ثم ذكر منازل المنافقين فقال جل ذكره : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } قرأ أهل الكوفة { في الدرك } بسكون الراء والباقون بفتحها ، وهما لغتان كالظعن والظعن ، والنهر والنهر ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : { في الدرك الأسفل } في توابيت من حديد مقفلة في النار ، وقال أبو هريرة : بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ، ومن تحتهم .
ثم بين - سبحانه - المصير الشنيع الذى سيصير إليه المنافقون يوم القيامة فقال - تعالى - : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } أى : فى الطبعة السفلى من طبقاتها وسميت دركاتها لكونها متداركه أى : متتابعة بعضها تحت بعض . والدرك لغة فى الدرك وهو كالدرج ، إلا أن الدرج يقال باعتبار الصعود . والدرك يقال باعتبار النزول والحدور . ولذا قيل : درجات الجنة ودركات النار .
قال الآلوسى : والنار لها طبعات سبع : تسمى الأولى كما قيل : جهنم : والثانية : لظى .
والثالثة : الحطمة . والرابعة : السعير . والخامسة : سقر . والسادسة : الجحيم . والسابعة : الهاوية . وقد تسمى النار جميعاً باسم الطبقة الأولى ، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها . .
والمعنى : إن هؤلاء المنافقين الذين مردوا على النفاق . وسرى فى طباعهم مسرى الدم سيكونون يوم القيامة فى الطبقة السفلى من النار ، ولن تجد لهم نصيراً ينصرهم من عذاب الله أو يدفع عنهم عقابه .
وإنما كان للمنافقين هذا العذاب الشديد ، لأنهم أضافوا إلى كفرهم ، الاستهزاء بالإِسلام وأهله ، وجمعوا بسوء طابعهم بين الكفر . والفسق والتضليل ، والخداع ، وإشاعة الفاحشة فى صفوف المؤمنين ، وغير ذلك من رذائلهم المتعددة ، وقبائحهم المتنوعة .
قال بعض العلماء : ولكن من هو المنافق الذى يستحق أشد العقاب ، ويكون فى أعمق النيران يوم القيامة ؟ نقول فى الجواب عن ذلك : إنه المنافق الخالص الذى لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط ، ولكن هو الذى كفر بالله وبالرياسة المحمدية ، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإِسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم .
ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها ، وهو أشد الكفر . ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين ولا تخرج المسلم عن إسلامه ، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا . ومن ذلك ممالأة الحكام ، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا وخداعا .
قيل لابن عمر - رضى الله عنهما - : ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه ! ! فقال : كنا نعده من النفاق .
ولقد جاء فى الحديث الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان : فريق خصل للنفاق ، وهذا منكوس القلب والنفس والفكر .
وقسم فيه خصلة من النفاق ، وهذا يتنازعه الخير والشر . فقد قال - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الإِمام أحمد . " القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر . وقلب أغلف مربوط على غلافه . وقلب منكوس ، وقلب مصفح . فأما القلب الأجرد ، فقلب المؤمن سراجه فيه نوره . وأما القلب الأغلف : فقلب الكافر . وأما القلب المنكوس : فقلب المنافق الخالص عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفح : فقلب فيه إيمان ونفاق . ومثل الإِيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب . ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم . فأى المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه " .
وإننا لهذا نقول : إن النفاق فى داخل الإِسلام مراتب . وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام ، وينحذرون إلى درجة وضعهم فى مقام النبيين . ومنهم من يذهب به فرط نفاقه ، فيفضل بعض النصوص من غير حجة فى التأويل . ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام .
ثم بعد هذا الوعيد الشديد للمنافقين فتح - سبحانه - باب التوبة ليدخل فيه كل من يريد أن يقلع عن ذنوبه من المنافقين وغيرهم ، حتى ينجو من عقابه - سبحانه - فقال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ واعتصموا بالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فأولئك مَعَ المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً } .
وطرقة أخرى عالية على هذه القلوب . غير موجهة إليها مباشرة . ولكن عن طريق التلويح . . طرقة تقرر المصير الرعيب المفزع المهين للمنافقين :
( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار . ولن تجد لهم نصيرًا ) .
في الدرك الأسفل . . إنه مصير يتفق مع ثقلة الأرض التي تلصقهم بالتراب ، فلا ينطلقون ولا يرتفعون . ثقلة المطامع والرغائب ، والحرص والحذر ، والضعف والخور ! الثقلة التي تهبط بهم إلى موالاة الكافرين ومداراة المؤمنين . والوقوف في الحياة ذلك الموقف المهين : ( مذبذبين بين ذلك . لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) . .
فهم كانوا في الحياة الدنيا يزاولون تهيئة أنفسهم وإعدادها لذلك المصير المهين ( في الدرك الأسفل من النار ) . . بلا أعوان هنالك ولا أنصار . . وهم كانوا يوالون الكفار في الدنيا . فأنى ينصرهم الكفار ؟
ثم أخبر تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } أي : يوم القيامة ، جزاء على كفرهم الغليظ . قال الوالبي عن ابن عباس : { فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } أي : في أسفل النار . وقال غيره : النار دركات ، كما أن الجنة درجات . " وقال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن ذَكْوان أبي صالح ، عن أبي هريرة : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } قال : في توابيت ترتج عليهم . كذا رواه ابن جرير ، عن ابن وَكِيع ، عن يحيى بن يمان ، عن سفيان ، به . ورواه ابن أبي حاتم ، عن المنذر بن شاذان ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } قال : الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم ، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن خَيْثَمَة ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } قال : في توابيت من نار تطبق عليهم . ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشج ، عن وكيع ، عن سفيان ، عن سلمة ، عن خيثمة ، عن ابن مسعود : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } قال : في توابيت من حديد مبهمة عليهم ، ومعنى قوله : ( مبهمة ) أي : مغلقة مقفلة لا يهتدى لمكان فتحها .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن يزيد{[8517]} عن القاسم بن عبد الرحمن : أن ابن مسعود سئل عن المنافقين ، فقال : يجعلون في توابيت من نار ، فتطبق عليهم في أسفل درك من النار .
{ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } أي : ينقذهم مما هم فيه ، ويخرجهم من أليم العذاب .
ثم أخبر تعالى عن المنافقين أنهم { في الدرك الأسفل } من نار جهنم ، وهي أدراك بعضها فوق بعض{[4347]} سبعة طبقة على طبقة ، أعلاها هي جهنم وقد يسمى جميعها باسم الطبقة العليا ، فالمنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر هم في أسفل طبقة من النار ، لأنهم أسوأ غوائل من الكفار وأشد تمكناً من أذى المسلمين ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «في الدرَك » مفتوحة الراء ، وقرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب «في الدرْك » بسكون الراء ، واختلف عن عاصم فروي عنه الفتح والسكون ، وهما لغتان ، قال أبو علي : كالشمع والشمع ونحوه ، وروي عن أبي هريرة وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم قالوا : المنافقون في الدرك الأسفل من النار في توابيت من النار تقفل عليهم{[4348]} ، والنصير : بناء مبالغة من النصر .