الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

قوله تعالى : { وَاسْتَفْزِزْ } : جملةٌ أمريةٌ عُطِفَتْ على مِثلِها من قولِه " اذهَبْ " . و { مَنِ اسْتَطَعْتَ } يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أنها موصولةُ في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز ، أي : استفزِزْ الذي استطعْتَ استفزازَه منهم . والثاني : أنها استفهاميةٌ منصوبةُ المحلِّ ب " استطعْتَ " قاله أبو البقاء ، وليس بظاهرٍ لأنَّ " اسْتَفْزِزْ " يطلبه مفعولاً به ، فلا يُطقع عنه ، ولو جَعَلْناه استفهاماً لكان مُعَلَّقاً له ، وليس هو بفعلٍ قلبي/ فيعلَّق .

والاسْتِفْزاز : الاستخفاف ، واستفزَّني فلانٌ : استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده . قال :

يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزُّه *** ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ

ومنه سُمِّي ولدُ البقرة " فزَّاً " . قال الشاعر :

كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ *** خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ

وأصلُ الفَزِّ : القَطْعُ ، يقال : تَفَزَّز الثوبُ ، أي : تقطَّع .

قوله : " وأَجْلِبْ " ، أي : اجْمَعْ عليهم الجموعَ مِنْ جُنْدِك يقال : أَجْلَبَ عليه وجَلَبَ ، أي : جَمَعَ عليه الجموعَ . وقيل : أَجْلَبَ عليه : توعَّده بشرٍّ . وقيل : أَجْلَبَ عليه : أعان ، وأجلب ، أي : صاح صِياحاً شديداً ، ومنه الجَلَبَة ، أي : الصِّياح .

قوله : " وَرَجِلِك " قرأ حفصٌ بكسرِ الجيمِ ، والباقون بسكونها ، فقراءة حفصٍ " رَجِل " فيها بمعنى رَجُل بالضم بمعنى راجل يُقال : رَجِلَ يَرْجَلُ إذا صار راجِلاً ، فيكون مثل : حَذِر وحَذُر ، ونَدِس ونَدُس ، وهو مفردٌ أريد به الجمعُ . وقال ابن عطية : هي صفةٌ يقال : فلان يمشي رَجِلاً إذا كان غيرَ راكبٍ ، ومنه قولُ الشاعر :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . رَجِلاً إلا بأصحابي

قلت : يشير إلى البيتِ المشهور وهو :فما أُقاتلُ عن ديني على فَرَسي *** إلا كذا رَجِلاً إلا بأصحابي

أراد : فارساً ولا راجلاً .

وقال الزمخشريُّ : " على أن فَعِلاً بمعنى فاعِل نحو : تَعِب وتاعب ، ومعناه : وجَمْعك الرَّجِلُ ، وتُضَمُّ جيمُه أيضاً فيكون مثلَ : حَذُر وحَذِر ، ونَدُس ونَدِس ، وأخواتٍ لهما " .

وأما قراءةُ الباقين فتحتملُ أَنْ تكون تخفيفاً مِنْ " رَجِل " بكسر الجيم أو ضمِّها ، والمشهورُ : أنه اسمُ جمع لراجِل كرَكْب وصَحْب في راكِب وصاحِب . والأخفش يجعل هذا النحوَ جمعاً صريحاً .

وقرأ عكرمةُ " ورِجالك " جمع رَجِل بمعنى راجِل ، أو جمع راجِل كقائم وقيام . وقُرِئ " ورُجَّالك " بضمِّ الراء وتشديد الجيم ، وهو جمع راجِل كضارِب وضُرَّاب .

والباء في " بخَيْلِك " يجوز أن تكونَ الحالية ، أي : مصاحَباً بخيلك ، وأن تكون مزيدةً كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر

وقد تقدَّم في البقرة .

قوله : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ } من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ ؛ إذ لو جَرَى على سَنَنِ الكلامِ الأول لقال : وما تَعِدُهم ، بالتاء من فوق .

قوله : { إِلاَّ غُرُوراً } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ وهو نفسُه مصدرٌ ، الأصل : إلا وَعْداً غروراً ، فيجيء فيه ما في " رجلٌ عَدْلٌ " ، أي : إلا وَعْداً ذا غرور ، أو على المبالغة أو على : وعداً غارَّاً ، ونسب الغرورَ إليه مجازاً . الثاني : أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه ، أي : ما يَعِدُهم ممَّا يَعِدُهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغُرور . الثالث : أنه مفعولٌ به على الاتِّساع ، أي : ما يَعِدُهم إلا الغرورَ نفسَه .