قوله تعالى : { قل اللهم مالك الملك } . قال قتادة : ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال ابن عباس رضي الله عنهما وأنس بن مالك رضي الله عنه : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم ، قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات ، من أين لمحمد صلى الله عليه وسلم ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ؟ ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله هذه الآية ( قل اللهم ) قيل معناه يا ألله ، فلما حذف حرف النداء زيد الميم في آخره ، وقال قوم : للميم فيه معنى ، ومعناها اللهم آمنا بخير ، أي اقصدنا ، حذف منه حرف النداء كقولهم : هلم إلينا ، كان أصله : هل أم إلينا ، ثم كثرت في الكلام فحذفت الهمزة استخفافاً ، وربما خففوا أيضاً فقالوا : لا هم .
قوله ( مالك الملك ) ( يعنى : يا مالك الملك ، أي مالك العباد وما ملكوا ، وقيل : يا ملك السماوات والأرض ، وقال الله تعالى في بعض الكتب : " أنا الله ملك الملوك ، ومالك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة وإن عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسبب الملوك ، ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم ) .
قوله تعالى : { تؤتي الملك من تشاء } . قال مجاهد وسعيد بن جبير : يعني ملك النبوة ، وقال الكلبي ( تؤتي الملك من تشاء ) محمداً وأصحابه .
قوله تعالى : { وتنزع الملك ممن تشاء } . أبي جهل وصناديد قريش ، وقيل ( تؤتي الملك من تشاء ) العرب ( وتنزع الملك ممن تشاء ) فارس والروم ، وقال السدي : ( تؤتي الملك من تشاء ) آتى الله الأنبياء عليهم السلام وأمر العباد بطاعتهم ، ( وتنزع الملك ممن تشاء ) نزعه من الجبارين ، وأمر العباد بخلافتهم . وقيل : ( تؤتي الملك من تشاء ) آدم وولده ( وتنزع الملك ممن تشاء ) إبليس وجنوده .
وقوله تعالى : { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } . قال عطاء " تعز من تشاء " المهاجرين والأنصار . ( وتذل من تشاء ) فارس والروم ، وقيل :( تعز من تشاء ) محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها ، ( وتذل من تشاء ) أبا جهل وأصحابه حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب ، وقيل ( تعز من تشاء ) بالإيمان والهداية ، ( وتذل من تشاء ) بالكفر والضلالة ، وقيل : ( تعز من تشاء ) بالطاعة ( وتذل من تشاء ) بالمعصية ، وقيل : ( تعز من تشاء ) بالنصرة . ( وتذل من تشاء ) بالقهر ، وقيل ( تعز من تشاء ) بالغنى ( وتذل من تشاء ) بالفقر ، وقيل ( تعز من تشاء ) بالقناعة والرضى ( وتذل من تشاء ) بالحرص والطمع .
قوله تعالى : { بيدك الخير } أي بيدك الخير والشر ، فاكتفى بذكر أحدهما . قال تعالى ( سرابيل تقيكم الحر ) أي الحر والبرد ، فاكتفى بذكر أحدهما .
بعد أن تحدثت سورة آل عمران ، عن المعرضين عن الحق أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمر كل مؤمن أن يتوجه إليه بالضراعة . فقال تعالى : { قُلِ اللهم . . . } .
قال القرطبي : قال ابن عباس وأنس بن مالك : " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ووعد أمته ملك فارس والروم ، قال المنافقون واليهود : هيهات هيهات ! من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم . فأنزل الله هذه الآية .
والأمر بقوله { قُلِ } للنبى صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى له الخطاب من المؤمنين .
وكلمة { اللهم } يرى الخليل وسيبويه أن أصلها يا الله فلما استعملت دون حرف النداء الذى هو " يا " جعلوا هذه الميم المشددة التى فى آخرها عوضا عن حرف النداء ، وهذا التعويض من خصائص الاسم الجليل ، كما اختص بجواز الجمع فيه بين " يا " و " أل " وبقطع همزته ، ودخول تاء القسم عليه .
والمعنى . قل أيها المخاطب على سبيل التعظيم لربك ، والشكر له ، والتوكل عليه والضراعة إليه ، قل : يا الله يا مالك الملك أنت وحدك صاحب السلطان المطلق في هذا الوجود ، بحيث تتصرف فيه كيف تشاء ، إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبا وإثابة ، من غير أن ينازعك في ذلك أي منازع .
فكأن في هذه الجملة الكريمة { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } دعاءين خاشعين :
أما الدعاء الأول فهو بلفظ الجلالة المعبر عنه بقوله { اللهم } أى يا الله ، وفى هذا النداء كل معانى العبودية والتنزيه والتقديس والخضوع .
وأما الدعاء الثاني فهو المعبر عنه بقوله { مَالِكَ الملك } أى يا مالك الملك ، وفى هذا النداء كل معانى الإحساس بالربوبية ، والضعف أمام قدرة الله وسلطانه .
فقوله { مَالِكَ } منصوب بحرف النداء المحذوف . كما في قوله { قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض } أى يا فاطر السموات والأرض .
ثم فصل - سبحانه - بعض مظاهر خلقه التي تدل على أنه هو مالك الملك على الحقيقة فقال - تعالى - { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } .
أى أنت وحدك الذي تعطى الملك من تشاء إعطاءه من عبادك ، وتنزعه ممن تشاء ، نزعه منهم ، فأنت المتصرف في شئون خلقك لا راد لقضائك ولا معقب لحكمك .
وعبر بالإيتاء الذى هو مجرد لإعطاء دون التمليك المؤذن بثبوت المالكية ، للتنبيه على أن المالكية على الحقيقة إنما هي مختصة بالله رب العالمين ، أما ما يعطيه لغيره من ملك فهو عارية مستردة ، وهو شىء زائل لا يدوم .
والتعبير عن إزالة الملك بقوله { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } يشعر بأنه - سبحانه - فى قدرته أن يسلب هذا العطاء من أى مخلوق مهما بلغت سعة ملكه ، ومهما اشتدت ، قوته ، وذلك لأن لفظ النزع يدل على أن المنزع منه الشىء كان متمسكا به ، فسلبه الله منه بمقتضى قدرته وحكمته .
والمراد بالملك هنا السلطان ، وقيل النبوة ، وقيل غير ذلك .
قال الفخر الرازي : وقوله { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة ، وملك العقل ، والصحة ، والأخلاق الحسنة . وملك النفاذ والقدرة ، وملك المحبة ، وملك الأموال ، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز " .
ومفعول المشيئة في الجملتين محذوف أى : تؤتى الملك من تشاء إيتاءه وتنزعه ممن تشاء نزعه منه .
أما الأمر الثاني الذي يدل على أنه - سبحانه - هو مالك الملك على الحقيقة فهو قوله { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } .
العزة - كما يقول الراغب - حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ، من قولهم : أرض عزاز : أى صلبة ، وتعزز اللحم : اشتد وعز ، كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه . . . . والعزيز الذى يقهر ولا يغلب .
وتذل ، من الذل ، وهو ما كان عن قهر ، يقال : ذل يذل ذلا إذا قهر وغلب والعزة صفة نفسية يحس بها المؤمن الصادق في إيمانه ، لأنه يشعر دائما بأنه عبد الله وحده وليس عبدا لأحد سواه ، قال - تعالى - { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فالمؤمنون الصادقون أعزاء ولو كانوا في المال والجاه فقراء . أما الكافرون أذلاء ، لأنهم خضعوا لغير الله الواحد القهار .
والمعنى : أنت يا الله يا ملك الملك ، أنت وحدك الذى تؤتى الملك لمن تشاء أن تؤتيه له ، وتنزعه ممن تريد نزعه منه ، وأنت وحدك الذي تعز من تشاء إعزازه بالنصر والتوفيق ، وتذل من تشاء إذلاله بالهزيمة والخذلان ، ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التسليم المطلق من المؤمنين لذته فقال - تعالى - : { بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
أى أنت وحدك الذى تملك الخير كله ، وتتصرف فيه حسب إرادتك ومشيئتك ، لأنك على كل شىء قدير .
وأل في الخير للاستغراق الشامل ، إذ كل خير فهو بيده - سبحانه - وقدرته ، وتقديم الجار والمجرور { بِيَدِكَ } لإفادة الاختصاص ، أى بيدك وحدك على الحقيقة لا بيد غيرك ، وجملة " إنك على كل شيء قدير " تعليلية .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : " كيف قال { بِيَدِكَ الخير } فذكر الخير دون الشر ؟ قلت : لأن الكلام إنما وقع في الخير الذى يسوقه إلى المؤمنين وهو الذى أنكرته الكفرة فقال بيدك الخير ، تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، ولأن أفعال الله - تعالى - من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه " .
بعدئذ يلقن رسول الله [ ص ] وكل مؤمن ، أن يتجه إلى الله ، مقررا حقيقة الألوهية الواحدة ، وحقيقة القوامة الواحدة ، في حياة البشر ، وفي تدبير الكون . فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه :
( قل : اللهم مالك الملك : تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء . بيدك الخير . إنك على كل شيء قدير . تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل . وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي . وترزق من تشاء بغير حساب )
نداء خاشع . . في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء . وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال . وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس . وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة : حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس ؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفا من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله ؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس ؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف !
( قل : اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء ) . .
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة . . إله واحد فهو المالك الواحد . . هو ( مالك الملك ) بلا شريك . . ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه . يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء . فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه . إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته ؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفا مخالفا لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلا . وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا . أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل . .
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله . . وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله .
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير . فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل . يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل . ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل . فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات ؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : ( بيدك الخير ) . . ( إنك على كل شيء قدير ) . .
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، معظما لربك ومتوكلا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا إليه : { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي : أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن .
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان ، والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ما تعاقب الليل والنهار . ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]{[4924]} } أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم{[4925]} عليه في أمره ، حيث قال : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
قال الله تعالى ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ] {[4926]} } الآية [ الزخرف : 32 ] أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
[ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ]{[4927]} } [ الإسراء : 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " إسحاق بن أحمد " من تاريخه عن المأمون الخليفة : أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ، فإذا هو : باسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك . ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك{[4928]} .
{ قل اللهم } الميم عوض عن يا ولذلك لا يجتمعان ، وهو من خصائص هذا الاسم كدخول يا عليه مع لام التعريف وقطع همزته وتاء القسم . وقيل أصله يا الله أمنا بخير ، فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته . { مالك الملك } يتصرف فيما يمكن التصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية . { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } تعطي منه ما تشاء من تشاء وتسترد ، فالملك الأول عام والآخران بعضان منه . وقيل : المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما بالنصر والإدبار والتوفيق والخذلان . { بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات ، والشر مقضي بالعرض ، إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرا كليا ، أو لمراعاة الأدب في الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه إذ روي ( أنه عليه السلام لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ، فجاء عليه الصلاة والسلام فأخذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها . وبرق منها برق أضاء منه ما بين لابتيها لكأن بها مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر وكبر معه المسلمون وقال " أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء " وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا " . فقال المنافقون : ( ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق ) فنزلت . فنبه على أن الشر أيضا بيده بقول { إنك على كل شيء قدير } .
قال بعض العلماء : إن هذه الآية دافعة لباطل نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى عليه السلام ليس في شيء منها ، وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي عليه السلام سأل ربه أن يجعل في أمته ملك فارس والروم فنزلت الآية في ذلك{[3061]} . وقال مجاهد : { الملك } في هذه الآية النبوة ، والصحيح أنه { مالك الملك } كله مطلقاً في جميع أنواعه ، وأشرف ملك يؤتيه سعادة الآخرة وروي أن الآية نزلت بسبب أن النبى عليه السلام بشّر أمته بفتح ملك فارس وغيره{[3062]} فقالت اليهود والمنافقون : هيهات وكذبوا ذلك ، واختلف النحويون في تركيب لفظة { اللهم } بعد إجماعهم على أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة وأنها منادى ، ودليل ذلك أنها لا تأتي مستعملة في معنى خبر ، فمذهب الخليل وسيبويه والبصريين ، أن الأصل «يالله » فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو- يا- جعلوا بدل حرف النداء هذه الميم المشددة ، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد ، وذهب حرفان فعوض بحرفين ، ومذهب الفراء والكوفيين ، أن أصل { اللهم } يا لله أم : أي أم بخير وأن ضمة الهاء ضمة الهمزة التي كانت في أم نقلت ، ورد الزجاج على هذا القول وقال : محال أن يترك الضم الذي هو دليل على نداء المفرد وأن تجعل في اسم الله ضمة أم ، هذا إلحاد في اسم الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غلو من الزجاج ، وقال أيضاً : إن هذا الهمز الذي يطرح في الكلام فشأنه أن يؤتى به أحياناً قالوا : «ويلمه » في ويل أمه والأكثر إثبات الهمزة ، وما سمع قط «يالله أم » في هذا اللفظ ، وقال أيضاً : ولا تقول العرب «ياللهم » ، وقال الكوفيون : إنه قد يدخل حرف النداء على { اللهم } وأنشدوا على ذلك : [ الرجز ]
وما عليك أن تقولي كلما . . . سبحت أو هللت ياللهم ما
اردُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّما{[3063]} . . .
قالوا : فلو كانت الميم عوضاً من حرف النداء لما اجتمعا ، قال الزجاج ، وهذا شاذ لا يعرف قائله ولا يترك له ما في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب ، قال الكوفيون : وإنما تزاد الميم مخففة في «فم وابنم » ونحوه فأما ميم مشددة فلا تزاد ، قال البصريون : لما ذهب حرفان عوض بحرفين{[3064]} ، ومالك نصب على النداء ، نص سيبويه ذلك في قوله تعالى : { قل اللهم فاطر السماوات والأرض } [ الزمر : 46 ] {[3065]}وقال : إن { اللهم } لا يوصف لأنه قد ضمت إليه الميم ، قال الزجاج : ومالك عندي صفة لاسم الله تعالى وكذلك { فاطر السموات } قال أبو علي : وهو مذهب أبي العباس ، وما قال سيبويه أصوب وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد { اللهم } لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت والأصوات لا توصف نحو ، غاق وما أشبهه ، وكأن حكم الاسم المفرد أن لا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه أن لا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت نحو ، «حيهل » فلم يوصف ، قال النضر بن شميل{[3066]} : من قال { اللهم } فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها ، وقال الحسن : { اللهم } مجمع الدعاء .
وخص الله تعالى : { الخير } بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأن المعنى { بيدك الخير } فأجزل حظي منه ، وقيل المراد { بيدك الخير } والشر فحذف لدلالة أحدهما على الآخر ، كما قال { تقيكم الحر }{[3067]} قال النقاش : { بيدك الخير } أي النصر والغنيمة فحذف لدلالة أحدهما .