تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِي ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِيرًا} (145)

وقوله تعالى : ) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } الدرك بالجزم والفتح لغتان ، وهما واحد . يقال : للجنة درجات وغرفات ، وللنار دركات ، بعضها أسفل من بعض . وقيل : كلما كانت{[6726]} أسفل كان العذاب فيها أشد .

ألا ترى أنه أخبر عنهم بقوله : { وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين } ( فصلت : 29 ) فلو لم يكن أسفل منهم في الدركات أشد عذابا لم يكن لقولهم{ نجعلهما تحت أقدامنا } معنى . فدل أن كل ما كان أسفل من الدركات كان في العذاب الأشد ، والله أعلم .

وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم " ذكر عبد المطلب وهشام بن المغيرة ؛ قال : هما من أدنى أهل النار عذابا ، وهما في ضحضاح من النار خالدين فيها . وأدنى أهل النار عذابا في رجليه نعلان يغلي منه دماغه " ( البخاري : 3883و3885 ) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه ( أنه ){[6727]} قال : الأدراك{[6728]} توابيت من حديد ، تصمت عليهم في أسفل النار . وقيل : إن اللعذاب في النار واحد في الظاهر ، وهو مختلف في الحقيقة ، وأيد ذلك قوله تعالى عز وجل : { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } ( العنكبوت : 13 ) لكن بعضهم لا يشعر بعذاب غيرهم كقوله تعالى : { قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف } ( الأعراف : 38 ) سألوا ربهم أن يجعل لهم ضعفا من العذاب جزاء ما أضلوا ، فأخبر أن لكل ضعفا من الآثام{[6729]} .

ثم تخصيص المنافقين { في الدرك الأسفل } من النار دون سائر الكفرة ( يحتمل وجوها ){[6730]} ثلاثة :

أحدها : أنهم كانوا يسعون في إفساد صفعة المسلمين ، ويشككونهم في دينهم ، ويتكلفون في إخراجهم من الإيمان . وكان ذلك دأبهم وعادتهم ، فاستوجبوا بذلك العذاب جزاء في إفسادهم ، والله أعلم .

والثاني{[6731]} : أن يكون ذلك لهم لأنهم كانوا عيونا للكفرة وطلائع لهم ، يخبرون بذلك عن أخبارهم وسرائرهم ، ويطلعون على عوراتهم . فذلك سعي في أمر دينهم ودنياهم بالفساد كقوله تعالى : { ألم نستحوذ عليكم } ( النساء : 141 ) .

والثالث {[6732]} : أنهم لم يكونوا في الأحوال كلها أهل دين ، يقيمون عليه في حالي{[6733]} الرخاء والضيق ، ولكن كانوا مع السعة والرخاء حيث كان ، ولا كذلك سائر الكفرة ، بل كانوا في حال الرخاء والشدة على دين واحد يعبدون في الأصنام . أولئك مع المؤمنين في حال إذا كانت السعة معهم ، ومع الكافرين في حال إذا كانت السعة معهم ، لا يقرون على شيء واحد مترددين بين ذلك كما قال الله عز وجل : { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } الآية ( النساء : 143 ) والكفرة عبدوا من عبدوا على رجاء التقريب إلى الله عز وجل لهم بذلك ليكونوا لهم شفعاء عند الله{[6734]} .

وأهل النفاق لم يكونوا يعبدون غير بطونهم ومن معه شهواتهم . فلذلك ازداد عذابهم على عذاب غيرهم ولما جمعوا إلى الكفر بالله المخادعة والتعزير وأغراء الأعداء واستعلاءهم{[6735]} ، ولما قد أشركوا الفرق كلهم في اللذات وفي طلب الشهوات ، فعاد إليهم ما استحق كل منهم من العقوبة ، وبما بذلك شاركوا في كل المعاصي أو سبيلها إعطاء الأنفس الشهوات مع ما منهم تعزيز ضعفة المؤمنين والتلبيس عليهم ، ولا قوة إلا بالله .


[6726]:في الأصل وم: كان.
[6727]:ساقطة من الأصل وم.
[6728]:في الأصل:الأداراك، في م: الدرك.
[6729]:في الأصل وم: الأئمة.
[6730]:في الأصل وم: وجوه.
[6731]:في الأصل وم: يحتمل.
[6732]:في الأصل وم: يحتمل وجها آخر.
[6733]:في الأصل وم: حال.
[6734]:إشارة إلى قوله تعالى: {ليقربونا إلى الله زلفى}(الزمر:3)وقوله {هؤلاء شفعاء عند الله}(يونس: 18).
[6735]:في الأصل وم: واستعلانهم.