قوله تعالى : { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } . فصبروا يوم بدر واتقوا فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة كما وعد . قال الحسن : وهؤلاء الخمسة آلاف ردء المؤمنين إلى يوم القيامة . قال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون ، وإنما يكونون عدداً ومدداً . قال محمد بن إسحاق : لما كان يوم أحد انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمي وفتى شاب يتنبل له ، فلما فني النبل أتاه به فنثره ، فقال ارم أبا إسحاق مرتين ، فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرفه أحد . أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنا إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن جده عن سعد بن أبي وقاص قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم احد ومعه رجلان يقاتلان عنه ، عليهما ثياب بيض كأشد القتال ، وما رايتهما قبل ولا بعد " رواه مسلم .
عن أبي بكر بن أبي شيبة قال : أخبرنا محمد بن بشر وأبو أسامة عن مسعر عن سعد ابن إبراهيم عن أبيه عن سعد يعني ابن أبي وقاص قال : " رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل " . وقال الشعبي : " بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم ، فأنزل الله تعالى { ألن يكفيكم أن يمدكم } إلى قوله : { مسومين } فبلغ كرزاً الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدهم فلم يمدهم الله أيضاً بالخمسة آلاف ، وكانوا قد أمدوا بألف . وقال الآخرون إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته واتقوا محارمه ، أن يمدهم أيضاً في حروبهم كلها ، فلم يصبروا إلا في يوم الأحزاب ، فأمدهم حين حاصروا قريظة والنضير ، قال عبد الله بن أبي أوفى : " كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله فلم يفتح علينا فرجعنا ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه إذ جاءه جبريل عليه السلام فقال :وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها ؟ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ، ثم نادى فينا فقمنا حتى أتينا قريظة والنضير فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ، ففتح لنا فتحاً يسيراً " وقال الضحاك وعكرمة : كان هذا يوم أحد وعدهم الله المدد إن صبروا فلم يصبروا فلم يمدوا به . قوله تعالى : { أن يمدكم ربكم } الإمداد إعانة الجيش بالجيش ، وقيل : ما كان على جهة القوة والإعانة ، يقال فيه أمده إمداداً ، وما كان على جهة الزيادة يقال فيه مده مداً ، ومنه قوله تعالى ( والبحر يمده ) وقيل : المد في الشر ، والإمداد في الخير ، يدل عليه قوله تعالى ( ويمدهم في طغيانهم ) ( ونمد له من العذاب مداً ) وقال في الخير ( إني ممدكم بألف من الملائكة منزلين ) وقال ( وأمددناكم بأموال وبنين ) . قوله تعالى : { بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } قرأ ابن عامر بتشديد الزاي على التكثير لقوله تعالى( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ) وقرأ الآخرون بالتخفيف دليله قوله تعالى ( لولا أنزل علينا الملائكة ) وقوله ( وأنزل جنوداً لم تروها ) ثم قال : بلى نمدكم إن تصبروا لعدوكم وتتقوا أي : مخالفة نبيكم ، { ويأتوكم } يعني المشركين { من فورهم هذا } قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والحسن وأكثر المفسرين : من وجههم هذا ، وقال مجاهد والضحاك : من غضبهم هذا ، لأنهم إنما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر ، ( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة ) لم يرد خمسة آلاف سوى ما ذكر من ثلاثة آلاف بل أراد معهم ، وقوله مسومين أي معلمين ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم بكسر الواو ، وقرأ الآخرون بفتحها ، فمن كسر الواو فأراد أنهم سوموا خيلهم ، ومن فتحها أراد به أنفسهم ، والتسويم : الإعلام من السومة وهي العلامة . واختلفوا في تلك العلامة ، فقال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر ، وقال علي وابن عباس رضي الله عنهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم ، وقال هشام بن عروة والكلبي : عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم ، وقال الضحاك وقتادة : كانوا قد أعلموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها ، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر " تسوموا فإن الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم " .
لقوله - تعالى - : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } فلم يصبروا ، بل فروا فلم يمدوا بملك واحد . ويبدو من كلام ابن كثير أنه يميل إلى أن هذا الوعد كان يوم بدر ، فقد قال : فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر .
وهذا ما تسكن إليه النفس : لأن الوعد بنصرة الملائكة للمؤمنين كان يوم بدر لا يوم أحد ، فقد كانوا فى بدر قليلى العدد والعدد ، وكانت غزوة بدر أول معركة حربية كبرى يلتقى فيها المؤمنون بالكافرين ، ولأن سياق الآيات يشعر بأن الله - تعالى - قد ساقها ليستحضر فى أذهان المؤمنين مشهد غزوة بدر وما تم فيها من نصر بسبب صدق إيمانهم ، وطاعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم حتى لا يعودوا إلى ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد من مخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم .
وعلى هذا الرأى يكون قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } متعلقا بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ } أى : اذكروا أيها المؤمنون أن الله - تعالى - قد نصركم ببدر وأنتم قلة فى العدد والعدة ، وكان رسولكم صلى الله عليه وسلم فى ذلك الوقت يقول لكم على سبيل التثبيت والتقوية : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ } أى منزلين من السماء لنصرتكم وتوقيتكم ودحر أعدائكم .
أما على الرأى القائل بأن هذا الوعد كان غزوة احد ، فيكون قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } إلخ .
بدل من قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } .
قال الآلوسى : " والهمزة فى قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } لإنكار ألا يكفيهم ذلك . وأتى بلن لتأكيد النفى ، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعدتهم . وفى التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتوقية الإنكار . وقوله : { أَن يُمِدَّكُمْ } فى تأويل المصدر فاعل { يَكْفِيكُمْ } . و { مِّنَ الملائكة } بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه . و { مُنزَلِينَ } صفة لثلاثة آلاف ، وقيل حال من الملاكة " وقوله - تعالى - : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } إما من تتمة مقوله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، وإما ابتداء خطاب من الله - تعالى - تأييداً لقول نبيه صلى الله علهي وسلم وزيادة على ما وعدهم تكرما وفضلا .
وقوله : { بلى } إيجاب لما بعد " لن " أى ، بل يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف . ولكنه - سبحانه - يعدكم بأنكم { إِن تَصْبِرُواْ } على قتال أعدائكم وعلى كل ما أمركم الله بالصبر عليه ، وتتقوا . أى وتتقوا الله وتخشوه وتجتنبوا معاصيه { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا } أى ويأتوكم المشركون مسرعين ليحاربوكم ، وقد أعددتم أنفسكم لقتالهم ، إذا فعلتم ذلك .
{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } ، أى يمددكم ربكم بفضله ورعايته لكم بخمسة آلاف من الملائكة معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة .
وقرىء { مُسَوِّمِينَ } - بالفتح - أى معلمين من جهته - تعالى - بعلامات القتال . من التسويم وهو إظهار علامة الشىء .
قال صاحب الكشاف : وقوله { مِّن فَوْرِهِمْ هذا } من قولك : قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى ، وجاء فلان ورجع من فوره . ومنه قول أبى حنيفة - رحمه اله - : الأمر على الفور لا على التراخى ، وهو مصدر من فارت القدر إذا غلت ، فاستعير للسرعة ، ثم سميت به الحالة التى لا ريث فيها . فقيل : خرج من فوره كما تقول : خرج من ساعته . والمعنى : أنهم يأتونكم من ساعتهم هذه " .
هذا ، وقد تكلم العلماء هنا عن أمرين يتعلقان بهذه الآياتز
أما الأمر الأول فهو : هل أمد الله - تعالى - المؤمنين فى غزوة بدر بهذا العدد الذى ذكر فى هذه الآية ؟
والجواب على ذلك أن بعض المفسرين يرى أن الله - تعالى - قد أمد المؤمنين فى بدر بخمسة آلاف من الملائكة ، لأنهم صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فوراً حين استنفرهم أبو سفيان لإنقاذ العير ، فكان المدد خمسة آلاف على سبيل التدريج ، أى أمدوا أولا بألف ، ثم صاروا ألفين ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف لا غير ، وإلى هذا الرأى ذهب الحسن وقتادة .
وقال الشعبى : إن المدد لم يزد على الألف ، لأن المسلمين كان قد بلغهم أن كرز بن جابر المحاربى يريد أن يمد المشركين بسلاح وجند ، فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله - تعالى - : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ } إلى قوله { مُسَوِّمِينَ } فبلغ كرزا الهزيمة فرجع ولم يمدهم ، فلم يمد الله المسلمين بخمسة الآلاف أيضاً . أما ابن جرير فقد اختار أن المسلمين وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا به ، ولا يثبت شىء من ذلك إلا بنص . فقد قال - رحمه الله - :
" وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ثم وعدهم بعد الثلاثة الآلاف خمسة آلاف ، إن صبروا لأعدائهم واتقوا الله ، ولا دلالة فى الآية على أنهم أمدوا بالثلاثة آلاف ، ولا بالخمسة الآلاف ؛ ولا على أنهم لم يمدوا بهم .
وقد يجوز أن يكون الله - تعالى - أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدهم ، وقد يجوز أن يكون لم يمدهم ، على نحو الذى ذكره من أنكر ذلك وغير جائز أن يقال فى ذلك قول إلا بخبر توقم الحجة به ، ولا خبر به كذلك فنسلم لأحد الفريقين قوله . غير أن فى القرآن دلالة على أنهم أمدموا يوم بدر بألف . وذلك قوله - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } أما فى أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها فى أنهم أمدوا ، ذلك لأنهم لو أمدوا لم يهزموا ونيل منهم ما نيل منهم " .
والذى نراه أن رأى ابن جرير هو أقرب الآراء إلى الصواب .
وأما الأمر الثانى فهو : إذا كان الله - تعالى - قد أمد المؤمنين بالملائكة فى بدر ، فهل كانت وظيفتهم القتال مع المؤمنين أو كانت وظيفتهم تثبيت المؤمنين فقط ؟ والجواب على ذلك أن كثيرا من العلماء يرى أن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين .
قال القرطبى : تظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت .
ومن ذلك قول أبى أسيد مالك بن ربيعة وكان قد شهد بدرا : لو كنت معكم الآن ببدر ومعى بصرى لأريتكم الشعب - أى الطريق فى الجبل - الذى خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أمترى " .
وفى صحيح مسلم عن ابن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يوم بدر يشتد فى أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول : " أقدم حيزوم " فنظر المسلم إلى المشرك أمامه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه .
فجاء المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة .
ويرى فريق آخر من العلماء أن الملائكة ما قاتلت مع المسلمين يوم بدر ، وإنما أمد الله المؤمنين بالملائكة لتثبيت نفوسهم ، وتقوية قولبهم ، ولتخذيل المشركين ، وإلقاء الرعب فى قلوبهم ، فقد قال - تعالى - { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ويبدو أن الإمام ابن جرير الطبرى كان يميل إلى هذا الرأى فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } أى : قووا عزائمهم ، وصححوا نياتهم فى قتال عدوهم من المشركين ، وقيل : كان ذلك بمعونتهم إياهم بقتال أعدائهم " .
وقد حكى الألوسى عن أبى بكر الأصم أنه أنكر قتال الملائكة مع المؤمنين فى بدر وأنه قال : " إن الملك الواحد يكفى فى إهلاك سائر الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط وأيضا أى فائدة فى إرسال هذا الجمع من الملائكة معه وهو القوى الأمين . وأيضا فإن أكابر الكفار الذين قتلوا فى بدر عرف من قتلهم من المسلمين " .
ولم يرتض الألوسى ما قاله الأصم بل قال فى الرد عليه : ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ، ولا بمن يعترف بأنه - سبحانه - قادر على ما يشاء فعال لما يريد ، فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرص عن ذلك .
ثم قال الآلوسى فالواجب التسليم بكل ممكن جاء به النبى صلى الله عليه وسلم وتفويض ذلك وكيفيته إلى - الله - .
ونرى من كلام الآلوسلاى أنه يرجح الرأى القائل بأن الملائكة قد قاتلت مع المؤمنين فى غزوة بدر .
ونحن لا نرى مانعا من اشتراك الملائكة مع المؤمنين فى بدر لأن النصوص الواردة عن النبى صلى الله عليه وسلم صريحة فى ذلك ، ولسنا مع الذين يضعفون من شأن الأحاديث الصحيحة أو يؤولونها تأويلا لا يتفق مع العقل السليم .
ولقد سئل الإمام السبكى : ما الحكمة فى قتال الملائكة مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه ؟
فأجاب : بأن ذلك لإرادة أن يكون الفضل للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون الملائكة مددا على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب التى أجراها - سبحانه - فى عباده .
{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَىَ إِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هََذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلآفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوّمِينَ }
يعني تعالى ذكره : { وَلَقَدْ نَصَركُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وأنْتُمْ أذِلّةٌ } إذ تقول للمؤمنين بك من أصحابك : { ألَنْ يَكْفِيكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزلِينَ } ؟ وذلك يوم بدر .
ثم اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حربهم ، في أيّ يوم وعدوا ذلك ؟ فقال بعضهم : إن الله عزّ وجلّ كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدّهم بملائكته إن أتاهم العدوّ من فورهم ، فلم يأتوهم ، ولم يمدّوا . ذكر من قال ذلك :
حدثني حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : حدث المسلمون أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين ، قال : فشقّ ذلك على المسلمين ، فقيل لهم : { ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائكَةِ مُسَوّمِينَ } قال : فبلغت كرزا الهزيمة فرجع ، ولم يمدّهم بالخمسة .
حدثني ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : لما كان يوم بدر ، بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه ، إلا أنه قال : { وَيأتْوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } : يعني كرزا وأصحابه ، { يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ } قال : فبلغ كرزا وأصحابه الهزيمة ، فلم يمدّهم ، ولم تنزل الخمسة ، وأمدّوا بعد ذلك بألف ، فهم أربعة آلاف من الملائكة مع المسلمين .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قوله : { إذْ تَقُولُ للْمُؤْمِنِينَ ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ } . . . الاَية كلها ، قال : هذا يوم بدر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، قال : حدث المسلمون أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين ببدر ، قال : فشقّ ذلك على المسلمين ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمدّكُمْ رَبّكُمْ } . . . إلى قوله : { مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ } قال : فبلغته هزيمة المشركين فلم يمدّ أصحابه ، ولم يمدّوا بالخمسة .
وقال آخرون : كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر ، فصبر المؤمنون واتقوا الله ، فأمدّهم بملائكته على ما وعدهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي بكر ، عن بعض بني ساعدة ، قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول : لو كنت معكم ببدر الاَن ومعي بصري لأخبرتكم بالشّعْب الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أتمارى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق ، وثنى عبد الله بن أبي بكر ، عن بعض بني ساعدة ، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة ، وكان شهد بدرا أنه قال بعد إذ ذهب بصره : لو كنت معكم اليوم ببدر ، ومعي بصري ، لأريتكم الشّعْبَ الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس ، أن ابن عباس ، قال : ثني رجل من بني غفار ، قال : أقبلت أنا وابن عمّ لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ، ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدّبْرة ، فنتهب مع من ينتهب . قال : فبينا نحن في الجبل ، إذ دنت منا سحابة ، فسمعنا فيها حمحمة الخيل ، فسمعت قائلاً يقول : أقْدِمْ حيزوم ! قال : فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه ، فمات مكانه ، وأما أنا فكدت أهلك ، ثم تماسكت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : وثنى الحسين بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم ، مولى عبد الله بن الحرث ، عن عبد الله بن عباس ، قال : لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال محمد بن إسحاق ، حدثني أبي إسحاق بن يسار ، عن رجال من بني مازن بن النجار ، عن أبي داود المازني ، وكان شهد بدرا ، قال : إني لأتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت ن قد قتله غيري .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال محمد : ثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، قال : قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العباس ، وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ، ويكره أن يخالفهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه . وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلف عن بدر ، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة ، وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلاً . فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش ، كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوّة وعونة ، قال : وكنت رجلاً ضعيفا ، وكنت أعمل القداح أنحتها في حجرة زمزم . فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح ، وعندي أمّ الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ ، حتى جلس على طُنُب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهري ، فبينا هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ، قد قدم . قال : قال أبو لهب : هلم إليّ يا ابن أخي ، فعندك الخبر ! قال : فجلس إليه ، والناس قيام عليه ، فقال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس ! قال لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم ، فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالاً بيضا على خيل بلق ما بين السماء والأرض ما يليق لها شيء ، ولا يقوم لها شيء ، قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت : تلك الملائكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد ، قال : ثني الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، قال : كان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سَلِمة ، وكان أبو اليسر رجلاً مجموعا ، وكان العباس رجلاً جسيما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر : «كَيْفَ أسَرْتَ العَبّاسَ أبا اليُسْرِ ؟ » قال : يا رسول الله ، لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده ، هيئته كذا وكذا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ أعانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ } أمدّوا بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف . { بَلى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ } وذلك يوم بدر ، أمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبيه ، عن الربيع ، بنحوه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { يُمْدِدْكُمْ ربّكُمْ بخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ } فإنهم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم مسوّمين .
حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن خثيم ، عن مجاهد ، قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر .
وقال آخرون : إن الله عزّ وجلّ إنما وعدهم يوم بدر أن يمدّهم إن صبروا عند طاعته ، وجهاد أعدائه واتقوه باجتناب محارمه ، أن يمدْهم في حروبهم كلها ، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الأحزاب ، فأمدّهم حين حاصروا قريظة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبد الله بن موسى ، قال : أخبرنا سليمان بن زيد أبو آدم المحاربي ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، قال : كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم ، فلم يفتح علينا ، فرجعنا . فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يغسل رأسه ، إذ جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد وضعتم أسلحتكم ، ولم تضع الملائكة أوزارها ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة ، فلفّ بها رأسه ولم يغسله ، ثم نادى فينا ، فقمنا كالزمعين لا نعبأ بالسير شيئا ، حتى أتينا قريظة والنضير ، فيومئذٍ أمدّنا الله عزّ وجلّ بثلاثة آلاف من الملائكة ، وفتح الله لنا فتحا يسيرا ، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل .
وقال آخرون بنحو هذا المعنى ، غير أنهم قالوا : لم يصبر القوم ، ولم يتقوا ، ولم يمدّوا بشيء في أُحُد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : ثني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، سمعه يقول : { بَلى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } قال : يوم بدر قال : فلم يصبروا ولم يتقوا ، فلم يمدّوا يوم أُحُد ، ولو مدّوا لم يهزموا يومئذٍ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، قال : سمعت عكرمة يقول : لم يمدّوا يوم أحد ولا بملك واحد أو قال : إلا بملك واحد ، أبو جعفر يشكّ .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : سمعت عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : { ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ } إلى : { خَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ } كان هذا موعدا من الله يوم أحد ، عرضه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، ففرّ المسلمون يوم أحد ، وولوا مدبرين ، فلم يمدّهم الله .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { بَلى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } . . . الاَية كلها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ينظرون المشركين : يا رسول الله أليس يمدّنا الله كما أمدّنا يوم بدر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةٍ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ، وإنما أمدّكم يوم بدر بألف ؟ » قال : فجاءت الزيادة من الله على أن يصبروا ويتقوا ، قال : بشرط أن يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم . . . الاَية كلها .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين : { ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائكَةِ } ؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم ، ثم وعدهم بعد الثلاثة الاَلاف ، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم ، واتقوا الله . ولا دلالة في الاَية على أنهم أمدّوا بالثلاثة آلاف ، ولا بالخمسة آلاف ، ولا على أنهم لم يمدّوا بهم .
وقد يجوز أن يكون الله عزّ وجلّ أمدّهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدّهم . وقد يجوز أن يكون لم يمدّهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك ، ولا خبر عندنا صحّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمدّوا بالثلاثة الاَلاف ولا بالخمسة الاَلاف . وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به ، ولا خبر به كذلك فنسلم لأحد الفريقين قوله ، غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدّوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله : { إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } فأما في يوم أُحد ، فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدّوا ، وذلك أنهم لو أمدّوا لم يهزموا وينال منهم ما نيل منهم .
فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره . وقد بينا معنى الإمداد فيما مضى ، والمدد ، ومعنى الصبر والتقوى .
وأما قوله : { ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } فإن أهل التأويل اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : معنى قوله : { مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } : من وجههم هذا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث ، عن عكرمة ، قال : { وَيأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } قال : من وجههم هذا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } يقول : من وجههم هذا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد ، عن الحسن في قوله : { ويَأْتُوكُمْ مِنَ فَوْرِهِمْ هَذَا } : من وجههم هذا .
حُدثت عن عمار بن الحسن ، عن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } يقول : من وجههم هذا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { ويَأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } يقول : من وجههم هذا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } يقول : من سفرهم هذا ، ويقال : يعني عن غير ابن عباس ، بل هو من غضبهم هذا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } من وجههم هذا وقال آخرون : معنى ذلك : من غضبهم هذا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة في قوله : { ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ } قال : فورهم ذلك كان يوم أُحد ، غضبوا ليوم بدر مما لقوا .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا سهل بن عامر ، قال : حدثنا مالك بن مغول ، قال : سمعت أبا صالح مولى أمّ هانىء يقول : { مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } يقول : من غضبهم هذا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } قال : غضب لهم ، يعني الكفار ، فلم يقاتلوهم عند تلك الساعة ، وذلك يوم أُحد .
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : { مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } قال : من غضبهم هذا .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } يقول : من وجههم وغضبهم .
وأصل الفور : ابتداء الأمر يؤخذ فيه ، ثم يوصل بآخر ، يقال منه : فارت القدر فهي تفور فورا وفورانا : إذا ما ابتدأ ما فيها بالغليان ثم اتصل¹ ومضيت إلى فلان من فوري ذلك ، يراد به : من وجهي الذي ابتدأت فيه .
فالذي قال في هذه الاَية : معنى قوله : { مِنْ فَوْرِهِم هَذَا } : من وجههم هذا ، قصد إلى أن تأويله : ويأتيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر ، من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين .
وأما الذين قالوا : معنى ذلك : من غضبهم هذا ، فإنما عنوا أن تأويل ذلك : ويأتيكم كفار قريش وتُبّاعهم يوم أُحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها { يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ } . كذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله { ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } اختلف أهل التأويل في إمداد الله المؤمنين بأحد بملائكته ، فقال بعضهم : لم يمدّوا بهم ، لأن المؤمنين لم يصبروا لأعدائهم ، ولم يتقوا الله عزّ وجلّ بترك من ترك من الرماة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوته في الموضع الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه ، ولكنهم أخلوا به طلبا للغنائم ، فقتل من المسلمين ، ونال المشركون منهم ما نالوا . وإنما كان الله عزّ وجلّ وعد نبيه صلى الله عليه وسلم إمدادهم بهم إن صبروا واتقوا الله .
وأما الذين قالوا : كان ذلك يوم بدر بسبب كرز بن جابر ، فإن بعضهم قالوا : لم يأت كرز وأصحابه إخوانهم من المشركين مددا لهم ببدر ، ولم يمدّ الله المؤمنين بملائكته ، لأن الله عزّ وجلّ إنما وعدهم أن يمدّهم بملائكته إن أتاهم كرز ومدد المشركين من فورهم ، ولم يأتهم المدد .
وأما الذين قالوا : إن الله تعالى ذكره أمدّ المسلمين بالملائكة يوم بدر ، فإنهم اعتلوا بقول الله عزّ وجلّ : { إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } ، قال : فالألف منهم قد أتاهم مددا ، وإنما الوعد الذي كانت فيه الشروط فيما زاد على الألف ، فأما الألف فقد كانوا أمدّوا به ، لأن الله عزّ وجلّ كان قد وعدهم ذلك ، ولن يخلف الله وعده .
واختلف القراء في قراءة قوله : { مُسَوّمِينَ } فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة : «مُسَوّمِينَ » بفتح الواو ، بمعنى أن الله سوّمها . وقرأ ذلك بعض قراء أهل الكوفة والبصرة : { مُسَوّمِينَ } بكسر الواو ، بمعنى أن الملائكة سوّمت لنفسها .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الواو ، لتظاهر الأخبار عن ( أصحاب ) رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل التأويل منهم ومن التابعين بعدهم ، بأن الملائكة هي التي سوّمت أنفسها من غير إضافة تسويمها إلى الله عزّ وجلّ أو إلى غيره من خلقه .
ولا معنى لقول من قال : إنما كان يختار الكسر في قوله : { مُسَوّمِينَ } لو كان في البشر ، فأما الملائكة فوصفهم غير ذلك ظنا منه بأن الملائكة غير ممكن فيها تسويم أنفسها إن كانوا ذلك في البشر وذلك أن غير مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها بحقّ تمكينه البشر من تسويم أنفسهم ، فسوموا أنفسهم بحقّ الذي سوّم البشر طلبا منها بذلك طاعة ربها ، عن فأضيف تسويمها أنفسها إليها ، وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه ، وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسها تقرّبا منها إلى ربها ، كان أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها .
ذكر الأخبار بما ذكرنا من إضافة من أضاف التسويم إلى الملائكة دون إضافة ذلك إلى غيرهم ، على نحو ما قلنا فيه :
حدثني يعقوب ، قال : أخبرنا ابن علية ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن عمير بن إسحاق ، قال : إن أوّل ما كان الصوف ليومئذٍ ، يعني يوم بدر ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تَسَوّمُوا فإنّ المَلائِكَةَ قَدْ تَسَوّمَتْ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مختار بن غسان ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل ، عن الزبير بن المنذر ، عن جده أبي أسيد ، وكان بدريا ، فكان يقول : لو أن بصري معي ثم ذهبتم معي إلى أُحد ، لأخبرتكم بالشّعب الذي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ } يقول : معلمين ، مجزوزة أذناب خيلهم ونواصيها ، فيها الصوف أو العهن ، وذلك التسويم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله : { بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ } قال : مجزوزة أذنابها وأعرافها ، فيها الصوف أو العهن ، فذلك التسويم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { مُسَوّمِينَ } ذكر لنا أن سيماها يومئذٍ الصوف بنواصي خيلهم وأذنابهم ، وأنهم على خيل بلق .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { مُسَوّمِينَ } قال : كان سمياها صوفا في نواصيها .
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن ليث ، عن مجاهد ، أنه كان يقول : { مُسَوّمينَ } قال : كانت خيولهم مجزوزة الأعراف ، معلمة نواصيها وأذنابها بالصوف والعهن .
حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : كانوا يومئذٍ على خيل بلق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، وبعض أشياخنا ، عن الحسن ، نحو حديث معمر ، عن قتادة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { مُسَوّمِينَ } : معلمين .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { بِخَمْسَةِ آلافِ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ } فإنهم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، مسوّمين بالصوف ، فسوّم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن يمان ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عباد بن حمزة ، قال : نزلت الملائكة في سيما الزبير ، عليهم عمائم صفر ، وكانت عمامة الزبير صفراء .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { مُسَوّمِينَ } قال : بالصوف في نواصيها وأذنابها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن هشام بن عروة ، قال : نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق ، عليهم عمائم صفر ، وكان على الزبير يومئذٍ عمامة صفراء .
حدثني أحمد بن يحيى الصوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير : أن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء يوم بدر ، فاعتمّ بها ، فنزلت الملائكة يوم بدر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم معممين بعمائم صفر .
فهذه الأخبار التي ذكرنا بعضها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه : «تَسَوّمُوا فإنّ المَلائِكَةَ قَدْ تَسَوّمَتْ » وقول أبي أسيد : خرجت الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم ، وقول من قال منهم : { مُسَوّمِينَ } : معلمين ، ينبىء جميع ذلك عن صحة ما اخترنا من القراءة في ذلك ، وأن التسويم كان من الملائكة بأنفسها ، على نحو ما قلنا في ذلك فيما مضى . وأما الذين قرءوا ذلك «مسوّمين » بالفتح ، فإنهم أراهم تأوّلوا في ذلك ما :
حدثنا به حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث ، عن عكرمة : «بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ » يقول : عليهم سيما القتال .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : «بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ » يقول : عليهم سيما القتال ، وذلك يوم بدر ، أمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، يقول : عليهم سيما القتال .
فقالوا : كان سيما القتال عليهم ، لا أنهم كانوا تسوّموا بسيما فيضاف إليهم التسويم ، فمن أجل ذلك قرءوا : «مُسَوّمِينَ » بمعنى أن الله تعالى أضاف التسويم إلى من سوّمهم تلك السيما . والسيما : العلامة ، يقال : هي سيما حسنة ، وسيمياء حسنة ، كما قال الشاعر :
غُلامٌ رَماهُ اللّهُ بالحُسْنِ يافِعا *** لَهُ سِيمياءُ لا تَشُقّ على البَصَرْ
يعني بذلك علامة من حسن . فإذا أعلم الرجل بعلامة يعرف بها في حرب أو غيره ، قيل : سوّم نفسه ، فهو يسوّمها تسويما .
ولأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قِبَل السائل بقوله : { بلى } لأنّه ممَّا لا تسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } في سورة [ الأنعام : 19 ] ، فكان ( بلى ) إبطالاً للنفي ، وإثباتاً لكون ذلك العدد كافياً ، وهو من تمام مقالة النَّبيء للمؤمنين .
وقد جاء في سورة الأنفال [ 9 ] عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله : { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين } .
وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف . ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف . ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزّيادة بقوله : { مردفين } [ الأنفال : 9 ] أي مردَفيْن بعدد آخر ، ودلّ كلامه هنا على أنَّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدوّ ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين » أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثمّ زادهم ألفين إن صبروا واتَّقوا . وبهذا الوجه فسّر الجمهور ، وهو الذي يقتضيه السياق . وقد ثبت أنّ الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين ، وشاهد بعض الصّحابة طائفة منهم ، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالاً من المشركين .
ووصف الملائكة بمُنْزَلين للدلالة على أنَّهم يَنزلون إلى الارض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى : { ما تَنَزَّل الملائكة إلاّ بالحق } [ الحجر : 8 ] .
وقرأ الجمهور : مُنْزلين بسكون النُّون وتخفيف الزاي وقرأه ابن عامر بفتح النُّون وتشديد الزاي . وأنزل ونزّل بمعنى واحد .
فالضميران : المرفوعُ والمجرور ، في قوله : { ويأتوكم من فورهم } عائدان إلى الملائكة الَّذين جرى الكلام عليهم ، كما هو الظاهر ، وعلى هذا حمله جمع من المفسّرين .
وعليه فموقع قوله : { ويأتوكم } موقع وعد ، فهو المعنى معطوف على { يمددكم ربكم } وكان حقّه أن يرِد بعده ، ولكنَّه قدّم على المعطوف عليه ، تعجيلاً للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين ، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه ، وإذا جاز ذلك التَّقديم في عطف المفردات كما في قول صَنَّان بن عَبَّاد اليَشْكُرِي :
ثمّ اشتَكَيْتُ لأَشْكانِي وسَاكنُه *** قَبْرٌ بِسِنْجَارَ أوْ قبر على قَهَدِ
قال ابن جنّي في شرح أبيات الحماسة : قدّم المعطوف على المعطوف عليه ، وحَسَّنه شدّة الاتِّصال بين الفعل ومرفوعه ( أي فالعامل وهو الفعل آخذ حظَّه من التقديم ولا التفات لكون المعطوففِ عليه مؤخّراً عن المعطوف ) ولو قلت : ضربت وزيداً عمراً كان أضعف ، لأنّ اتّصال المفعول بالفعل ليس في قوّة اتّصال الفاعل به ، ولكن لو قلت : مررت وزيد بعمرو ، لم يجز من جهة أنَّك لم تقدم العامل ، وهو الباء ، على حرف العطف . ومن تقديم المفعول به قول زيد :
جمعتَ وعيباً غِيبةً ونَمِيمَةً *** ثلاثَ خصال لستَ عنها بمُرْعوِيْ
لعن الإلهُ وزوجَها مَعَها *** هِنْدَ الهنود طَوِيلَةَ الفعل
ولا يجوز وعيباً جمعت غيبة ونميمة . وأمَّا قوله
فممَّا قرب مأخذه عن سيبويه ، ولكن الجماعة لم تتلقّ هذا البيت إلاّ على اعتقاد التَّقديم فيه ، ووافقه المرزوقي على ذلك ، وليس في كلامهما أن تقديم المعطوف في مثل ما حسُن تقديمه فيه خاص بالضرورة في الشعر ، فلذلك خرّجنا عليه هذا الوجه في الآية وهو من عطف الجمل ، على أن عطف الجمل أوسع من عطف المفردات لأنَّه عطف صوري .
ووقع في « مغني اللبيب » في حرف الواو أنّ تقديم معطوفها على المعطوف عليه ضرورة ، وسبقه إلى ذلك ابن السِّيد في شرح أبياتِ الجمل ، والتفتزاني في شرح المفتاح ، كما نقله عنه الدماميني في « تحفة الغريب » .
وجعل جمع من المفسّرين ضميري الغيبة في قوله : { ويأتوكم من فورهم } عائديْن إلى طائفة من المشركين ، بلغ المسلمين أنَّهم سيمدّون جيش العدوّ يوم بدر ، وهم كرز بن جابر المحاربي ، ومن معه ، فشقّ ذلك على المسلمين وخافوا ، فأنزل الله تعالى : { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم } الآية ، وعليه درج « الكشاف » ومتابعوه . فيكون معادُ الضّميرين غير مذكور في الكلام ، ولكنَّه معلوم للنَّاس الَّذين حضروا يوم بدر ، وحينئذ يكون { يأتوكم } معطوفاً على الشرط : أي إن صبرتم واتّقيتم وأتاكم كرز وأصحابه يعاونون المشركين عليكم يمددكم ربّكم بأكثر من ألف ومن ثلاثة آلاف بخمسة آلاف ، قالوا فبلغت كرزاً وأصحابه هزيمة المشركين يوم بدر فعدل عن إمدادهم فلم يمدّهم الله بالملائكة ، أي بالملائكة الزائدين على الألف . وقيل : لم يمدّهم بملائكة أصلاً ، والآثار تشهد بخلاف ذلك .
وذهب بعض المفسّرين الأوّلين : مثل مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والزهري : إلى أن القول المحكي في قوله تعالى : { إذ تقول للمؤمنين } قول صادر يوم أحُد ، قالوا وعدهم الله بالمدد من الملائكة على شرط أن يصبروا ، فلمّا لم يصبروا واستَبَقُوا إلى طلب الغنيمة لم يمددهم الله ولا بملَك واحد ، وعلى هذا التفسير يكون { إذ تقول المؤمنين } بدلاً من { وإذ غَدَوْت } وحينئذ يتعيّن أن تكون جملة { ويأتوكم } مقدمة على المعطوفة هي عليها ، للوجه المتقدّم من تحقيق سرعة النَّصر ، ويكون القول في إعراب { ويأتوكم } على ما ذكرناه آنفاً من الوجهين .
ومعنى { من فورهم هذا } المبادرة السَّريعة ، فإنّ الفور المبادرة إلى الفعل ، وإضافة الفور إلى ضمير الآتين لإفادة شدّة اختصاص الفَور بهم ، أي شدّة اتّصافهم به حتَّى صار يعرف بأنَّه فورهم ، ومن هذا القبيل قولهم خرج من فوره . و ( من ) لابتداء الغاية .
والإشارة بقوله ( هذا ) إلى الفور تنزيلاً له منزلة المشاهد القريب ، وتلك كناية أو استعادة لكونه عاجلاً .
{ ومسوّمين } قرأه الجمهور بفتح الواو على صيغة اسم المفعول من سوّمه ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، ويعقوب بكسر الواو بصيغة اسم الفاعل . وهو مشتقّ من السُّومة بضم السين وهي العلامة مقلوب سمة لأنّ أصل سمة وسمة . وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملوّن ، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه ، يرمز بها إلى أنَّه لا يتّقي أن يعرفه أعداؤه ، فيسدّدوا إليه سهامهم ، أو يحملون عليه بسيوفهم ، فهو يرمز بها إلى أنَّه واثق بحمايته نفسه بشجاعته ، وصِدققِ لقائه ، وأنَّه لا يعبأ بغيره من العدوّ .
وتقدّم الكلام عليها في تفسير قوله تعالى : { والخيل المسومة } [ آل عمران : 14 ] في أوّل هذه السورة . وصيغة التفعيل والاستفعال تكثران في اشتقاق الأفعال من الأسماء الجامدة .
ووصف الملائكة بذلك كناية على كونهم شداداً .
وأحسب أنّ الأعداد المذكورة هنا مناسبة لجيش العدوّ لأنّ جيش العدوّ يوم بدر كان ألفاً فوعدهم الله بمدد ألف من الملائكة فلمَّا خشُوا أن يلحق بالعدوّ مدد من كُرْز المحاربي . وعدهم الله بثلاثة آلاف أي بجيش له قلب .
وميمنة وميسرة كلّ ركن منها ألف ، ولمَّا لم تنقشع خشيتهم من إمداد المشركين لأعدائهم وعدهم الله بخمسة آلاف ، وهو جيش عظيم له قلب وميمنة وميسرة ومقدّمة وساقة ، وذلك هو الخميس ، وهو أعظم تركيباً وجعل كُلّ ركن منه مساوياً لجيش العدوّ كلّه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حربهم، في أيّ يوم وعدوا ذلك؟
فقال بعضهم: إن الله عزّ وجلّ كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدّهم بملائكته إن أتاهم العدوّ من فورهم، فلم يأتوهم، ولم يمدّوا...
وقال آخرون: كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر، فصبر المؤمنون واتقوا الله، فأمدّهم بملائكته على ما وعدهم...
وقال آخرون: إن الله عزّ وجلّ إنما وعدهم يوم بدر أن يمدّهم إن صبروا عند طاعته، وجهاد أعدائه واتقوه باجتناب محارمه، أن يمدْهم في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الأحزاب، فأمدّهم حين حاصروا قريظة... وقال آخرون بنحو هذا المعنى، غير أنهم قالوا: لم يصبر القوم، ولم يتقوا، ولم يمدّوا بشيء في أُحُد...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين: {ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائكَةِ}؟ فوعدهم الله بثلاثة آلاف من الملائكة مددا لهم، ثم وعدهم بعد الثلاثة الاَلاف، خمسة آلاف إن صبروا لأعدائهم، واتقوا الله. ولا دلالة في الآية على أنهم أمدّوا بالثلاثة آلاف، ولا بالخمسة آلاف، ولا على أنهم لم يمدّوا بهم. وقد يجوز أن يكون الله عزّ وجلّ أمدّهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أنه أمدّهم. وقد يجوز أن يكون لم يمدّهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك، ولا خبر عندنا صحّ من الوجه الذي يثبت أنهم أمدّوا بالثلاثة الاَلاف ولا بالخمسة الاَلاف. وغير جائز أن يقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر به كذلك فنسلم لأحد الفريقين قوله، غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدّوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} فأما في يوم أُحد، فالدلالة على أنهم لم يمدّوا أبين منها في أنهم أمدّوا، وذلك أنهم لو أمدّوا لم يهزموا وينال منهم ما نيل منهم. فالصواب فيه من القول أن يقال كما قال تعالى ذكره. وقد بينا معنى الإمداد فيما مضى، والمدد، ومعنى الصبر والتقوى.
وأما قوله: {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} فإن أهل التأويل اختلفوا فيه، فقال بعضهم: معنى قوله: {مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا}: من وجههم هذا... وقال آخرون: معنى ذلك: من غضبهم هذا... وأصل الفور: ابتداء الأمر يؤخذ فيه، ثم يوصل بآخر، يقال منه: فارت القدر فهي تفور فورا وفورانا: إذا ما ابتدأ ما فيها بالغليان ثم اتصل ومضيت إلى فلان من فوري ذلك، يراد به: من وجهي الذي ابتدأت فيه. فالذي قال في هذه الآية: معنى قوله: {مِنْ فَوْرِهِم هَذَا}: من وجههم هذا، قصد إلى أن تأويله: ويأتيكم كرز بن جابر وأصحابه يوم بدر، من ابتداء مخرجهم الذي خرجوا منه لنصرة أصحابهم من المشركين. وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من غضبهم هذا، فإنما عنوا أن تأويل ذلك: ويأتيكم كفار قريش وتُبّاعهم يوم أُحد من ابتداء غضبهم الذي غضبوه لقتلاهم الذين قتلوا يوم بدر بها {يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ}. كذلك من اختلاف تأويلهم في معنى قوله {ويَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} اختلف أهل التأويل في إمداد الله المؤمنين بأحد بملائكته، فقال بعضهم: لم يمدّوا بهم، لأن المؤمنين لم يصبروا لأعدائهم، ولم يتقوا الله عزّ وجلّ بترك من ترك من الرماة طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوته في الموضع الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبوت فيه، ولكنهم أخلوا به طلبا للغنائم، فقتل من المسلمين، ونال المشركون منهم ما نالوا. وإنما كان الله عزّ وجلّ وعد نبيه صلى الله عليه وسلم إمدادهم بهم إن صبروا واتقوا الله. وأما الذين قالوا: كان ذلك يوم بدر بسبب كرز بن جابر، فإن بعضهم قالوا: لم يأت كرز وأصحابه إخوانهم من المشركين مددا لهم ببدر، ولم يمدّ الله المؤمنين بملائكته، لأن الله عزّ وجلّ إنما وعدهم أن يمدّهم بملائكته إن أتاهم كرز ومدد المشركين من فورهم، ولم يأتهم المدد. وأما الذين قالوا: إن الله تعالى ذكره أمدّ المسلمين بالملائكة يوم بدر، فإنهم اعتلوا بقول الله عزّ وجلّ: {إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}، قال: فالألف منهم قد أتاهم مددا، وإنما الوعد الذي كانت فيه الشروط فيما زاد على الألف، فأما الألف فقد كانوا أمدّوا به، لأن الله عزّ وجلّ كان قد وعدهم ذلك، ولن يخلف الله وعده. واختلف القراء في قراءة قوله: {مُسَوّمِينَ} فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة: «مُسَوّمِينَ» بفتح الواو، بمعنى أن الله سوّمها. وقرأ ذلك بعض قراء أهل الكوفة والبصرة: {مُسَوّمِينَ} بكسر الواو، بمعنى أن الملائكة سوّمت لنفسها. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الواو، لتظاهر الأخبار عن (أصحاب) رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل التأويل منهم ومن التابعين بعدهم، بأن الملائكة هي التي سوّمت أنفسها من غير إضافة تسويمها إلى الله عزّ وجلّ أو إلى غيره من خلقه. ولا معنى لقول من قال: إنما كان يختار الكسر في قوله: {مُسَوّمِينَ} لو كان في البشر، فأما الملائكة فوصفهم غير ذلك ظنا منه بأن الملائكة غير ممكن فيها تسويم أنفسها إن كانوا ذلك في البشر وذلك أن غير مستحيل أن يكون الله عز وجل مكنها من تسويم أنفسها بحقّ تمكينه البشر من تسويم أنفسهم، فسوموا أنفسهم بحقّ الذي سوّم البشر طلبا منها بذلك طاعة ربها، عن فأضيف تسويمها أنفسها إليها، وإن كان ذلك عن تسبيب الله لهم أسبابه، وهي إذا كانت موصوفة بتسويمها أنفسها تقرّبا منها إلى ربها، كان أبلغ في مدحها لاختيارها طاعة الله من أن تكون موصوفة بأن ذلك مفعول بها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {مسومين} قيل: {منزلين} و {مسومين} سواء، وهو من الإرسال والتسويم، وقيل: معلمين بعلامة، وذلك، والله أعلم، ليعلم المؤمنون حاجتهم إلى العلامة، لا أن الملائكة يحتاجون إلى العلامة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 124]
كان تسكينُ الحقِّ سبحانه لقلبِ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة من الله -سبحانه، والربطُ على قلوب المؤمنين بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم- فلولا بقية بقيت عليهم ما ردَّهم في حديث النصرة إلى إنزال المَلَك، وأنَّى بحديث المَلَك -والأمرُ كلُّه بِيَدِ المَلِك؟!...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{بلى} إيجاب لما بعد لن، بمعنى: بل يكفيكم الإمداد بهم، فأوجب الكفاية ثم قال: {وإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} يمددكم بأكثر من ذلك العدد مسوّمين للقتال {وَيَأْتُوكُمْ} يعني المشركين {مّن فَوْرِهِمْ هذا} من قولك: قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى، وجاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول أبي حنيفة رحمه الله: الأمر على الفور لا على التراخي، وهو مصدر من: فارت القدر، إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها؛ فقيل: خرج من فوره، كما تقول: خرج من ساعته، لم يلبث. والمعنى: أنهم إن يأتوكم من ساعتهم هذه {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم، يريد: أنّ الله يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
المسألة الأولى: قيل نزلت يوم أُحد، وقيل يوم بدر، والصحيح يوم بدر، وعليه يدل ظاهر الآية.
المسألة الثانية: قال علماؤنا: أول أمر الصّوف يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تسوّموا فإنَّ الملائكةَ قد تسوّمت»، وكان على الزبير ذلك اليوم عمامة صفْراء، فنزلت الملائكةُ ذلك اليوم على صِفَته؛ نزلوا عليهم عمائم صُفْر، وقد طرحوها بين أكتافهم.
وقال ابنُ عباس: نزلت الملائكة مسوّمين بالصوف؛ فأمر محمدٌ صلى الله عليه وسلم أصحابَه فسوَّمُوا أنفسهم وخيْلَهم بالصوف.
وقال مجاهد: جاءت الملائكةُ مجزوزة أذنابُ خَيْلهم ونواصيها.
المسألة الثالثة: الاشتهار بالعلامة في الحرب سنَّة ماضية، وهي هيئة باهِيَة قُصد بها الهيبة على العدوّ، والإغلاظ على الكفار، والتحريض للمؤمنين. والأعمال بالنيات. وهذا من باب الجليات لا يفتقر إلى برهان.
المسألة الرابعة: هذا يدلُّ على لباسِ الثوب الأصفر وحُسْنِه، ولولا ذلك لما نزلت الملائكةُ به ...
المسألة الخامسة: أما قول مجاهد في جَزّ النواصي والأذناب فضعيف لم يصحّ؛ كيف وقد قال النبيّ عليه السلام في الخبر الصحيح: «الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم». وهذا إنْ صح تعضُده المشاهدةُ فيها. والله أعلم.
الفور: مصدر من: فارت القدر إذا غلت، قال تعالى: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} [هود: 40] قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال جاء فلان ورجع من فوره، ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي، والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 124]
نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
... نظمُ إتيانِهم بسرعة في سلك شرطَي الإمداد المستتبِعَيْن له وجوداً وعدماً -أعني الصبرَ والتقوى مع تحقق الإمدادِ لا محالةَ سواءٌ أسرعوا أو أبطأوا- لتحقيق أصلِه أو لبيانِ تحقّقِه على أي حال فُرِضَ، على أبلغ وجهٍ وآكَدِه بتعليقه بأبعدِ التقاديرِ ليُعلم تحقُّقُه على سائرها بالطريق الأوْلى، فإن هجومَ الأعداءِ وإتيانَهم بسرعة من مظانّ عدمِ لُحوق المددِ عادةً، فعُلِّق به تحققُ الإمدادِ إيذاناً بأنه حيث تحقق مع ما ينافيه عادةً فلأَنْ يتحقَّقَ بدونه أولى وأحرى كما إذا أردتَ وصفَ درعٍ بغاية الحَصانة تقول: إن لبستَها وبارزتَ بها الأعداءَ فضربوك بأيدٍ شدادٍ وسيوفٍ حِدادٍ لم تتأثرْ منها قطعاً...
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
... ذلك تأنيس وإذن في وجه من القتال مخصوص، وإلا فالملك الواحد بقتلهم جميعاً بمرة، أو يقلع الأرض من أسفلها، والله قادر أن يقتلهم في أقل من لحظة بلا قاتل، ولكنه يجرى الأمر على ما يشاء وبصورة الأسباب، وكانوا يقولون للمؤمنين، عدوكم قليل والله معكم ويظهرون للناس، وربما عرفهم المسلمون، وهذه حكمته...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أما معنى هذا الإمداد بالملائكة فهو من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم أو عدتهم وقوتهم ولو النفسية وهذا هو الظاهر، وهاك بيانه. الإمداد من المد، والمد في الأصل عبارة عن بسط الشيء كمد اليد والحبل أو عن الزيادة في مادته كمد النهر بنهر أو سيل آخر. قال تعالى: {أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات} [المؤمنون: 55- 56]؟ فالإمداد يكون بالمال وهو ما يتمول وينتفع به ويكون بالأشخاص. والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحة التي تثبتها وتقوي عزيمتها، ولذلك قال عز وجل: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
شرط الله لإمدادهم ثلاثة شروط: الصبر، والتقوى، وإتيان المشركين من فورهم هذا، فهذا الوعد بإنزال الملائكة المذكورين وإمدادهم بهم، وأما وعد النصر وقمع كيد الأعداء فشرط الله له الشرطين الأولين كما تقدم في قوله: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أبلغهم كذلك شرط هذا المدد.. إنه الصبر والتقوى؛ الصبر على تلقي صدمة الهجوم، والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لأجل كون الاستفهام غير حقيقي كان جوابه من قِبَل السائل بقوله: {بلى} لأنّه ممَّا لا تسع المماراة فيه كما سيأتي في قوله تعالى: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} في سورة [الأنعام: 19]، فكان (بلى) إبطالاً للنفي، وإثباتاً لكون ذلك العدد كافياً، وهو من تمام مقالة النَّبيء للمؤمنين. وقد جاء في سورة الأنفال [9] عند ذكره وقعة بدر أن الله وعدهم بمدد من الملائكة عدده ألف بقوله: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدّكم بألف من الملائكة مردفين}. وذكر هنا أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بثلاثة آلاف ثُمّ صيّرهم إلى خمسة آلاف. ووجه الجمع بين الآيتين أنّ الله وعدهم بألف من الملائكة وأطمعهم بالزّيادة بقوله: {مردفين} [الأنفال: 9] أي مردَفيْن بعدد آخر، ودلّ كلامه هنا على أنَّهم لم يزالوا وجلين من كثرة عدد العدوّ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم « ألن يكفيكم أن يمدّكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين» أراد الله بذلك زيادة تثبيتهم ثمّ زادهم ألفين إن صبروا واتَّقوا. وبهذا الوجه فسّر الجمهور، وهو الذي يقتضيه السياق. وقد ثبت أنّ الملائكة نزلوا يوم بدر لنصرة المؤمنين، وشاهد بعض الصّحابة طائفة منهم، وبعضهم شهد آثار قتلهم رجالاً من المشركين. ووصف الملائكة بمُنْزَلين للدلالة على أنَّهم يَنزلون إلى الارض في موقع القتال عناية بالمسلمين قال تعالى: {ما تَنَزَّل الملائكة إلاّ بالحق} [الحجر: 8].
وقرأ الجمهور: مُنْزلين بسكون النُّون وتخفيف الزاي وقرأه ابن عامر بفتح النُّون وتشديد الزاي. وأنزل ونزّل بمعنى واحد. فالضميران: المرفوعُ والمجرور، في قوله: {ويأتوكم من فورهم} عائدان إلى الملائكة الَّذين جرى الكلام عليهم، كما هو الظاهر، وعلى هذا حمله جمع من المفسّرين. وعليه فموقع قوله: {ويأتوكم} موقع وعد، فهو المعنى معطوف على {يمددكم ربكم} وكان حقّه أن يرِد بعده، ولكنَّه قدّم على المعطوف عليه، تعجيلاً للطمأنينة إلى نفوس المؤمنين، فيكون تقديمه من تقديم المعطوف على المعطوف عليه...
{ومسوّمين}... مشتقّ من السُّومة بضم السين وهي العلامة مقلوب سمة لأنّ أصل سمة وسمة. وتطلق السومة على علامة يجعلها البطل لنفسه في الحرب من صوف أو ريش ملوّن، يجعلها على رأسه أو على رأس فرسه، يرمز بها إلى أنَّه لا يتّقي أن يعرفه أعداؤه، فيسدّدوا إليه سهامهم، أو يحملون عليه بسيوفهم، فهو يرمز بها إلى أنَّه واثق بحمايته نفسه بشجاعته، وصِدقِ لقائه، وأنَّه لا يعبأ بغيره من العدوّ.
يبين سبحانه وتعالى كيفية إصلاح جهاز الاستقبال لتلقي مدد الله فيقول: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا...} إن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر، وهنا في أُحد لم تصبروا؛ فساعة أن رأيتم الغنائم سال لعابكم فلم تصبروا عنها، ولم تتقوا أمر الله المبلغ على لسان رسوله في التزام أماكنكم.. فكيف تكونون أهلاً للمدد؟ إذن من الذي يحدد المدد؟ إن الله هو الذي يعطي المدد، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟ إنه القادر على الصبر والتقوى. إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب. لا تقل عدداً ولا عدة. لذلك قال ربنا لنا: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ} ولم يقل: أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم، لا. أنتم تعدون ما في استطاعتكم، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت.. فالله هو الذي يكملكم بالنصر...