تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (26)

الآية 26 وقوله تعالى : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } الآية ، يحتمل قوله : { مالك الملك } وجهين :

[ أحدهما ]{[3706]} : { يملك الملك } كل ملك في الدنيا حقيقة الملك .

والثاني : أن الملك له يؤتي من يشاء من ملكه ، وينزع من يشاء الملك ، وهو المالك لذلك ، والقادر عليه .

والآية ترد على القدرية قولهم لأنهم يقولون : إن الله لا يعطي الكافر الملك ، وهو أخبر جل وعلا أنه يؤتي من يشاء الملك ، وقد روي : ( الكافر له الملك ) . فإن قالوا أراد بالملك الدين ، قيل : إن أراد الدين فقد أخبر جل وعلا أيضا أنه ينزع ، فكيف يستقيم على قولكم في الأصلح هذا ؟

ثم في الآية تقوية لمن قرأ { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] بالألف [ بوجهين :

أحدهما : لأنه أعم وأجمع ، ولأنه ]{[3707]} : قال : { مالك الملك } ، وهو أعم .

والثاني : الملك إنما يعبر عن الولاية والسلطان ، والمالك إنما يعبر عن حقيقة الملك ، ومن له في الشيء حقيقة الملك فله ولاية التغلب والتصرف فيه وولاية{[3708]} السلطان ولا كل من له ولاية السلطان يكون له ولاية التغلب فيه ، لذلك كان بالألف أقرب .

ومن قرأ : ملك { يوم الدين } بغير ألف{[3709]} ذهب إلى هذا كقوله : { الملك يومئذ لله يحكم بينهم } [ الحج : 56 ] ، ومن الملك يقال : ملك ، ويقال : مالك ، لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم . والمالك على الإطلاق لا يقال إلا على الله ، وكذلك الرب على الإطلاق لا يقال إلا على الله . أما العبد فإنه يقرب الشيءُ إليه ، فيقال : رب الدار ومالكها ، ورب الدابة ومالكها ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { قل اللهم مالك الملك } قال القائلون : /57- أ/ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، وقال آخرون : الخطاب بذلك لكل عاقل ، وهو كقوله : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] إلى آخر السورة{[3710]} ، ذلك الخطاب لكل واحد لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة .

قال الشيخ رضي الله عنه : هو خطاب ولكنه أمر بالبلاغ ليقوله كل أحد لأنه لو خوطب به ، لم يذكر { قل } عند قراءته .

وقوله تعالى : { اللهم } قال قائلون : { اللهم } يعني [ يا الله ]{[3711]} وقال آخرون : الله على القطع ، أمنا : اقصدنا بالخير ، والله أعلم .

قال الشيخ ، رحمه الله ، في قوله : { قل اللهم مالك الملك } الآية فكأن الله جل وعلا امتحن من رغب في الملك ، أو نال حظا منه ، أن يصرفوا وجه الرغبة إليه ، أو يروا حقيقة ما نالوه منه ، فيوجهوا إليه الشكر ، ويخضعوا له بالعبادة والطاعة في أمرهم به لينالوا شرفه ، ويدوم له عزه ذلك كقوله : { من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } [ النساء : 134 ] ليريهم أن الذي يملك هذا النوع الذي رغبت فيه أنفسكم ، ومنعتكم عن القيام بحقه ، هو الذي يملك ذلك ، فإليه فاصرفوا سعيكم ولشكره استديموا الذي له اخترتم جل كدحكم ، فإنه يملك ذلك دون غيره .

وجملة ذلك في قوله : { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] ومعقول ، في ما عليه طبع البشر ، وإليه دعتهم عقولهم ، أن كل شيء تؤثره أنفسهم كان الذي يحق عليهم طلبه عند من به يوصل إليه واختبارهم ما به يبلغون ما يؤملون من أنواع الحيل التي تقربهم إلى ذلك . فمثله يلزم أمر الملك ولذات الدنيا ، ويقرر في قلوبهم وجود ذلك لقوم ، لو كان ينال بالتدبير أو بحسن السياسة ، وطلب ذلك من الوجوه التي يطالب بها البشر ، لم يكن الذين لهم ذلك بأحق من غيرهم ، بل كان [ فيهم من حرموا منه ]{[3712]} أولى بذلك ، وأحق أن يكون في ذلك متبوعا لا تابعا من الذين نالوه ليعلم أن الذي يملك دفع ذلك إلى أحد أو تمليكه أحدا غير الذي صرفوا كدحهم [ إليه ]{[3713]} ، وجعلوا له سعيهم فيكون الله في كل أمر مما عليه أمر البشر آية عظيمة وعلامة لطيفة على تقرره بملك ذلك وتوحيده بالتدبير فيه لمن له بصيرة ولمن به يمتحن عباده .

وعلى ذلك إذ ثبتت أدلة التوحيد ولزوم الاعتبار له ليعرف من له الحق ثبت القول ببطلان ما ينكره كثير من المعتزلة أن الملك الذي ناله الجبابرة ، والسعة التي تصل إلى الكفرة لم يكن نالوه بتقدير الله ، ولا وصلوا إليه بتدبيره{[3714]} ، إذ حقه ما ذكرت من عظم ما فيه من النعم ليلزمهم أرفع المحن وأعلى الشكر ، وله أن يبلوا بالحسنات والسيئات {[3715]} كما وعد جل وعلا وجملته أن الدنيا إذ هي دار محنة ومكان ابتلاء فليس الذي يعطي منه على الاستحقاق ولا ما يمنع على العقوبة ، وإن احتمل الدفع والمنع لذلك ، ولكن له وللمحن والمحنة أكثر ما على مخالفة الأهواء وتحمل المكاره ، ويكون ذلك على إعطاء ما يعظم في أنفسهم أو التمكين ليمتحنوا ، فيتبين الإيثار والترك لوجه الله والرغبة في من إليه حقيقة ملك كل شيء ، أو الميل إلى من إليه أنواع التقدير والمخادعات من غير تحقيق ، ولا قوة إلا بالله .

وعلى ذلك قوله : { أن آتاه الله الملك } [ البقرة / 258 ] يبين ذلك احتجاجه على إبراهيم عليه السلام بالذي ذكر وإغضاء إبراهيم عنه ، ولو كان الذي آتاه الملك إبراهيم عليه السلام لم [ يكن ليجترئ ]{[3716]} على تلك المقالة بقوله : { أنا أحيي وأميت } ولا قوة إلا بالله .

ثم على قول المعتزلة : إن الله تعالى إنما يشاء أن يؤتي الملك أولياءه ، وينزع عن أعدائه في الجملة ، فكيف ادعى لنفسه هذا السلطان والملك ، وكان الوجود على ضد ذلك ؟ أيظن المعتزلة أن الملاحدة تطعن ما هو يوجب الشبهة في حجج التوحيد بأوضح مما أعطاهم المعتزلة بهذا القول ، ويمكنهم من الطعن في نقض ما ادعت الموحدة{[3717]} من علو الرب وقدرته وجلاله بأبلغ{[3718]} مما لقنهم المعتزلة بما لبست ثوب التوحيد ، واستترت بستره في الظاهر ، ثم أعطت الملحدة هذا ليظنوا أنهم بلغوا ما به نقض التوحيد ، ودفع{[3719]} حجج أهله ؟ جل الله عما وصفته الملحدة ، وتعالى ، وبه العصمة والنجاة . وما{[3720]} أعطتهم المعتزلة في الجملة سبقهم{[3721]} به إبليس حتى كانوا به وبمثله{[3722]} يحتجون ، فيظنون أنهم أحق بالنبوة منهم{[3723]} وبما أعطوا من الملك والثروة في الدنيا ، ظنوا{[3724]} أنهم أجل عند الله تعالى ، وأرفع في [ المنزلة منهم ، فلم ]{[3725]} يكن ليؤثرهم بالرسالة عنهم . لكن أولئك [ الموحدين ]{[3726]} حققوا حقائق النعم لله ونيل ما نالوا من الملك والشرف به ، والمعتزلة رامت{[3727]} إزالة ذلك عن الله ليزيلوا عنهم ما لزمهم من الشكر له والطاعة لمن بعثه الله ، نسأل الله تمام نعيمه في الدين والدنيا .


[3706]:ساقطة من الأصل وم.
[3707]:في الأصل وم: أعم وأجمع لأنه.
[3708]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[3709]:انظر معجم القراءات القرآنية 1/7.
[3710]:في الأصل وم: الآية.
[3711]:ساقطة من الأصل وم.
[3712]:في الأصل: فيهم حرموا منهم، في م: حرموا منهم.
[3713]:ساقطة من الأصل وم.
[3714]:في الأصل وم: تدبيره.
[3715]:إشارة إلى قوله تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} [الأعراف: 168].
[3716]:في الأصل وم: ليجري،.
[3717]:في م: الملاحدة.
[3718]:من م، في الأصل: بالمتع.
[3719]:في الأصل وم: ووقع.
[3720]:في الأصل وم: لما.
[3721]:في الأصل: يسعفهم، في م: سبقتهم.
[3722]:الواو ساقطة من الأصل وم.
[3723]:في الأصل وم: ليجري،.
[3724]:في الأصل وم: فظنوا.
[3725]:في الأصل: المعتزلة منهم لم، في م: المعتزلة منهم من لم.
[3726]:ساقطة من الأصل وم.
[3727]:في م: رأت.