{ قُلِ اللهم مالك الملك } تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته ؛ وفيه أيضاً إفحام لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه لاسيما المنافقين الذين هم أسوأ حالاً من اليهود والنصارى ، وبشارة له صلى الله عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله ، وبهذا تنتظم هذه الآية الكريمة بما قبلها . روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعد أمته ، ملك فارس ، والروم ، قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ، ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية . وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال : حدثني أبي عن أبيه قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعاً قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسلمان الفارسي وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني ، وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا : يا سلمان إرق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال : فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال : يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم وكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي فقال : سلمان بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئاًا رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم فقال : رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا نعم يا رسول الله قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون : ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن :
{ وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 12 ] وأنزل هذه الآية { قُلِ اللهم } الخ ، وأصل ( اللهم ) يا ألله فحذفت ( يا ) وعوض عنها الميم وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة ، وشددت لكونها عوضاً عن حرفين وجمعها مع يا كما في قوله :
إني إذا ما حدث ألمّا *** أقول يا اللهم يا اللهما
شاذ ، وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه واللام في القسم التعجبي نحو لله لا يؤخر الأجل ودخول أيمن ويمين عليه في القسم أيضاً ، وميم في م الله ووقوع همزة الاستفهام خلفاً عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه في نحو لاها الله ذا وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب ، وزعم الكوفيون أن أصله يا الله آمنا بخير أي أقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته ، ويجوز الجمع عندهم بين يا والميم بلا بأس ولا يخفى ما فيه ويقتضي أن لا يلي هذه الكلمة أمر دعائي آخر إلا بتكلف الإبدال من ذلك الفعل أو العطف عليه بإسقاط حرف العطف وأل في الملك للجنس أو الاستغراق ، و ( الملك ) بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق نسبة بين من قام به ومن تعلق ، وإن شئت قلت : صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقاً في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار فمالك الملك هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجاداً وإعداماً إحياءاً وإماتة وتعذيباً وإثابة من غير مشارك ولا ممانع ، ولهذا لا يقال : ملك الملك إلا على ضرب من التجوز ، وحمل ( الملك ) على هذا المعنى أوفق بمقام المدح ، وقيل : المراد منه النبوة وإليه ذهب مجاهد وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة ، وانتصاب { مالك } على الوصفية عند المبرد والزجاج ، وسيبويه يوجب كونه نداءاً ثانياً ، ولا يجوز أن يكون صفة لأللهم لأنه لاتصال الميم به أشبه أسماء الأصوات وهي لا توصف ، ونقض دليل سيبويه بسيبويه فإنه مع كونه فيه اسم صوت يوصف ، وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة بخلاف ما نحن فيه ، ومن هنا قال أبو علي : قول سيبويه عندي أصح لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللهم ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف والعلامة التفتازاني/ على هذا وأيد أيضاً بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكان مكان الخلف بعده .
{ تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء } جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه التصرف الذي يستدعيه مالكية الملك وجوز جعلها حالا من المنادى وفي انتصاب الحال عنه خلاف ، وصحح الجواز لأنه مفعول به ، والحال تأتي منه كما تأتي من الفاعل ، وجعل الجملة خبراً لمبتدأ محذوف أي أنت تؤتى وإن اختاره أبو البقاء ليس فيه كثير نفع { وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء } عطف على { تُؤْتِى } وحكمه حكمه ، ومفعول { تَشَاء } في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه وممن تشاء نزعه منه ، و ( الملك ) الثالث هو الثاني واللام فيهما للجنس أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية ، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتى لا يمكن أن يكون الجميع والمنزوع هو ذاك لأنه معرفة معادة ، ويراد بها إن لم يمنع مانع عين الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لأن الثاني مسبوق بالأول . ومن الناس من حمل ( الملك ) هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتى النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب ، وقيل : المعنى تعطي أسباب الدنيا محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون ، وروي ذلك عن الكلبي ، وقيل : تنزعه من صناديد قريش .
{ وَتُعِزُّ مَن تَشَاء } أن تعزه في الدنيا والآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير ، وقيل : المراد تعز محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين وتذل أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل والإلقاء في القليب ، وقال عطاء : تعز المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم ، وقيل : تعز المؤمنين بالظفر والغنيمة وتذل اليهود بالقتل والجزية ، وقيل : تعز بالإخلاص وتذل بالرياء ، وقيل : تعز الأحباب بالجنة والرؤية وتذل الأعداء بالنار والحجاب ؛ وقيل : تعز بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع وقيل : وقيل . وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، و { *تعز } مضارع أعز ضد أذل ، والمجرد من الهمزة منه عز ومضارعه يعز بكسر العين ، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية ، وله استعمالان آخران الضم والفتح ، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي بقوله :
يا قارئاً كتب الآداب كن يقظا *** وحرر الفرق في الأفعال تحريراً
( عز ) المضاعف يأتي في مضارعه *** تثليث عين بفرق جاء مشهورا
فما كقل وضد ( الذل ) مع عظم *** كذا كرمت علينا جاء مكسوراً
وما كعز علينا الحال أي صعبت *** فافتح مضارعه إن كنت نحريرا
وهذه الخمسة الأفعال لازمة *** واضمم مضارع فعل ليس مقصوراً
( عززت ) زيداً بمعنى قد غلبت كذا *** أعنته فكلا ذا جاء مأثوراً
وقيل : إذا كنت في ذكر القنوت ولا *** ( يعز ) يا رب من عاديت مكسورا
واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا *** لك الصواب وأبدوا فيه تذكيراً
{ تَشَاء بِيَدِكَ الخير } جملة مستأنفة ، وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها ، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر/ للتخصيص أي : بيدك التي لا يكتنه كنهها ، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك ، وإنما خص الخير بالذكر تعليماً لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه ، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق وتحقيقه { إِنَّكَ على كُلّ شيء قَدِيرٌ } فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء ، وقيل : إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات ، وقيل : لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام . الأول : ما لا شر فيه أصلاً . والثاني : ما يغلب خيره على شره . والثالث : ما يكون شراً محضاً . والرابع : ما يكون شره غالباً على خيره . والخامس : ما يتساوى الخير والشر فيه ، والموجود من هذه الأقسام في العالم القسم الأول والثاني والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعاً ؛ والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق ، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة بحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيراً لا شراً وصحة لا مرضاً وكل قضاء الله تعالى بما نراه شراً من هذا القبيل ، ولهذا ورد في الحديث
" لا تتهم الله تعالى على نفسك " وورد " لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين " وجاء " لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب " ومن هنا قيل : يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا : جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح وذبّ المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه : { بِيَدِكَ الخير } فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلاً ولما وقع استلزاماً ، وهذا من باب ليس في الإمكان أبدع مما كان وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه ، وفي «شرح الهياكل » أن الشر مقضى بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شراً كثيراً فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح ، ولا ينافيه { لاَّ يُسْئَلُ * عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] إذ لا يفعل ما يسئل عنه كرماً وحكمة وجوداً ومنة «ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع2 .
( ومن باب الإشارة ) :{ قُلِ اللهم مالك الملك } أي الملك المتصرف في مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسبما تقتضيه الحكمة { تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء } وهو من اخترته للرياسة الباطنة وجعلته متصرفاً بإرادتك وقدرتك { وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء } بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته في عالم الأجسام وتكميل النشأة ، أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه المانع له من أن ينال عهدك أو يمنح رفدك { مَن تَشَاء } بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعاً { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلاً { بِيَدِكَ الخير } [ آل عمران : 26 ] كله وأنت القادر مطلقاً تعطي على حسب مشيئتك وتتجلى طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك