعالى : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } هذا يخرج على وجهين :
أحدهما : على التمكن من ذلك والإقدار على ما ذكر ؛ أي مكن له ذلك ، وأقدر عليه لخذلانه إياه لما عصى ربه ، وترك أمره بالسجود جورا منه حين{[11042]} قال : { وإن عليك اللعنة إلى يوم اليدين } ( الحجر : 35 ) مكن له ذلك ليتم له اللعنة والخذلان .
والثاني : قال ذلك له على التوعد والتهدد . ألا ترى أنه ذكر ( له هذا ){[11043]} على أمر وعيد ، وهو قوله : { فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا } ؟ فيخرج قوله : { واستفزز }على إثر ذلك مخرج الوعيد له لمن تبعه ، وأجابه ، كقوله{ اعملوا ما شئتم إنه بما تعلمون بصير } ( فصلت : 40 )لهذا ، وإن كان ظاهره أمرا فهو وعيد . فعلى قوله : { واستفزز من استطعت منهم } فإن ذلك ولمن اتبعك كذا . أو لما ذكرنا من التمكين له من ذلك و الإقدار على ذلك ليُتِمَ له الخذلان واللعن الذي لعنه .
وإلا لا يجوز أن يكون الله يأمره بما ذكر إذ يخرج الأمر بما ذكر مخرج السفه والأمر بالفحشاء ، وقد أخبر لأنه لا يأمر بالفحشاء والمنكر ، وإنما بالعدل كقوله : { إن الله لا يأمر بالفحشاء }( الأعراف : 28 } وقوله : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي }( النحل : 90 ) فلو حُمِلَ هذا على الأمر لكان أمرا بالفحشاء والمنكر .
فدل أنه يُخَرََّج على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما/305-أ/أي{[11044]} على الاستبعاد والإياس عن أن يملك أو يقدر عليهم بما ذكر إلا من اختار منهم إتباعه ، وهو ما ذكر : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } الآية ( الحجر : 42 والإسراء : 65 )والله أعلم .
وقوله تعالى : { واستفزز } قال القتبي : أي استخف ، ( واستخف ){[11045]} الرَّجْلَ والرَّجَاَلة . وقال أبو عوسجة : { واستفزز }أي استخف أي دعاه ، فأجابه فأطاعه ، وعلى هذا يخرج قوله{ فاستخف قومه فأطاعوه } ){[11046]} ( الزخرف : 54 )فأطاعوه ، أي أمرهم ، فأطاعوه ، أي دعاهم ، فأجابوه .
وقوله تعالى : { بصوتك }يحتمل وجوها ثلاثة :
أحدهما : على الصوت ، يكون له صوت ، يدعو{[11047]} الناس به ، فتسمع ذلك الصوت النفس الخفية التي تكون في هذه النفس الظاهرة الكثيفة ، ولا تسمعه النفس الظاهرة ، على ما تخطر أشياء بالقلب من غير أن يعلم به الإنسان أنه من أين ( جاء ؟ ومن أين ){[11048]} هيجانه ؟ وعلام يقذف ؟ ويوسوس أشياء في القلوب من غير أن يعلم ذلك ، ويطلع عليه .
فعلى ذلك يجوز أن يكون له صوت يدعوا الناس به ، وإن كنا ، لا نسمعه ، لكنه يسمع النفس الخفية بما يسمع النفس الظاهرة ، وبها تبصر ؛ أعني بالنفس الخفية . ألا ترى أن النائم يرى أشياء ، ويكون في أقصى الدنيا ، ونفسه الظاهرة ملقاة ههنا ، فذلك كله بالنفس الخفية .
والثاني : على التمثيل ، ليس على تحقيق الصوت ( لكن ذكر الصوت ){[11049]} لما بالصوت يرسل الإعلام إلى بعضهم بعضا ، وبه يدعو بعضهم بعضا عند البعد ، فذكر الصوت له مكان الوسوسة التي توسوس للناس أشياء من بعد ، وتدعوهم به إلى معاصي الله ، وكذلك قال الحسن في قوله { فوسوس إليه الشيطان }( طه : 120 )من بعد من غير أن كان هنالك تقرب منه .
والثالث : على إضافة عمل كل عاص من نحو الغناء والمزامير وغيره ، أو يضاف عمل كل طائع وكال ضال إليه ؛
أضيف ذلك إليه كما أضاف موسى حين{[11050]} قال : { قال هذا من عمل الشيطان } ( القصص : 15 ) وقال{[11051]} : { وما أنسيناه إلا الشيطان } ( الكهف : 63 )ولم يكن ذلك عمل الشيطان حقيقة ، وأضافه إليه لما بأمره ودعائه يعمل ذلك .
وقال عامة أهل التأويل : { بصوتك } أي بدعائك .
وقوله تعالى : { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } قال بعضهم : أجلب أي اجمعهم ، ويقال : أجْلَبَتْهُمْ أي أَعَنْتُهُمْ أيضا وهو قول لأبي عوسجة .
وقوله تعالى : { بخيلك ورجلك } يخرج على الوجوه الثلاثة التي ذكرنا :
أحدها : أن يكون له خيل ورَجَّاَلة وجنود من جنسه وجوهره ، يجلبهم بهم ، وإن كنا ، لا نراهم كما قال : { إنه يراكم هو وقبيله } الآية( الأعراف : 27 ) فجائز أن يكون له خيل ورجالة وجنود ، لا نراهم نحن ، وهو يروننا .
والثاني : على ما ذكرنا أنه من التمثيل ، لكنه ذكر الخيل والرجل لما بالخيل والمشي يصل بعض إلى بعض عند الحاجة إليه في البعد والقرب ، فذكر ذلك له على ما ذكرنا في الصوت .
والثالث : أنه أضاف كل خيل راكب في معصية الله أو كل ماش في معصية الله على ما ذكرنا في الصوت في معصية الله ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا } قال القتبي : { موفورا }أي موفرا . وقال غيره : وافرا .
وفي قوله : { لئن أخرتن إلى يوم القيامة } دلالة نقض قول المعتزلة لأن إبليس سأل ربه التأخير والإبقاء له إلى يوم القيامة ، وقد علم أنه إذا أعطاه ذلك له وفى{[11052]} له ما وعد ، وأبقاه إلى ذلك الوقت ، وهم لم يعرفوا ذلك ، بل قالوا : إنه يجيء عبد ، فيقتله ، فيمنعه عن وفاء ما وعد والإبقاء إلى الوقت الذي وقت له ، فهو أعرف بربه منهم ، وكذلك { قال رب بما أغويتني } ( الحجر : 39 ) وهم يقولون : لم يغوه . فهو أعرف بهم منهم وقوله تعالى : { وشاركهم في الأموال والأولاد }قال بعض أهل التأويل : مشاركته في الأموال هي أن ( يجعلوا له ){[11053]} البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي على ما كانوا يفعلونه . وأما الأولاد فإنهم هودوهم ونصروهم ، ومجَّسُوهُم ، وهو قول قتادة .
وقال بعضهم : مشاركته في الأموال هي أن يكتسبوها من خبيث وحرام ، وينفقوها في مثله وفي ما لا يحل ، وأما الأولاد فهم{[11054]} ما ولدوا من الزنى . وقال بعضهم : الأموال ما كانوا يذبحون لآلهتهم ، ويجعلونها{[11055]} { من الحرث والأنعام }( الأنعام : 136 )والأولاد ما ولدوا من الزنى .
وجائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك }إلى آخر ما ذكر حتى تشاركهم في الأموال والأولاد .
ثم معنى المشاركة له في ما ذكر ، والله أعلم ، هو أن هذه الأموال والأولاد لله تعالى حقيقة لما هو أنشأها ، وخلقها . فحقيقة الملك له بما ذكرنا . وظاهر الانتفاع لعبده ، إذ هذا كله لله بحق المحنة يمتحنهم ، وحق الانتفاع لهم ، إذ لا يجوز أن يخلق الله شيئا لمنفعة نفسه ، ولكن يخلق لمنافع أنفسهم ليمتحنهم بها .
وقد شرع الله لهم ( شرائع ، وشرع إبليس لهم ){[11056]} شرائع ، وهو ما ذكر : { أم لهم شركاؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }( الشورى : 21 ) فإذا صرفوا ذلك إلى ما شرع ( لهم إبليس دون ما شرع ){[11057]} الله فقد أشركوه فيها ، وكل ما أطيع فيها مما سن{[11058]} ، لهم إبليس ، وشرع لهم ، فذلك شركته فيها .
وذلك لأن الأولاد في الشاهد إنما تطلب لأحد الوجوه الثلاثة : إما للاستئناس بهم في حال الوحشة ، وإما للاستنصار بهم والعون على أعدائهم ، وإما للذكر بعد الوفاة . عدائهم وإما للذكر بعد الوفاة .
وكذلك الأموال يطلب منها ما ذكرنا : الانتفاع بها في حال الحياة ، وإما للمعونة على الأعداء والذكر بعد الموت لخيرات يتركونها . فإذا صرفوها إلى ما أمرهم إبليس أشركوه فيها ، ومشاركتهم إياهم{[11059]} في الأموال متى يأمرهم ، ويدعوهم إليه ، فيطيعونه ، ويجيبونه . في ذلك والله أعلم مشاركته .
وقوله تعالى : { وعدهم } قال عامة أهل التأويل : أي وعدهم أن لا جنة : ولا نار ، ولا بعث ، أي{[11060]} يعدهم بخلاف ما وعدهم الله ، وخوفهم على ضد ما خوفهم الله : ما كان من الله وعد رجاء ، وهو ما قال : { إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم }( إبراهيم : 22 ) أخبر أن ما وعد هو ، قد أخلف . فذلك تأويل قوله : { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } أي كذبا وباطلا لأنه يخرج كله على خلاف ما وعد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.