فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ( 64 ) }

ثم كرر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال : { وَاسْتَفْزِزْ } أي استزعج واستعجل واستزل واستخف { مَنِ اسْتَطَعْتَ } أن تستفزه { مِنْهُمْ } أي من بني آدم ، يقال أفزه واستفزه أي أزعجه واستخفه والمعنى استخفهم { بِصَوْتِكَ } داعيا لهم إلى معصية الله ، وقيل هو الوسوسة والغناء واللهو واللعب والمزامير { وَأَجْلِبْ } قال الفراء وأبو عبيدة : من الجلبة والصياح أي صح { عَلَيْهِم } وقال الزجاج : أي اجمع عليهم ما تقدر عليه من مكايدك وحبائلك وأحثهم على الإغواء فالإجلاب الجمع .

وقال ابن السكيت : الإجلاب الإعانة ، أي استعن عليهم وتصرف فيهم بكل ما تقدر ، والأمر للتهديد كما يقال اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك { بِخَيْلِكَ } أي بركبان جندك ؛ والخيل يقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( يا خيل الله اركبي ) ويقع على الأفراس ، قاله ابن السكيت قيل الباء للملابسة أي صح وصوت عليهم حال كونك متلبسا ومصحوبا بجنودك .

قلت كون الباء للملابسة بعيد من حيث المعنى المراد كما تدل عليه عبارة اللغويين واللائق بها أن تكون زائدة ، وقد نص الشهاب على زيادتها ، وفي المختار جلب على فرسه يجلب جلبا صاح به من خلفه واستحثه للسبق وكذا أجلب عليه ، وهذا يقتضي زيادة الباء ، والمعنى حث وأسرع عليهم جندك خيلا ومشاة لتدركهم وتتمكن منهم فليتأمل { وَرَجِلِكَ } أي مشاتك ؛ يقال أن له خيلا ورجلا من الجن والإنس ، فكل من ركب أو مشى في معصية الله فهو من جند إبليس ، والرجل بسكون الجيم جمع راجل ، كتاجر وتجر وصاحب وصحب .

وقال أبو زيد : يقال رجل ورجل بمعنى راجل ، وقيل اسم لراجل بمعنى الماشي ، وقرئ في السبعة بكسر الجيم وهو مفرد بمعنى الجمع فهو بمعنى المشاة ، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان أو المراد ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك والحمل على الظاهر أولى .

{ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } أما المشاركة في الأموال فهي كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذا من غير حق أو وضعا في غير حق كالغصب والسرقة والربا ، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة ، والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب شرعي وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات والعزى والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء .

ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها من الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم . وعن ابن عباس أنه سأل رجل فقال : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار ، قال ذلك من وطء الجن .

ثم قال : { وَعِدْهُمْ } بأنهم لا يبعثون قاله الزجاج : وقال الفراء : أي قل لهم لا جنة ولا نار ، وقيل وعدهم المواعيد الكاذبة الباطلة من النصرة على من خالفهم وشفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة والاتكال على كرامة الله وتأخير التوبة لطول الأمل وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك ، وهذا على طريق التهديد كقوله : { اعملوا ما شئتم } .

{ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } أي باطلا اعتراض لبيان مواعيده فإنه وقع بين الجمل التي خاطب الله بها الشيطان وفيه إظهار في مقام الإضمار والالتفات عن الخطاب إلى الغيبة وكان مقتضى الظاهر أن يقال وما تعدهم إلا غرورا ، وأصل الغرور تزيين الخطأ بما يوهم الصواب .