غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{بَلَىٰٓۚ إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (125)

121

ثم قيل لهم : إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف . وهو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : " أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة ؟ قالوا : نعم . قال : أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ قالوا : نعم . قال : فإني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " . وأيضاً لعل أهل بدر أمدوا بألف ، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعد كثير فخافوا وشق ذلك عليهم لقلة عددهم فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة . ثم إنه لم يأت قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف .

قالوا : إن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً والمسلمون على الثلث منهم فأنزل الله ألفاً من الملائكة بعدد الكفار ، وأما يوم أحد فكان عدد المسلمين ألفاً وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فلا جرم أنزل الله ثلاثة آلاف من الملائكة بعدد الكفار أيضاً ، ثم وعدهم أن يجعل الثلاثة الآلاف خمسة آلاف إن صبروا واتقوا . وأجيب بأن هذا تقريب حسن ولكنه لا يغلب على الظن أن يكون الأمر كذلك . قالوا : قال تعالى : { ويأتوكم من فورهم } ويوم أحد هو الذي كان يأتيهم الأعداء ، أما يوم بدر فهم ذهبوا إلى الأعداء . وأجيب بأن المشركين لما سمعوا يوم بدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير ، ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى أنهم إن أتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف . ثم قالوا في وجه النظم إنه تعالى ذكر قصة أحد ثم قال : { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي يجب أن يكون توكلكم على الله لا على كثرة عددكم وعددكم { ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة } ثم عاد إلى قصة أحد . ثم إنزال خمسة آلاف كان مشروطاً بشرط أن يصبروا ويتقوا . ثم إنهم لم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا بل خالفوا أمر الرسول ، فلما مات الشرط لا جرم فات المشروط . وأما إنزال ثلاثة آلاف فإنه صلى الله عليه وسلم وعدهم ذلك بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد ، فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط . روى الواقدي عن مجاهد أنه قال : حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أعطى اللواء مصعب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تقدم يا مصعب . فقال الملك : لست بمصعب . فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك أمد به . وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهم يومئذٍ فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه ، فظننت أنه ملك . هذا حاصل تقرير القولين . واختلفوا أيضاً في عدد الملائكة فمنهم من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد لأن الوعد بإمداد الثلاثة الآلاف لا شرط فيه ، والوعد بإمداد خمسة الآلاف مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم فهما متغايران وعلى هذا إن حملنا الآية على قصة بدر وقد ورد فيها ذكر الألف في موضع آخر فيكون المجموع تسعة آلاف ، وإن حملناها على قصة أحد كان الجميع ثمانية آلاف . ومنهم من أدخل الناقص في الزائد فقال : وعدوا بألف ثم زيد ألفان فصح أن يقال : وعدوا بثلاثة آلاف .

ثم زيد ألفان آخران فوعدوا بخمسة آلاف . وأجمع أهل التفسير وأرباب السير أنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار . وعن ابن عباس أنه لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر ، وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون . ومنهم من قال : إن نصر الملائكة بإلقاء الرعب في قلوب الكفار وبإشعار المؤمنين بأن النصرة لهم . وأما أبو بكر الأصم فقد أنكر إمداد الملائكة وقال : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط ، فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ، وبتقدير حضوره فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟ وأيضاً فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم . وأيضاً لو قاتلوا فإما أن يكون بحيث يراهم الناس أولاً ، وعلى الأول كان المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك ، ولأنه خلاف قوله { ويقللكم في أعينهم }[ الأنفال :44 ] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ألبتة . وعلى الثاني كان يلزم جز الرؤوس وتمزيق البطون وإسقاط الكفار عن الأفراس من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف . وأيضاً إنهم لو كانوا أجساماً كثيفة وجب أن يراهم الكل ، وإن كانوا أجساماً لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخبول ؟

واعلم أن هذه الشبة لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة وبمن يدعي التمسك بها ويعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فاعل لما يريد ، فما كان يليق بالأصم إيرادها مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الإخبار قريب من التواتر . روى عبيد بن عمير قال : لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون : لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر . والتحقيق في هذا المقام أن التكليف ينافي الإلجاء ، وأنه تعالى قادر على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك أو بلا سبب ، وكذا على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم عليه ، لكنه لما أراد إشادة هذا الدين على مهل وتدريج بواسطة الدعوة بطريق الابتلاء والتكليف ، فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى ، وله الحكم في الآخرة والأولى . والحاصل أن إهلاك قوم لوط كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس ، فلا جرم أظهر القدرة وجعل عاليها سافلها . وفي حرب أحد كان الزمان زمان تكليف ، فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق من المنافق ، والثابت من المضطرب ، فإنه لو جرى الأمر في أحد كما جرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب به ، ولمثل ذلك أمد بالملائكة حين أمد على عادة الإمداد بالعساكر وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك كثير من الناس فاعلم .

ولنعد إلى تفسير الألفاظ . قال صاحب الكشاف : إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة ليقوي قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله . ومعنى { ألن يكفيكم } إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء ب " لن " الذي هو تأكيد النقي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم كالآيسين من النصر . ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بما يجب ، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال . قال بعضهم : ما كان على جهة القوة والإعانة . قيل فيه : أمده يمده . وما كان على جهة الزيادة قيل فيه : مده يمده . وقرئ { منزلين } بكسر الزاي بمعنى منزلين النصر . { بلى } إيجاب لما بعد " لن " أي بلى يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية . ثم قال : { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم } يعني المشركين { من فورهم هذا } أي من ساعتهم هذه . والفور مصدر من فارت القدر إذا غلت ، ثم استعمل في معنى السرعة . يقال : جاء فلان ورجع من فوره . ومنه قول الأصوليين الأمور للفور أو للتراخي . ثم سميت به الحالة التي لا توقف فيها على صاحبها فقيل : خرج من فوره كما يقال من ساعته لم يلبث . جعل مجيء خمسة آلاف مشروطاً بثلاثة أشياء : الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور . فلما لم توجد هذه الشرائط بكلها أو بجلها فلا جرم لم يوجد المشروط . ويحتمل أن يعلق قوله : { من فورهم هذا } بما بعده أي يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر النزول عن الإتيان . وفيه بشارة بتعجيل النصر والفتح إن صبروا عن الغنائم واتقوا مخالفة الرسول . وقوله : { مسومين } من السومة العلامة ، وقد يعلم الفارس يوم اللقاء بعلامة ليعرف بها . فمن قرأ بكسر الواو فمعناه معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة ، ومن قرأ بالفتح فالمعنى أن الله سوّمهم . قال الكلبي : معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم . وعن الضحاك : معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيول وأذنابها . وعن مجاهد : مجزوزة أذناب خيلهم . وعن قتادة : كانوا على خيل بلق . وعن عروة بن الزبير : كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر : تسوموا فإن الملائكة قد تسوّمت . وقيل : مسومين مرسلين من أسمت الإبل وسوّمتها أرسلتها للرعي . فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيولهم على الكفار لقتلهم وأسرهم ، أو أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات في المراعي .

/خ129