السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَيۡهِم بِخَيۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ إِلَّا غُرُورًا} (64)

الثاني : قوله تعالى : { واستفزز } أي : استخف { من استطعت منهم } أن تستفزه وهم الذين سلطناك عليهم { بصوتك } قال ابن عباس : معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله تعالى فهو من جند إبليس ، وقيل أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب . الثالث : قوله تعالى : { وأجلب } أي : صح { عليهم } من الجلبة وهي الصياح { بخيلك ورجلك } .

واختلفوا في الخيل والرجل على أقوال الأوّل : روى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال : كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى وعلى هذا فخيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية . الثاني : يحتمل أن يكون لإبليس جيش من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل . الثالث : أن المراد منه ضرب المثل كما يقال للرجل المجد في الأمر جدّ بالخيل والرجل . قال الرازي : وهذا أقرب . وقال الزمخشري : هو كلام ورد مورد التمثيل مثل في تسلطه على من يغويه بمغوار وقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقلهم عن مراكزهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم والخيل تقع على الفرسان قال صلى الله عليه وسلم «يا خيل الله اركبي » وقد تقع على الأفراس خاصة . وقرأ حفص عن عاصم بكسر الجيم وسكنها الباقون جمع راجل كصاحب وصحب وراكب وركب ورجل بالكسر والضم لغتان مثل حدث وحدث وهو مفرد أريد به الجمع . الرابع قوله تعالى : { وشاركهم في الأموال والأولاد } أمّا المشاركة في الأموال فقال مجاهد : هو كل ما أصيب من حرام أو أنفق في حرام . وقال قتادة : هو جعلهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال الضحاك : هو ما يذبحونه لآلهتهم . وقال عكرمة : هو تبتيكهم آذان الأنعام وقيل هو جعلهم من أموالهم شيئاً لغير الله ، كقولهم : { هذا لله } { وهذا لشركائنا } [ الأنعام ، 136 ] ولا منافاة بين جميع هذه الأقوال . وأمّا المشاركة في الأولاد فقال عطاء عن ابن عباس : هو تسمية الأولاد بعبد شمس وعبد العزى وعبد الحرث وعبد الدار ونحوها وقال الحسن : هو أنهم هوّدوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم وروي عن جعفر بن محمد أنّ الشيطان يعقد ذكره على ذكر الرجل فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها ، كما ينزل الرجل ويقال في جميع هذه الأقوال أيضاً ما تقدّم . وروي أنّ رجلاً قال لابن عباس : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال ذلك من وطء الجنّ .

وفي الآثار أنّ إبليس لمّا خرج إلى الأرض قال : يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذرّيته . قال : أنت مسلط . قال : لا أستطيعه إلا بك فزدني قال : { استفزز من استطعت منهم بصوتك } . قال : آدم : يا رب سلطت إبليس عليّ وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك . قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه . قال : زدني . قال : الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها . قال : زدني . قال : التوبة مفروضة ما دام الروح في الجسد . فقال : زدني . فقال : { يا عبادي الذين أسرفوا } [ الزمر ، 53 ] الآية .

وفي الخبر أنّ إبليس قال : يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتباً فما قرآني ؟ قال : الشعر . قال : فما كتابي ؟ قال : الوشم . قال : ومن رسولي ؟ قال : الكهنة . قال : فما طعامي ؟ قال : ما لم يذكر عليه اسمي . قال : فما شرابي ؟ قال : كل مسكر . قال : وأين مسكني ؟ قال : الحمامات . وقال : وأين مجلسي ؟ قال : الأسواق . قال : وما حبائلي ؟ قال : النساء . قال : وما أذاني ؟ قال : المزمار . الخامس قوله تعالى : { وعدهم } أي : من المواعيد الباطلة ما يستخفهم ويغرّهم من ذلك وعدهم بأن لا جنة ولا نار ومن ذلك شفاعة الآلهة والكرامة على الله تعالى بالأنساب الشريفة وتسويف التوبة وإيثار العاجل على الآجل ونحو ذلك . وقوله تعالى : { وما يعدهم الشيطان } من باب الالتفات وإقامة الظاهر مقام الضمير ولو جرى على سنن الكلام الأوّل لقال وما تعدهم بالتاء من فوق .

وقوله تعالى : { إلا غروراً } فيه أوجه أحدها : أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه مصدر والأصل إلا وعداً غروراً . الثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : ما يعدهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغرور . الثالث : أنه مفعول به على الاتساع ، أي : ما يعدهم إلا الغرور نفسه والغرور تزيين الباطل بما يظنّ أنه حق . فإن قيل : كيف ذكر الله تعالى هذه الأشياء لإبليس وهو يقول إنّ الله لا يأمر بالفحشاء ؟ أجيب : بأنّ هذا على طريق التهديد كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت ، 40 ] . وكقول القائل : اعمل ما شئت فسوف ترى ، وكما يقال اجهد جهدك فسوف ترى ما ينزل بك .