قوله تعالى : { قالوا اطيرنا } أي : تشاءمنا ، وأصله : تطيرنا ، { بك وبمن معك } قيل : إنما قالوا ذلك لتفرق كلمتهم . وقيل : لأنه أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا ، فقالوا : أصابنا هذا الضر والشدة من شؤمك وشؤم أصحابك . { قال طائركم عند الله } أي : ما يصيبكم من الخير والشر عند الله بأمره ، وهو مكتوب عليكم ، سمي طائراً لسرعة نزوله بالإنسان ، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم . قال ابن عباس : الشؤم أتاكم من عند الله ليكفركم . وقيل : طائركم أي : عملكم عند الله ، سمي طائراً لسرعة صعوده إلى السماء . { بل أنتم قوم تفتنون } قال ابن عباس : تختبرون بالخير والشر ، نظيره قوله تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } وقال محمد بن كعب القرظي : تعذبون .
ثم حكى - سبحانه - ما رد به هؤلاء المتكبرون على نبيهم فقال - تعالى - { قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ . . . } .
وقوله : { اطيرنا } أصله تطيرنا ، فأدغمت التاء فى الطاء ، وزيدت همزة الوصل ، ليتأتى الابتداء بالكلمة . والتطير : التشاؤم .
قال الآلوسى : وعبر عنه بذلك ، لأنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فإن مر سانحا - بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسره - تيمنوا ، وإن مر بارحا - بأن مر من المياسر إلى الميامن - تساءموا . فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير لما كان سببا لهما من قدر الله - تعالى - وقسمته - عز وجل - أو من عمل العبد الذى هو سبب الرحمة والنعمة .
أى قال المكذبون من قوم صالح فى الرد عليه : أصابنا الشؤم والنحس بسبب وجودك فينا ، وبسبب المؤمنين الذين استجابوا لدعوتك . حيث أصبنا بالقحط بعد الرخاء والضراء بعد السراء .
ولا شك أن قولهم هذا يدل على جهلهم المطبق ، وعلى سوء تفكيرهم ، لأن السراء والضراء من عند الله - تعالى - وحده . ولا صلة لهما بوجود صالح والذين آمنوا معه بينهم ولذا رد عليهم صالح - عليه السلام - بقوله { طَائِرُكُمْ عِندَ الله . . . } .
أى : قال لهم موبخا وزاجرا : ليس الأمر كما زعمتم أن وجودنا بينكم هو السبب فيما أصابكم من شر ، بل الحق أن ما يصيبكم من شر وقحط هو من عند الله ، بسبب أعمالكم السيئة ، وإصراركم على الكفر ، واستحبابكم المعصية على الطاعة . والعقوبة على المغفرة .
ثم زاد صالح - عليه السلام - الأمر توضيحا وتبيانا فقال لهم : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } .
أى قال لهم : ليس ما أصابكم بسببنا . بل أنتم قوم " تفتنون " أى تختبرون وتمتحنون بما يقع عليكم من شر ، حتى تتوبوا إلى خالقكم ، قبل أن ينزل بكم العذاب الماحق ، إذا ما بقيتم على كفركم .
فأنت ترى أن صالحا - عليه السلام - قد رد على جهالتهم بأسلوب قوى رصين ، بين لهم فيه ، أن تشاؤمهم فى غير محله ، وأن حظهم ومستقبلهم ومصيرهم بيد الله - تعالى - وحده ، وأن ما أصابهم من بلاء وقحط ، إنما هو لون من امتحان الله - تعالى - لهم ، لكى يتنبهوا ويستجيبوا لدعوة لحق ، قبل أن يفاجئهم الله - تعالى - بالعذاب الذى يهلكهم .
وكذلك كان قوم صالح يقولون . ولا يستجيبون لتوجيه رسولهم إلى طريق الرحمة والتوبة والاستغفار . ويعتذرون عن ضيقهم به وبالذين آمنوا معه بأنهم يرونهم شؤما عليهم ، ويتوقعون الشر من ورائهم :
( قالوا : اطيرنا بك وبمن معك ) .
والتطير . التشاؤم . مأخوذ من عادة الأقوام الجاهلة التي تجري وراء الخرافات والأوهام ، لأنها لا تخرج منها إلى نصاعة الإيمان . فقد كان الواحد منهم إذا هم بأمر لجأ إلى طائر فزجره أي أشار إليه مطاردا . فإن مر سانحا عن يمينه إلى يساره استبشر ومضى في الأمر . وإن مر بارحا عن يساره إلى يمينه تشاءم وتوقع الضر !
وما تدري الطير الغيب ، وما تنبئ حركاتها التلقائية عن شيء من المجهول . ولكن النفس البشرية لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه وما لا تقدر عليه . فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام الغيوب وكلته إلى مثل هذه الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد ، ولا تخضع لعقل ، ولا تنتهي إلى اطمئنان ويقين .
وحتى هذه اللحظة ترى الذين يهربون من الإيمان بالله ، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه ، لأنهم - بزعمهم - قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه أن يركنوا إلى خرافة الدين ! - هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه . . نراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم 13 ، وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم ، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد . . . إلى آخر هذه الخرافات الساذجة . ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة . وهي جوعتها إلى الإيمان ، وعدم استغنائها عنه ، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم الإنسان ؛ وبعضها لن يصل إليه في يوم من الأيام ، لأنه أكبر من الطاقة البشرية ، ولأنه خارج عن اختصاص الإنسان ، زائد على مطالب خلافته في هذه الأرض ، التي زود على قدرها بالمواهب والطاقات !
فلما قال قوم صالح قولتهم الجاهلة الساذجة ، الضالة في تيه الوهم والخرافة ، ردهم صالح إلى نور اليقين ، وإلى حقيقته الواضحة ، البعيدة عن الضباب والظلام :
حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله . والله قد سن سننا وأمر الناس بأمور ، وبين لهم الطريق المستنير . فمن اتبع سنة الله ، وسار على هداه ، فهناك الخير ، بدون حاجة إلى زجر الطير . ومن انحرف عن السنة ، وحاد عن السواء ، فهناك الشر ، بدون حاجة إلى التشاؤم والتطير .
تفتنون بنعمة الله ، وتختبرون بما يقع لكم من خير ومن شر . فاليقظة وتدبر السنن ، وتتبع الحوادث والشعور بما وراءها من فتنة وابتلاء هو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية . لا التشاؤم والتطير ببعض خلق الله من الطير ومن الناس سواء .
وهكذا ترد العقيدة الصحيحة الناس إلى الوضوح والاستقامة في تقدير الأمور . وترد قلوبهم إلى اليقظة والتدبر فيما يقع لهم أو حولهم . وتشعرهم أن يد الله وراء هذا كله ، وأن ليس شيء مما يقع عبثا أو مصادفة . . وبذلك ترتفع قيمة الحياة وقيمة الناس . وبذلك يقضي الإنسان رحلته على هذا الكوكب غير مقطوع الصلة بالكون كله من حوله ، وبخالق الكون ومدبره ، وبالنواميس التي تدبر هذا الكون وتحفظه بأمر الخالق المدبر الحكيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ف {قالوا} يا صالح {اطيرنا} يعني: تشاءمنا {بك وبمن معك} على دينك، وذلك أنه قحط المطر عنهم وجاعوا، فقالوا: أصابنا هذا الشر من شؤمك وشؤم أصحابك، ف {قال} لهم عليه السلام: إنما {طائركم عند الله} يقول: الذي أصابكم هو مكتوب في أعناقكم، {بل أنتم قوم تفتنون} يعني: تبتلون، وإنما ابتليتم بذنوبكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت ثمود لرسولها صالح "اطّيّرنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ "أي: تشاءمنا بك وبمن معك من أتباعنا، وزجرنا الطير بأنا سيصيبنا بك وبهم المكاره والمصائب، فأجابهم صالح فقال لهم: "طائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ" أي ما زجرتم من الطير لما يصيبكم من المكاره عند الله علمه، لا يدري أيّ ذلك كائن، أما تظنون من المصائب أو المكاره، أم ما لا ترجونه من العافية والرجاء والمحاب... وقوله: "بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ" يقول: بل أنتم قوم تختبرون، يختبركم ربكم إذ أرسلني إليكم، أتطيعونه، فتعملون بما أمركم به، فيجزيكم الجزيل من ثوابه، أم تعصونه، فتعملون بخلافه، فيحلّ بكم عقابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{طائركم عند الله} أي ما ينزل بكم، ويصيبكم من الشدة والرخاء إنما ينزل من عند الله، لا بنا، ولا بكم. أو يقال: ما ينزل بكم من العذاب في الآخرة إنما يصيبكم بتكذيبكم إياي في الدنيا، أو يقال: {طائركم عند الله} أي جزاء طيرتكم عند الله؛ هو يجزيكم بها بعذاب الدنيا والآخرة.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{قَالَ طَائِرُكُمْ} من الخير والشر وما يصيبكم من الخصب والجدب {عِندَ اللَّهِ} بأمره وهو مكتوب على رؤوسكم، لازم أعناقكم، وليس ذلك إليَّ ولا علمه عندي.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} أي تشاءَمنا بك وبمن معك مأخوذ من الطيرة. وفي تطيرهم به وجهان: أحدهما: لافتراق كلمتهم، قاله ابن شجرة. الثاني: للشر الذي نزل بهم، قاله قتادة. {قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ} فيه وجهان: أحدهما: مصائبكم عند الله، قاله ابن عباس، لأنها في سرعة نزولها عليكم كالطائر. الثاني: عملكم عند الله، قاله قتادة، لأنه في صعوده إليه كالطائر. {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} فيه وجهان: أحدهما: تبتلون بطاعة الله ومعصيته، قاله قتادة. الثاني: تصرفون عن دينكم الذي أمركم الله به وهو الإسلام، قاله الحسن.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وكان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره، فإن مر سانحاً تيمن، وإن مر بارحاً تشاءم، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته: أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة. ومنه قالوا: طائر الله لا طائرك، أي: قدر الله الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر، لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، فلما قالوا: اطيرنا بكم، أي: تشاءمنا وكانوا قد قحطوا {قَالَ طائركم عِندَ الله} أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله، وهو قدره وقسمته، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. ويجوز أن يريد: عملكم مكتوب عند الله، فمنه نزل بكم ما نزل، عقوبة لكم وفتنة. ومنه قوله: {طائركم مَّعَكُمْ} [يس: 19]، {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]... {تُفْتَنُونَ}: تختبرون. أو تعذبون. أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة.
{طائركم عند الله} أي السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم عند الله وهو قضاؤه وقدره إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" قالوا اطيرنا بك وبمن معك"... ولا شيء أضر بالرأي ولا أفسد للتدبير من اعتقاد الطيرة. ومن ظن أن خوار بقرة أو نعيق غراب يرد قضاء، أو يدفع مقدورا فقد جهل.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولما لاطفهم في الخطاب، أغلظوا له وقالوا: {اطيرنا بك وبمن معك}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} أي: ما رأينا على وجهك ووجوه مَن اتبعك خيرا. وذلك أنهم -لشقائهم- كان لا يصيب أحدًا منهم سوءٌ إلا قال:هذا من قبل صالح وأصحابه...والظاهر أن المراد بقوله: {تُفْتَنُونَ} أي: تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكذلك كان قوم صالح يقولون. ولا يستجيبون لتوجيه رسولهم إلى طريق الرحمة والتوبة والاستغفار. ويعتذرون عن ضيقهم به وبالذين آمنوا معه بأنهم يرونهم شؤما عليهم، ويتوقعون الشر من ورائهم:
والتطير. التشاؤم. مأخوذ من عادة الأقوام الجاهلة التي تجري وراء الخرافات والأوهام، لأنها لا تخرج منها إلى نصاعة الإيمان. فقد كان الواحد منهم إذا هم بأمر لجأ إلى طائر فزجره أي أشار إليه مطاردا. فإن مر سانحا عن يمينه إلى يساره استبشر ومضى في الأمر. وإن مر بارحا عن يساره إلى يمينه تشاءم وتوقع الضر!
وما تدري الطير الغيب، وما تنبئ حركاتها التلقائية عن شيء من المجهول. ولكن النفس البشرية لا تستطيع أن تعيش بلا مجهول مغيب تكل إليه ما لا تعرفه وما لا تقدر عليه. فإذا لم تكل المجهول المغيب إلى الإيمان بعلام الغيوب وكلته إلى مثل هذه الأوهام والخرافات التي لا تقف عند حد، ولا تخضع لعقل، ولا تنتهي إلى اطمئنان ويقين.
وحتى هذه اللحظة ترى الذين يهربون من الإيمان بالله، ويستنكفون أن يكلوا الغيب إليه، لأنهم -بزعمهم- قد انتهوا إلى حد من العلم لا يليق معه أن يركنوا إلى خرافة الدين! -هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا بغيبه.. نراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم 13، وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم، وعلى إشعال أكثر من لفافتين بعود ثقاب واحد... إلى آخر هذه الخرافات الساذجة. ذلك أنهم يعاندون حقيقة الفطرة. وهي جوعتها إلى الإيمان، وعدم استغنائها عنه، وركونها إليه في تفسير كثير من حقائق هذا الكون التي لم يصل إليها علم الإنسان؛ وبعضها لن يصل إليه في يوم من الأيام، لأنه أكبر من الطاقة البشرية، ولأنه خارج عن اختصاص الإنسان، زائد على مطالب خلافته في هذه الأرض، التي زود على قدرها بالمواهب والطاقات!
فلما قال قوم صالح قولتهم الجاهلة الساذجة، الضالة في تيه الوهم والخرافة، ردهم صالح إلى نور اليقين، وإلى حقيقته الواضحة، البعيدة عن الضباب والظلام:
حظكم ومستقبلكم ومصيركم عند الله. والله قد سن سننا وأمر الناس بأمور، وبين لهم الطريق المستنير. فمن اتبع سنة الله، وسار على هداه، فهناك الخير، بدون حاجة إلى زجر الطير. ومن انحرف عن السنة، وحاد عن السواء، فهناك الشر، بدون حاجة إلى التشاؤم والتطير.
تفتنون بنعمة الله، وتختبرون بما يقع لكم من خير ومن شر. فاليقظة وتدبر السنن، وتتبع الحوادث والشعور بما وراءها من فتنة وابتلاء هو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية. لا التشاؤم والتطير ببعض خلق الله من الطير ومن الناس سواء.
وهكذا ترد العقيدة الصحيحة الناس إلى الوضوح والاستقامة في تقدير الأمور. وترد قلوبهم إلى اليقظة والتدبر فيما يقع لهم أو حولهم. وتشعرهم أن يد الله وراء هذا كله، وأن ليس شيء مما يقع عبثا أو مصادفة.. وبذلك ترتفع قيمة الحياة وقيمة الناس. وبذلك يقضي الإنسان رحلته على هذا الكوكب غير مقطوع الصلة بالكون كله من حوله، وبخالق الكون ومدبره، وبالنواميس التي تدبر هذا الكون وتحفظه بأمر الخالق المدبر الحكيم.