قوله تعالى : { وبينهما حجاب } ، يعني : بين الجنة والنار ، وقيل : بين أهل الجنة وبين أهل النار حجاب ، وهو السور الذي ذكر الله تعالى في قوله : { فضرب بينهم بسور له باب } [ الحديد : 13 ] .
قوله تعالى : { وعلى الأعراف رجال } ، والأعراف هي ذلك السور الذي بين الجنة والنار ، وهي جمع عرف ، وهو اسم للمكان المرتفع ، ومنه عرف الديك لارتفاعه عما سواه من جسده . وقال السدي : سمي ذلك السور أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس . واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم على الأعراف : فقال حذيفة وابن عباس : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ، ثم يدخلون الجنة بفضل رحمته ، وهم آخر من يدخل الجنة .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، ثنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، ثنا محمد بن يعقوب الكسائي ، ثنا عبد الله بن محمود ، ثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، ثنا عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر الهذلي قال : قال سعيد بن جبير ، يحدث عن ابن مسعود قال : " يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ثم قرأ قول الله تعالى : { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } [ الأعراف : 8-9 ] . ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح . قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف ، فوقفوا على الصراط ، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم ، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا { ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } ، فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورًا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة ، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا { ربنا أتمم لنا نورنا } . فأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينزع من بين أيديهم ، ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا ، فبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينزع النور من بين أيديهم ، فهنالك يقول الله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } ، وكان الطمع النور الذي بين أيديهم ، ثم أدخلوا الجنة ، وكانوا آخر أهل الجنة دخولاً . وقال شرحبيل بن سعد : أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم . ورواه مقاتل في تفسيره مرفوعًا قال : هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم ، فقتلوا ، فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله ، وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم ، فهم آخر من يدخل الجنة . وروي عن مجاهد : أنهم أقوام رضي عنهم أحد الأبوين دون الآخر يحبسون على الأعراف إلى أن يقضي الله بين الخلق ، ثم يدخلون الجنة . وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني : هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم ، وقيل : هم أطفال المشركين ، وقال الحسن : هم أهل الفضل من المؤمنين ، علوا على الأعراف فيطلعون على أهل الجنة وأهل النار جميعًا ، ويطالعون أحوال الفريقين .
قوله تعالى : { يعرفون كلا بسيماهم } ، أي يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم وأهل النار بسواد وجوههم .
قوله تعالى : { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } ، أي : إذا رأوا أهل الجنة قالوا سلام عليكم .
قوله تعالى : { لم يدخلوها } ، يعني : أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة .
قوله تعالى : { وهم يطمعون } ، في دخولها ، قال أبو العالية : ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة يريد بهم ، قال الحسن : الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون .
ثم ينتقل القرآن إلى الحديث عن مشهد آخر من مشاهد يوم القيامة ، يحدثنا فيه عن أصحاب الأعراف وما يدور بينهم وبين أهل الجنة وأهل النار من حوار فيقول :
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } أى : بين أهل الجنة وأهل النار حجاب يفصل بينهما ، ويمنع وصول أحد الفريقين إلى الآخر .
ويرى بعض العلماء أن هذا الحجاب هو السور الذي ذكره الله في قوله - تعالى - في سورة الحديد : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب } ثم قال - تعالى - : { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } .
الأعراف : جمع عرف ، وهو المكان المرتفع من الأرض وغيرها . ومنه عرف الديك وعرف الفرس وهو الشعر الذي يكون في أعلى الرقبة .
والمعنى : وبين الجنة والنار حاجز يفصل بينهما وعلى أعراف هذا الحاجز - أى في أعلاه - رجال يرون أهل الجنة وأهل النار فيعرفون كلا منهم بسيماهم وعلاماتهم التي وصفهم الله بها في كتابه كبياض الوجوه بالنسبة لأهل الجنة ، وسوادها بالنسبة لأهل النار ، ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة عند رؤيتهم لهم بقولهم : سلام عليكم وتحية لكم { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } .
هذا ، وللعلماء أقوال في أصحاب الأعراف أوصلها بعض المفسرين إلى اثنى عشر قولا من أشهرها قولان :
أولهما : أن أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، وقد روى هذا القول عن حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف .
وقد استشهد أصحاب هذا القول بما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناتهم وسيئاتهم فقال : " أولئك أصحاب الأعراف ، لم يدخلوها وهم يطمعون " " .
وعن الشعبى عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال : " هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلفت بهم حسناتهم عن النار . قال : فوقفوا هناك على السور حتى يقضى الله فيهم " .
وهناك آثار أخرى تقوى هذا الرأى ذكرها الإمام ابن كثير في تفسيره .
أما الرأى الثانى : فيرى أصحابه أن أصحاب الأعراف قوم من أشرف الخلق وعدولهم كالأنبياء والصديقين والشهداء . وينسب هذا القول إلى مجاهد وإلى أبى مجلز فقد قال مجاهد : " أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء " وقال أبو مجلز : أصحاب الأعراف هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار .
ومعنى كونهم رجالا - في قول أبى مجلز أى : في صورتهم .
وقد رجح بعض العلماء الرأى الثانى فقال : " وليس أصحاب الأعراف ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم كما جاء في بعض الروايات ، لأن ما نسب إليهم من أقوال لا يتفق مع انحطاط منزلتهم عن أهل الجنة ، انظر قولهم للمستكبرين :
{ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } فإن هذا الكلام لا يصدر إلا من أرباب المعرفة الذين اطمأنوا إلى مكانتهم . ولذا أرجح أن رجال الأعراف هم عدول الأمم والشهداء على الناس ، وفى مقدمتهم الأنبياء والرسل " .
والذى نراه : أن هناك حجاباً بين الجنة والنار ، الله أعلم بحقيقته ، وأن هذا الحجاب لا يمنع وصول الأصوات عن طريق المناداة ، وأن هذا الحجاب من فوقه رجال يرون أهل الجنة وأهل النار فينادون كل فريق بما يناسبه ، يحيون أهل الجنة ويقرعون أهل النار ، وأن هؤلاء الرجال - يغلب على ظننا - أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم . لأن هذا القول هو قول جمهور العلماء من السلف والخلف ، ولأن آثار تؤيده ، ولذا قال ابن كثير : " واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم ؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد ، وهو أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، نص عليه حذيفة وابن عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله " .
وقوله : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه في أصحاب الأعراف ، أى أن أصحاب الأعراف عندما رأوا أهل الجنة سلموا عليهم حال كونهم - أى أصحاب الأعراف - لم يدخلوها معهم وهم طامعون في دخولها مترقبون له .
وثانيهما : أنه في أصحاب الجنة : أى : أنهم لم يدخلوها بعد ، وهم طامعون في دخولها لما ظهر لهم من يسر الحساب . وكريم اللقاء .
ثم يتوجه النظر إلى المشهد من ظاهره . فإذا هنالك حاجز يفصل بين الجنة والنار ؛ عليه رجال يعرفون اصحاب الجنة وأصحاب النار بسيماهم وعلاماتهم . . فلننظر من هؤلاء ، وما شأنهم مع أصحاب الجنة وأصحاب النار ؟
( وبينهما حجاب ، وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم . ونادوا أصحاب الجنة : أن سلام عليكم . . لم يدخلوها وهم يطمعون . وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين . ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم ، قالوا : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون . أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ؟ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) . .
روي أن هؤلاء الرجال الذين يقفون على الأعراف - الحجاب الحاجز بين الجنة والنار - جماعة من البشر ، تعادلت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم تصل بهم تلك إلى الجنة مع أصحاب الجنة ، ولم تؤد بهم هذه إلى النار مع أصحاب النار . . وهم بين بين ، ينتظرون فضل الله ويرجون رحمته . . وهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم - ربما ببياض الوجوه ونضرتها أو بالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم - ويعرفون أهل النار بسيماهم - ربما بسواد الوجوه وقترتها ، أو بالوسم الذي على أنوفهم التي كانوا يشمخون بها في الدنيا ، كالذي جاء في سورة القلم : ( سنسمه على الخرطوم ) ! وها هم أولاء يتوجهون إلى أهل الجنة بالسلام . . يقولونها وهم يطمعون أن يدخلهم الله الجنة معهم ! . . .
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار ، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا ، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة .
قال ابن جرير : وهو السور الذي قال الله تعالى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [ الحديد : 13 ] وهو الأعراف الذي قال الله تعالى : { وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ }
ثم روي بإسناده عن السدي أنه قال في قوله [ تعالى ]{[11752]} { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } وهو " السور " ، وهو " الأعراف " .
وقال مجاهد : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار ، سور له باب . قال ابن جرير : والأعراف جمع " عُرْف " ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى " عرفًا " ، وإنما قيل لعرف الديك عرفًا لارتفاعه .
وحدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا ابن عيينة ، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : الأعراف هو الشيء المشرف .
وقال الثوري ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : الأعراف : سور كعُرْف الديك .
وفي رواية عن ابن عباس : الأعراف ، تل بين الجنة والنار ، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار . وفي رواية عنه : هو سور بين الجنة والنار . وكذلك قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير .
وقال السدي : إنما سمي " الأعراف " أعرافًا ؛ لأن أصحابه يعرفون الناس .
واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم ، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد ، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم . نص عليه حذيفة ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وغير واحد من السلف والخلف ، رحمهم الله . وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه :
حدثنا عبد الله بن إسماعيل ، حدثنا عبيد بن الحسين ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا النعمان بن عبد السلام ، حدثنا شيخ لنا يقال له : أبو عباد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته ، فقال : " أولئك أصحاب الأعراف ، لم يدخلوها وهم يطمعون " .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه{[11753]} ورواه من وجه آخر ، عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام ، عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف ، فقال : " إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم ، فقتلوا في سبيل الله " {[11754]}
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو مَعْشَر ، حدثنا يحيى بن شِبْل ، عن يحيى بن عبد الرحمن المزني{[11755]} عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " أصحاب الأعراف " فقال : " هم ناس{[11756]} قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم ، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم النار{[11757]} قتلهم في سبيل الله " .
هكذا رواه ابن مَرْدُوَيه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق ، عن أبي معشر به{[11758]} وكذلك{[11759]} رواه ابنُ ماجه مرفوعًا ، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري{[11760]} [ رضي الله عنهما ]{[11761]} والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حصين ، عن الشعبي ، عن حذيفة ؛ أنه سئل عن أصحاب الأعراف ، قال : فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلَّفت بهم حسناتهم عن النار . قال : فوقفوا هناك{[11762]} على السور حتى يقضي الله فيهم . {[11763]}
وقد رواه من وجه آخر أبسط{[11764]} من هذا فقال :
حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال : قال الشعبي : أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن - وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان مولى قريش - وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا ، فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة ، فقالا هات . فقلت : إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار ، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، فإذا صُرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فبينا{[11765]} هم كذلك ، اطلع عليهم ربك فقال لهم : اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم . {[11766]}
وقال عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر الهذلي قال : قال سعيد بن جبير ، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار . ثم قرأ قول الله : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ{[11767]} ] } [ المؤمنون : 102 ، 103 ] ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح ، قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من
أصحاب الأعراف ، فوقفوا على الصراط ، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا : سلام عليكم ، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فتعوذوا بالله من منازلهم . قال : فأما أصحاب الحسنات ، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا ، وكل أمة نورًا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة . فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [ التحريم : 8 ] . وأما أصحاب الأعراف ، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع ، فهنالك يقول الله تعالى : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } فكان الطمع دخولا . قال : وقال{[11768]} ابن مسعود : على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر ، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة . ثم يقول : هلك من غلبت واحدته أعشاره .
رواه ابن جرير{[11769]} وقال أيضا :
حدثني ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس قال : " الأعراف " : السور الذي بين الجنة والنار ، وأصحاب الأعراف بذلك المكان ، حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم ، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له : " الحياة " ، حافتاه قصب الذهب ، مكلل باللؤلؤ ، ترابه المسك ، فألقوا{[11770]} فيه حتى تصلح ألوانهم ، وتبدو في نحورهم بيضاء يعرفون بها ، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال : تمنوا ما شئتم فيتمنون ، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا . فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، يسمون مساكين أهل الجنة .
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن يحيى بن المغيرة ، عن جرير ، به . وقد رواه سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن الحارث ، من قوله{[11771]} وهذا أصح ، والله أعلم . وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد .
وقال سُنَيْد بن داود : حدثني جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعَة عن عمرو بن جرير قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال{[11772]} هم آخر من يفصل بينهم من العباد ، فإذا فرغ رب العالمين من فصله{[11773]} بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ، ولم تدخلوا{[11774]} الجنة ، فأنتم عتقائي ، فارعوا من الجنة حيث شئتم " . وهذا مرسل حسن{[11775]}
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " الوليد بن موسى " ، عن منبه بن عثمان{[11776]} عن عُرْوَة بن رُوَيْم ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب ، فسألناه عن ثوابهم{[11777]} فقال : " على الأعراف ، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم . فسألناه : وما الأعراف ؟ فقال : " حائط الجنة تجري فيها الأنهار ، وتنبت فيه الأشجار والثمار " .
رواه البيهقي ، عن ابن بشران ، عن علي بن محمد المصري ، عن يوسف بن يزيد ، عن الوليد بن موسى ، به{[11778]}
وقال سفيان الثوري ، عن خُصَيف ، عن مجاهد قال : أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مِجْلز في قوله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } قال : هم رجال من الملائكة ، يعرفون أهل الجنة وأهل النار ، قال : { وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا } في النار { يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } قال : فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } .
وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين ، وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق : وقول الجمهور مقدم على قوله ، بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه . وكذا قول مجاهد : إنهم قوم صالحون علماء فقهاء{[11779]} فيه غرابة أيضا . والله أعلم .
وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها : أنهم شهدوا أنهم صلحاء تفرعوا من فرع الآخرة ، دخلوا{[11780]} يطلعون على أخبار الناس . وقيل : هم أنبياء . وقيل : ملائكة .
وقوله تعالى : { يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ، وأهل النار بسواد الوجوه . وكذا روى الضحاك ، عنه .
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس{[11781]} أنزلهم الله بتلك المنزلة ، ليعرفوا من في الجنة والنار ، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين . وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام ، لم يدخلوها ، وهم يطمعون أن يدخلوها ، وهم داخلوها إن شاء الله .
وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، والسدي ، والحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
وقال مَعْمَر ، عن الحسن : إنه تلا هذه الآية : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } قال : والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم ، إلا لكرامة يريدها بهم .
وقال قتادة [ قد ]{[11782]} أنبأكم الله بمكانهم من الطمع .
وقوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم{[11783]} قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقال السُّدِّي : وإذا مروا بهم - يعني بأصحاب الأعراف - بزمرة يُذهب بها إلى النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقال عكرمة : تحدد وجوههم في النار ، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } فرأوا وجوههم مسودة ، وأعينهم مزرقة ، { قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَبَيْنَهُما حِجابٌ وبين الجنة والنار حجاب ، يقول : حاجز ، وهو السور الذي ذكره الله تعالى فقال : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ وهو الأعراف التي يقول الله فيها : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ . كذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، وعن ابن جريج ، قال : بلغني ، عن مجاهد ، قال : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَبَيْنَهُما حِجابٌ وهو السور ، وهو الأعراف .
وأما قوله : وَعلى الأعْرَافِ رِجالٌ فإن الأعراف جمع واحدها عُرْف ، وكلّ مرتفع من الأرض عند العرب فهو عُرْف ، وإنما قيل لعرف الديك : عُرْف ، لارتفاعه على ما سواه من جسده ومنه قول الشماخ بن ضرار :
وَظَلّتْ بأعْرَافٍ تَعَالى كأنّهَا ***رِماحٌ نَحاها وِجْهَةَ الرّيحِ رَاكِزُ
يعني بقوله : «بأعراف » : بنشوز من الأرض ومنه قول الاَخر :
كُلّ كِنازٍ لَحْمُهُ نِيافُ ***كالعَلَمِ المُوفِي على الأعْرَافِ
وكان السديّ يقول : إنما سمي الأعراف أعرافا ، لأن أصحابه يعرفون الناس .
حدثني بذلك محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : الأعراف : هو الشيء المشرف .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس يقول ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : الأعراف : سور كعرف الديك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار سور له باب . قال أبو موسى : وحدثني عبيد الله بن أبي يزيد ، أنه سمع ابن عباس يقول : إن الأعراف تلّ بين الجنة والنار حُبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار ، سور له باب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبد الله بن الحرث عن ابن عباس ، قال : الأعراف : سور بين الجنة والنار .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قال : الأعراف : سور بين الجنة والنار .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَعلى الأعْرَاف رجالٌ يعني بالأعراف : السور الذي ذكر الله في القرآن وهو بين الجنة والنار .
حدثنا الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : الأعراف : سور له عرف كعرف الديك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، قال : الأعراف : سور بين الجنة والنار .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثني عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : الأعراف : السور الذي بين الجنة والنار .
واختلف أهل التأويل في صفة الرجال الذين أخبر الله جلّ ثناؤه عنهم أنهم على الأعراف وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك ، فقال بعضهم : هم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فجُعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء ، ثم يُدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، قال : قال الشعبي : أرسل إليّ عبد الحميد ، بن عبد الرحمن وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش ، وإذا هما قد ذَكَرا من أصحاب الأعراف ذِكْرا ليس كما ذَكَرا ، فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة . فقالا : هات فقلت : إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف ، فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ، قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فبيناهم كذلك ، اطلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال : اذهبوا وادخلوا الجنة ، فإني قد غفرت لكم
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن الشعبيّ ، عن حذيفة ، أنه سُئل عن أصحاب الأعراف ، قال : فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلفت بهم حسناتهم عن النار . قال : فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير وعمران بن عيينة ، عن حصين ، عن عامر ، عن حذيفة ، قال : أصحاب الأعراف : قوم كانت لهم ذنوب وحسنات ، فقصرت بهم ذنوبهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، فهم كذلك حتى يقضي الله بين خلقه فينفذ فيهم أمره .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن جابر ، عن الشعبيّ ، عن حذيفة ، قال : أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فيقول : ادخلوا الجنة بفضلي ومغفرتي ، لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ اليوم وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن عامر ، عن حذيفة ، قال : أصحاب الأعراف قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار ، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن أبي بكر الهذليّ ، قال : قال سعيد بن جبير ، وهو يحدّث ذلك عن ابن مسعود ، قال : يحاسب الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار . ثم قرأ قول الله : فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ وَمَن خَفّت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُم . ثم قال : إن الميزان يخفّ بمثقال حبة ويرجح قال : فمن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف . فوْقفوا على الصراط ، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا : سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار ، قالوا : رَبّنا لا تَجْعَلْنَا مَعَ القَوْمِ الظّالمينَ فيتعوّذون بالله من منازلهم . قال : فأما أصحاب الحسنات ، فإنهم يُعْطَوْن نورا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويُعطى كلّ عبد يومئذٍ نورا وكلّ أمة نورا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كلّ منافق ومنافقة . فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون ، قالوا : ربنا أتمم لنا نورنا وأما أصحاب الأعراف ، فإن النور كان في أيديهم ، فلم ينزع من أيديهم ، فهنالك يقول الله : لَم يَدخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ فكان الطمع دخولاً . قال : فقال ابن مسعود : على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشرا ، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلاّ واحدة . ثم يقول : هلك من غلب وُحدانه أعشاره .
حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع ، قال : أخبرني ابن وهب قال : أخبرني عيسى الخياط عن الشعبيّ ، عن حذيفة ، قال : أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار ، وهم آخر من يدخل الجنة ، قد عَرفوا أهل الجنة وأهل النار .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، قال : قال ابن عباس : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم ولا سيئاتهم على حسناتهم .
حدثنا ابن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبد الله بن الحرث ، عن ابن عباس ، قال : الأعراف : سور بين الجنة والنار ، وأصحاب الأعراف بذلك المكان ، حتى إذا بدا لله أن يعافيهم ، انطلق بهم إلى نهر يقال له الحياة حافتاه قضب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك ، فألقوا فيه حتى تصلح ألوانهم ويبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، حتى إذا صلحت ألوانهم أتَى بهم الرحمن ، فقال : تمنوا ما شئتم قال : فيتمنون ، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعين مرّة . فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يُعرفون بها ، يُسّمون مساكين الجنة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : أصحاب الأعراف يؤمر بهم إلى نهر يقال له الحياة ، ترابه الورس والزعفران ، وحافتاه قضب اللؤلؤ . قال : وأحسبه قال : مكلل باللؤلؤ . وقال : فيغتسلون فيه ، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء فيقال لهم : تمنوا فيقال لهم : لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفا وإنهم مساكين أهل الجنة . قال حبيب : وحدثني رجل : أنهم استوت حسناتهم وسيئاتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب بن ثابت ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : أصحاب الأعراف يُنْتَهى بهم إلى نهر يقال له الحياة ، حافَتاه قضب من ذهب قال سفيان : أراه قال : مكلل باللؤلؤ . قال : فيغتسلون منه اغتسالة ، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء ، ثم يعودون فيغتسلون فيزدادون ، فكلما اغتسلوا ازدادت بياضا ، فيقال لهم : تمنوا ما شئتم فيتمنون ما شاءوا . فيقال لهم : لكم ما تمنيتم وسبعون ضعفا قال : فهم مساكين أهل الجنة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن حصين ، عن الشعبيّ ، عن حذيفة ، قال : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فهم على سور بين الجنة والنار لَم يَدخُلُوها وَهُم يَطْمَعُونَ .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان ابن عباس يقول : الأعراف بين الجنة والنار ، حبس عليه أقوام بأعمالهم . وكان يقول : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فلم تزد حسناتهم على سيئاتهم ، ولا سيئاتهم على حسناتهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : قال ابن عباس : أهل الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم .
وقال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن شريك ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قال : أصحاب الأعراف استوت أعمالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فوقفوا هنالك على السور .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سفيع أو سميع قال أبو جعفر : كذا وجدت في كتاب سفيع عن أبي علقمة قال : أصحاب الأعراف : قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم .
وقال آخرون : كانوا قُتلوا في سبيل الله عصاة لاَبائهم في الدنيا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن أبي مسعر ، عن شرحبيل بن سعد ، قال : هم قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني خالد ، عن سعيد ، عن يحيى بن شبل : أن رجلاً من بني النضير أخبره عن رجل من بني هلال أن أباه أخبره أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف ، فقال : «هُمْ قَوْمٌ غَزَوْا فِي سَبِيلِ اللّهِ عُصَاةٌ لاَبائِهِمْ ، فَقُتِلُوا ، فأعْتَقَهُمُ اللّهُ مِنَ النّارِ بِقَتْلِهِمْ فِي سَبيله ، وَحُبسُوا عَن الجَنّةِ بِمَعْصيَةِ آبائِهِمْ ، فَهُمْ آخِرُ مَنْ يَدْخُلَ الجَنّةِ » .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن أبي معشر ، عن يحيى بن شبل مولى بني هاشم ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف ، فقال : «قَوْمٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِمَعْصِيَةِ آبائِهِمْ ، فَمَنَعَهُمْ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ عَن النّارِ ، وَمَنَعَتْهُمْ مَعْصِيَةُ آبائِهِمْ أنْ يَدْخُلُوا الجَنّةَ » .
وقال آخرون : بل هم قوم صالحون فقهاء علماء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، قال : أصحاب الأعراف قوم صالحون ، فقهاء علماء .
وقال آخرون : بل هم ملائكة وليسوا ببني آدم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي مجلز ، قوله : وبَيْنَهُما حِجابٌ وَعلى الأعْرَافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ قال : هم رجال من الملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار . قال : وَنادَوْا أصحَابَ الجَنّةِ أنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ . . . إلى قوله : رَبّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَومِ الظّالمِينَ . قال : فنادى أصحاب الأعراف رجالاً في النار يعرفونهم بسيماهم : ما أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أهَؤُلاء الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ قال : فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة ، ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت عمران ، قال : قلت لأبي مجلز : يقول الله : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ وتزعم أنت أنهم الملائكة ؟ قال : فقال : إنهم ذكور وليسوا بإناث .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز : وَعلى الأعْرافِ رِجالٌ قال : رجال من الملائكة يعرفون الفريقين جميعا بسيماهم ، أهل النار وأهل الجنة ، وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن التيمي ، عن أبي مجلز ، بنحوه .
وقال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن التيمي ، عن أبي مجلز ، قال : أصحاب الأعراف الملائكة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا يعلى بن أسد ، قال : حدثنا خالد ، قال : أخبرنا التيمي ، عن أبي مجلز : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ قال : هم الملائكة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن عمران بن حدير ، عن أبي مجلز : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ قال : هم الملائكة . قلت : يا أبا مجلز يقول الله تبارك وتعالى رجال ، وأنت تقول ملائكة ؟ قال : إنهم ذكران ليسوا بإناث .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد عن عمران بن حُدَير ، عن أبي مجلز ، في قوله : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ قال : الملائكة ، قال : قلت : يقول الله رجال ، قال : الملائكة ذكور .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه فيهم : هم رجال يعرفون كلاّ من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم ، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحّ سنده ولا أنه متفق على تأويلها ، ولا إجماع من الأمة على أنهم ملائكة . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان ذلك لا يدرك قياسا ، وكان المتعارف بين أهل لسان العرب أن الرجال اسم يجمع ذكور بني آدم دون إناثهم ودون سائر الخلق غيرهم ، كان بيّنا أن ما قاله أبو مجلز من أنهم ملائكة قول لا معنى له ، وأن الصحيح من القول في ذلك ما قاله سائر أهل التأويل غيره . هذا مع من قال بخلافه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك من الأخبار وإن كان في أسانيدها ما فيها . وقد :
حدثني القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني جرير عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف ، فقال : «هُمْ آخِرُ مَنْ يُفْصَلُ بَيْنَهُمْ مِنَ العِبادِ ، وَإذَا فَرَغَ رَبّ العالَمِينَ مِنْ فَصْلِهِ بينَ العِبادِ ، قال : أنْتُمْ قَوْمٌ أخْرَجَتْكُمْ حَسنَاتُكُمْ مِنَ النّارِ وَلمْ تُدْخِلْكُمُ الجَنّةُ ، وأنْتُمْ عُتَقائي فَارْعَوْا مِنَ الجَنّةِ حَيْثُ شِئْتُمْ » .
القول في تأويل قوله تعالى : يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسيماهُمْ وَنادَوْا أصحَابَ الجَنّةِ أنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ .
يقول تعالى ذكره : وعلى الأعراف رجال يعرفون أهل الجنة بسيماهم ، وذلك بياض وجوههم ونضرة النعيم عليها . ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم ، وذلك سواد وجوههم وزرقة أعينهم ، فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم : سلام عليكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ قال : يعرفون أهل النار بسواد الوجوه ، وأهل الجنة ببياض الوجوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ قال : أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار ، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ، ويتعوّذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين ، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام ، لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها ، وهم داخلوها إن شاء الله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بِسِيماهُمْ قال : بسواد الوجوه وزُرقة العيون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَعَلى الأعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ الكفار بسواد الوجوه وزرقة العيون ، وسيما أهل الجنة مبيضة وجوههم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أصحاب الأعراف إذا رأوا أصحاب الجنة عرفوهم ببياض الوجوه ، وإذا رأوا أصحاب النار عرفوهم بسواد الوجوه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : إن أصحاب الأعراف رجال كانت لهم ذنوب عظام ، وكان حسم أمرهم لله ، فأقيموا ذلك المقام إذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه ، فقالوا رَبّنَا لا تجعلْنَا معَ القَوْمِ الظّالِمِينَ وإذا نظروا إلى أهل الجنة عرفوهم ببياض الوجوه ، فذلك قوله : وَنادَوْا أصحَابَ الجَنّةِ أنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَم يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، في قوله : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ زعموا أن أصحاب الأعراف رجال من أهل الذنوب أصابوا ذنوبا وكان حَسْمُ أمرهم لله ، فجعلهم الله على الأعراف ، فإذا نظروا إلى أهل النار عرفوهم بسواد الوجوه ، فتعوّذوا بالله من النار وإذا نظروا إلى أهل الجنة ، نادوهم أن سلام عليكم ، قال الله : لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ . قال : وهذا قول ابن عباس .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ يعرفون الناس بسيماهم ، يعرفون أهل النار بسواد وجوههم ، وأهل الجنة ببياض وجوههم .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ يعرفون أهل النار بسواد وجوههم ، وأهل الجنة ببياض وجوههم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ يَعْرفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ قال : أهل الجنة بسيماهم بيض الوجوه ، وأهل النار بسيماهم سود الوجوه . قال : وقوله يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ قال : أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ونادوا أصحاب الجنة ، قال : حين رأوا وجوههم قد ابيضت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسِيماهُمْ قال : بسواد الوجوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن مبارك ، عن الحسن : بِسِيماهُمْ قال : بسواد الوجوه ، وزُرقة العيون .
والسيماء : العلامة الدالة على الشيء في كلام العرب ، وأصله من السّمَةِ نُقلت واوها التي هي فاء الفعل إلى موضع العين ، كما يقال : اضمحلّ وامضحلّ . وذُكر سماعا عن بعض بني عقيل : هي أرض خامة ، يعني : وَخِمة ومنه قولهم : له جاه عند الناس ، بمعنى : وجه ، نُقلت واوه إلى موضع عين الفعل وفيها لغات ثلاث : «سيما مقصورة » ، و «سيماء » ممدودة ، و «سيمياء » بزيادة ياء أخرى بعد الميم فيها ومدّها على مثال الكبرياء ، كما قال الشاعر :
غُلامٌ رَماهُ اللّهُ بالحُسْنِ إذْ رَمى ***لَهُ سِيمْياءُ لا تَشُقّ على البَصَرْ
وأما قوله : وَنادَوْا أصحَابَ الجَنّةِ أنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي حلّت عليهم أمنة الله من عقابه وأليم عذابه .
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ فقال بعضهم : هذا خبر من الله عن أهل الأعراف أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف ، غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أهل الأعراف يعرفون الناس ، فإذا مرّوا عليهم بزمرة يذهب بها إلى الجنة قالوا : سلام عليكم يقول الله لأهل الأعراف : لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ أن يدخلوها .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : تلا الحسن : لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ قال : والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلاّ لكرامة يريدها بهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعونَ قال : أنبأكم الله بمكانهم من الطمع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن أبي بكر الهذليّ ، قال : قال سعيد بن جبير ، وهو يحدّث ذلك عن ابن مسعود ، قال : أما أصحاب الأعراف ، فإن النور كان في أيديهم فانتزع من أيديهم يقول الله : لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ قال : في دخولها . قال ابن عباس : فأدخل الله أصحاب الأعراف الجنة .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة وعطاء : لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ قالا : في دخولها .
وقال آخرون : إنما عُني بذلك أهل الجنة ، وأن أصحاب الأعراف يقولون لهم قبل أن يدخلوا الجنة : سلام عليكم ، وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها ، ولم يدخلوها بعد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز : وَنادَوْا أصحَابَ الجَنّةِ أنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ قال : الملائكة يعرفون الفريقين جميعا بسيماهم ، وهذا قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة أصحاب الأعراف ، ينادون أصحاب الجنة : أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها .
{ وبينهما حجاب } أي بين الفريقين لقوله تعالى : { فضرب بينهم بسور } أو بين الجنة والنار ليمنع وصول اثر إحداهما إلى الأخرى . { وعلى الأعراف } وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه ، وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره . { رجال } طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم ، أو خيار المؤمنين وعلمائهم ، أو ملائكة يرون في صورة الرجال . { يعرفون كلا } من أهل الجنة والنار . { بسيماهم } بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده ، فعل من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة ، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه ، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة . { ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم } أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم . { لم يدخلوها وهم يطعمون } حال من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه الباقية .
الضمير في قوله { وبينهما } عائد على الجنة والنار ، ويحتمل على الجمعين إذا يتضمنهما قوله تعالى : { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] ، و «الحجاب » : هو السور الذي ذكره عز وجل في قوله : { فضرب بينهم بسور له باب } قاله ابن عباس ، وقاله مجاهد : { الأعراف } حجاب بين الجنة والنار ، وقال ابن عباس أيضاً هو تل بين الجنة والنار ، وذكر الزهراوي حديثاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن أحداً جبل يحبنا ونحبه ، وإنه يقوم يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحتبس عليه أقوام يعرفون كلاً بسيماهم هم إن شاء الله من أهل الجنة » ، وذكر حديثاً آخر عن صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن أحداً على ركن من أركان الجنة » و { الأعراف } جمع عرف وهو المرتفع من الأرض .
كل كناز لحمه نياف*** كالجمل الموفي على الأعراف
فظلت بأعراف تعالى كأنها*** رماح نحاها وجهة الريح راكز
ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما ، وقال السدي سمي الأعراف أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس .
قال القاضي أبو محمد : وهذه عجمة وإنما المراد على أعراف ذلك الحجاب أعاليه ، وقوله : { رجال } قال أبو مجلز لاحق بن حميد : هم الملائكة ، ولفظة { رجال } مستعارة لهم لما كانوا في تماثيل رجال قال : وهم ذكور ليسوا بإناث .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وقد سمى الله رجالاً في الجن ، وقال الجمهور : هم رجال من البشر ، ثم اختلفوا فقال مجاهد : هم قوم صالحون فقهاء علماء ، وحكى الزهراوي أنهم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم كل أمة ، وقاله الزجاج وقال قوم : هم أنبياء ، وقال المهدوي : هم الشهداء ، وقال شرحبيل بن سعد : هم المستشهدون في سبيل الله الذين خرجوا عصاة لآبائهم ، وذكر الطبري في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه تعادل عقوقهم واستشهادهم وقال ابن مسعود والشعبي وحذيفة بن اليمان وابن عباس وابن جبير والضحاك : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم .
قال القاضي أبو محمد : وقع في مسند خيثمة بن سليمان في آخر الجزء الخامس عشر حديث عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار ، قيل يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون » ، وقال حذيفة بن اليمان أيضاً : هم قوم أبطأت بهم صغارهم إلى آخر الناس .
قال القاضي أبو محمد : واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السور أو على مواضع مرتفعة عن الفريقين حيث شاء الله تعالى رجالاً من أهل الجنة ، يتأخر دخولهم ويقع لهم ما وصف من الاعتبار في الفريقين .
و { يعرفون كلاً بسيماهم } أي بعلامتهم وهي بياض الوجوه وحسنها في أهل الجنة ، وسوادها وقبحها في أهل النار إلى غير ذلك في حيز هؤلاء وحيز هؤلاء ، والسيما العلامة وهو من وسم ، وفيه قلب ، يقال سيما مقصور وسيما ممدود وسيمياء بكسر الميم وزيادة ياء فوزنها عفلاً مع كونها من وسم ، وقيل هي من سوم إذا علم فوزنها على هذا فعلاً ، ونداؤهم أصحاب الجنة يحتمل أن يكون وأصحاب الجنة لم يدخلوها بعد فيكون أيضاً قوله { لم يدخلوها وهم يطمعون } محتملاً أن يعنى به أهل الجنة وهو تأويل أبي مجلز إذ جعل أصحاب الأعراف ملائكة ، ومحتملاً أن يعنى به أهل الأعراف ، ويحتمل أن يكون نداؤهم أهل الجنة بالسلام وهم قد دخلوها ، فلا يحتمل حينئذ قوله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } إلا أهل الأعراف فقط ، وهو تأويل السدي وقتادة وابن مسعود والحسن ، وقال : والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لخير أراده بهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الأظهر الأليق ولا نظر لأحد مع قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { وهم يطمعون } هي جملة مقطوعة ، أخبر أنهم لم يدخلوها وهم طامعون بدخولها فكأن الجملة حال من الضمير في { نادوا } ، وقرأ أبو رقيش النحوي «لم يدخلوها وهم طامعون » وقرأ إياد بن لقيط «وهم ساخطون » ، وذكر بعض الناس قولاً وهو أن يقدر قوله { وهم يطمعون } في موضع الحال من ضمير الجماعة في { يدخلوها } ، ويكون المعنى لم يدخلوها في حال طمع بها بل كانوا في حال يأس وخوف لكنهم عمهم عفو الله عز وجل ، وقال ابن مسعود : إنما طمع أصحاب الأعراف لأن النور الذي كان في أيديهم لم يطفأ جين يطفأ كل ما بأيدي المنافقين .
تقديم { وبينهما } وهو خبر على المبتدأ للاهتمام بالمكان المتوسّط بين الجنّة والنّار وما ذكر من شأنه . وبهذا التّقديم صحّ تصحيح الابتداء بالنّكرة ، والتّنكير للتّعظيم .
وضمير { بينهما } يعود إلى لفظي الجنّة والنّار الواقعين في قوله { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 44 ] وهما اسما مكان ، فيصلح اعتبار التّوسّط بينهما . وجُعل الحجاب فصلاً بينهما . وتثنية الضّمير تُعيِّن هذا المعنى ، ولو أريد من الضّمير فريقَا أهللِ الجنّة وأهل النّار ، لقال : بينهم ، كما قال في سورة الحديد ( 13 ) { فضرب بينهم بسور } الآية .
والحجاب : سور ضُرب فاصلاً بين مكان الجنّة ومكان جهنّم ، وقد سمّاه القرآن سوراً في قوله : { فضرب بينهم بسور له باب } في سورة الحديد ( 13 ) ، وسمّي السور حجاباً لأنّه يقصد منه الحجب والمنع كما سمّي سوراً باعتبار الإحاطة .
والأعراف : جمع عُرْف بِضّم العين وسكون الرّاء ، وقد تضمّ الرّاء أيضاً وهو أعلى الشّيء ومنه سمّي عُرف الفرس ، الشّعر الذي في أعلى رقبته ، وسمّي عُرف الدّيك . الرّيش الذي في أعلى رأسه .
و ( أل ) في الأعراف } للعهد . وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السّور . ليرقب منها النظَّارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم . ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتّى تعرّف بلام العهد ، فتعيّن أنّها ما يعهده النّاس في الأسوار . أو يجعل ( ألْ ) عوضاً عن المضاف إليه : أي وعلى أعراف السّور . وهما وجهان في نظائر هذا التّعريف كقوله تعالى : { فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 41 ] وأيّاً مّا كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكاناً مخصوصاً يتعرّف منه أهل الجنّة وأهل النّار ، إذ لا وجه حينئذٍ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه .
وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنّكرة ، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب ، قبل أن يدخلوا الجنّة ، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار ، ويعرِفون رجالاً من أهل النّار كانوا من أهل العزّة والكبرياء في الدّنيا ، وكانوا يكذّبون وعد الله المؤمنين بالجنّة ، وليس تخصيص الرّجال بالذّكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء ، ولا اختصاص هؤلاء الرّجال المتحدّث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرّجال ، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر ، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة ، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم ، ولعلّ توهّم أنّ تخصيص الرّجال بالذّكر لقصد التّقسيم قد أوقع بعض المفسّرين في حيرة لتطلّب المعنى لأنّ ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقّوا ذلك المكان لأجل حالة لاحظّ للنّساء فيها ، فبعضهم حمل الرّجال على الحقيقة فتطلب عملاً يعمله الرّجال لاحظ للنّساء فيه في الإسلام ، وليس إلاّ الجهاد ، فقال بعض المفسرين : هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم ، وبعض المفسّرين حمل الرّجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة ، أطلق عليهم الرّجال لأنّهم ليسوا إناثاً كما أطلق على أشخاص الجنّ في قوله تعالى : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن } [ الجن : 6 ] فيظهر وجه لتخصيص الرّجال بالذّكر تبعاً لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها .
وأمّا ما نقل عن بعض السّلف أنّ أهل الأعراف هم قوم اسْتوت موازين حسناتهم مع موازين سيّئاتهم ، ويكون إطلاق الرّجال عليهم تغليباً ، لأنّه لا بدّ أن يكون فيهم نساء ، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم لم تبلغ مبلغ الصّحيح ولم تنزل إلى رتبة الضّعيف : روى بعضَها ابنُ ماجة ، وبعضَها ابنُ مردويه ، وبعضَها الطّبري ، فإذا صحت فإنّ المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنّهم لم يدخلوا الجنّة وهم يطمعون . وليس المراد منها أنّهم المقصودُ من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمّل فيها .
والذي ينبغي تفسير الآية به : أنّ هذه الأعراف جعلها الله مكاناً يوقف به من جعله الله من أهل الجنّة قبل دخوله إياها ، وذلك ضرب من العقاب خفيف ، فجعل الدّاخلين إلى الجنّة متفاوتين في السبق تفاوتاً يعلم الله أسبابه ومقاديره ، وقد قال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] وخصّ الله بالحديث في هذه الآيات رجالاً من أصحاب الأعراف . ثمّ يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمّة الإسلاميّة خاصّة . ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم ، وأيّاما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمّة المحمّديّة .
وتنوين { كلاً } عوضٌ عن المضاف إليه المعروف من الكلام المتقدّم . أي كلّ أهل الجنّة وأهل النّار .
والسيما بالقصر السمة أي العلامة ، أي بعلامة ميَّز الله بها أهل الجنّة وأهل النّار ، وقد تقدّم بيانها واشتقاقها عند قوله تعالى : { تعرفهم بسيماهُم } في سورة البقرة ( 273 ) .
ونداؤهم أهلَ الجنّة بالسّلام يؤذن بأنّهم في اتّصال بعيد من أهل الجنّة ، فجعل الله ذلك أمارة لهم بحسن عاقبتهم ترتاح لها نفوسهم . ويعلمون أنّهم صائرون إلى الجنّة ، فلذلك حكى الله حالهم هذه للنّاس إيذاناً بذلك وبأن طمعهم في قوله : { لم يدخلوها وهم يطمعون } هو طمع مستند إلى علامات وقوع المطموع فيه ، فهو من صنف الرّجاء كقوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } ( الشعراء 82 ) .
و { أن } تفسير للنّداء ، وهو القول { سلام عليكم } . و { سلام عليكم } دعاءُ تحيّة وإكرام .
وجملة : { لم يدخلوها وهم يطمعون } مستأنفة للبيان ، لأنّ قوله { ونادوا أصحاب الجنّة } يثير سؤالاً يبحث عن كونهم صائرين إلى الجنّة أو إلى غيرها . وجملة : { وهم يطمعون } حال من ضمير { يدخلوها } والجملتان معاً معترضتان بين جملة : { ونادوا أصحاب الجنة } وجملة { وإذا صرفت أبصارهم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال: {وبينهما حجاب}، يقول: بين الجنة والنار سور، {وعلى الأعراف}، يعني على السور رجال {رجال يعرفون كلا} من الفريقين {بسيماهم}، يعرفون أهل الجنة ببياض في الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه.
{ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم} يسلم أصحاب الأعراف على أهل الجنة، يقول الله: {لم يدخلوها}، يعني أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة، {وهم يطمعون} في دخولها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله:"وَبَيْنَهُما حِجابٌ" وبين الجنة والنار حجاب، يقول: حاجز، وهو السور الذي ذكره الله تعالى فقال: "فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ "وهو الأعراف التي يقول الله فيها: "وَعَلى الأعْرَافِ رِجالٌ". وأما قوله: "وَعلى الأعْرَافِ رِجالٌ" فإن الأعراف جمع واحدها: عُرْف، وكلّ مرتفع من الأرض عند العرب فهو عُرْف، وكان السديّ يقول: إنما سمي الأعراف أعرافا، لأن أصحابه يعرفون الناس. (عن) ابن عباس يقول: إن الأعراف تلّ بين الجنة والنار حُبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار.
واختلف أهل التأويل في صفة الرجال الذين أخبر الله جلّ ثناؤه عنهم أنهم على الأعراف، وما السبب الذي من أجله صاروا هنالك؛
فقال بعضهم: هم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فجُعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يُدخلهم الجنة بفضل رحمته إياهم...
"يَعْرِفُونَ كُلاّ بِسيماهُمْ وَنادَوْا أصحَابَ الجَنّةِ أنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ". يقول تعالى ذكره: وعلى الأعراف رجال يعرفون أهل الجنة بسيماهم، وذلك بياض وجوههم ونضرة النعيم عليها. ويعرفون أهل النار كذلك بسيماهم، وذلك سواد وجوههم وزرقة أعينهم. فإذا رأوا أهل الجنة نادوهم: سلام عليكم... والصواب من القول في أصحاب الأعراف أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه فيهم: هم رجال يعرفون كلاّ من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم... والسيماء: العلامة الدالة على الشيء في كلام العرب،
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله: "لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ"؛
فقال بعضهم: هذا خبر من الله عن أهل الأعراف أنهم قالوا لأهل الجنة ما قالوا قبل دخول أصحاب الأعراف، غير أنهم قالوه وهم يطمعون في دخولها. وقال آخرون: إنما عُني بذلك أهل الجنة، وأن أصحاب الأعراف يقولون لهم قبل أن يدخلوا الجنة: سلام عليكم، وأهل الجنة يطمعون أن يدخلوها، ولم يدخلوها بعد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاّ بسيماهم}: هم أهل كرامة الله، أكرمهم الله بذلك، يرفعهم الله على ذلك السور لينظروا إلى حكم [الله] في الخلق وعدله فيهم، وينظرون إلى إحسان الله في من يحسن إليه وعدله في من يعاقبهم.
وقال الحسن: هم أصحاب التعريف؛ يعرفون أهل النار وعدل الله فيهم وحكمه، وأن ما حل بهم من الشدائد والعذاب إنما حل بهم مما كان منهم في الدنيا من صدّهم الناس عن سبيل الله واستكبارهم على الرسل؛ يعرفونهم أن ما نزل بهم إنما نزل بعدل منه، ويعرّفون أهل الجنة فضل الله وإحسانه إليهم أن ما نالوه إنما نالوا بفضل وإحسان...
... كثرت الأقوال فيهم وهي محصورة في قولين: أحدهما: أن يقال إنهم الأشراف من أهل الطاعة وأهل الثواب، الثاني: أن يقال إنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة.
.. واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة، وابن عباس، وابن مسعود، وغير واحد من السلف والخلف، رحمهم الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
..والحجاب: سور ضُرب فاصلاً بين مكان الجنّة ومكان جهنّم، وقد سمّاه القرآن سوراً في قوله: {فضرب بينهم بسور له باب} في سورة الحديد (13)، وسمّي السور حجاباً لأنّه يقصد منه الحجب والمنع كما سمّي سوراً باعتبار الإحاطة.
والأعراف: جمع عُرْف بِضّم العين وسكون الرّاء، وقد تضمّ الرّاء أيضاً وهو أعلى الشّيء ومنه سمّي عُرف الفرس، الشّعر الذي في أعلى رقبته، وسمّي عُرف الدّيك. الرّيش الذي في أعلى رأسه.
و (أل) في الأعراف} للعهد. وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السّور. ليرقب منها النظَّارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم. ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتّى تعرّف بلام العهد، فتعيّن أنّها ما يعهده النّاس في الأسوار...
... أو يجعل (ألْ) عوضاً عن المضاف إليه: أي وعلى أعراف السّور. وهما وجهان في نظائر هذا التّعريف كقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] وأيّاً مّا كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكاناً مخصوصاً يتعرّف منه أهل الجنّة وأهل النّار، إذ لا وجه حينئذٍ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه.
وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنّكرة، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب، قبل أن يدخلوا الجنّة، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار، ويعرِفون رجالاً من أهل النّار كانوا من أهل العزّة والكبرياء في الدّنيا، وكانوا يكذّبون وعد الله المؤمنين بالجنّة، وليس تخصيص الرّجال بالذّكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء، ولا اختصاص هؤلاء الرّجال المتحدّث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرّجال، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم، ولعلّ توهّم أنّ تخصيص الرّجال بالذّكر لقصد التّقسيم قد أوقع بعض المفسّرين في حيرة لتطلّب المعنى لأنّ ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقّوا ذلك المكان لأجل حالة لاحظّ للنّساء فيها، فبعضهم حمل الرّجال على الحقيقة فتطلب عملاً يعمله الرّجال لاحظ للنّساء فيه في الإسلام، وليس إلاّ الجهاد، فقال بعض المفسرين: هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم، وبعض المفسّرين حمل الرّجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة، أطلق عليهم الرّجال لأنّهم ليسوا إناثاً كما أطلق على أشخاص الجنّ في قوله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} [الجن: 6] فيظهر وجه لتخصيص الرّجال بالذّكر تبعاً لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها.
وأمّا ما نقل عن بعض السّلف أنّ أهل الأعراف هم قوم اسْتوت موازين حسناتهم مع موازين سيّئاتهم، ويكون إطلاق الرّجال عليهم تغليباً، لأنّه لا بدّ أن يكون فيهم نساء، ويروى فيه أخبار مسندة إلى النّبيء صلى الله عليه وسلم لم تبلغ مبلغ الصّحيح ولم تنزل إلى رتبة الضّعيف: روى بعضَها ابنُ ماجة، وبعضَها ابنُ مردويه، وبعضَها الطّبري، فإذا صحت فإنّ المراد منها أن من كانت تلك حالتهم يكونون من جملة أهل الأعراف المخبر عنهم في القرآن بأنّهم لم يدخلوا الجنّة وهم يطمعون. وليس المراد منها أنّهم المقصودُ من هذه الآية كما لا يخفى على المتأمّل فيها.
والذي ينبغي تفسير الآية به: أنّ هذه الأعراف جعلها الله مكاناً يوقف به من جعله الله من أهل الجنّة قبل دخوله إياها، وذلك ضرب من العقاب خفيف، فجعل الدّاخلين إلى الجنّة متفاوتين في السبق تفاوتاً يعلم الله أسبابه ومقاديره، وقد قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى} [الحديد: 10] وخصّ الله بالحديث في هذه الآيات رجالاً من أصحاب الأعراف. ثمّ يحتمل أن يكون أصحاب الأعراف من الأمّة الإسلاميّة خاصّة. ويحتمل أن يكونوا من سائر الأمم المؤمنين برسلهم، وأيّاما كان فالمقصود من هذه الآيات هم من كان من الأمّة المحمّديّة.