اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{بَلَىٰٓۚ إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (125)

قوله : { بَلَى } حرف جواب ، وهو إيجاب للنفي في قوله : { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ } وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله : { يُمْدِدْكُمْ } .

الفور : العجلة والسرعة ، ومنه : فارت القِدْرُ ، إذا اشتد غليانها وسارع ما فيها إلى الخروج ، والفور مصدر ، يقال : فَار يفُورُ فَوْراً ، قال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّور } [ هود : 40 ] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة ، يقال : جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة ؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه ، فالفَوْر - في الأصل - : مصدر ، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين : معنى " مِنْ فَورِهم هَذَا " : من وجههم هذا .

وقال مجاهد والضَّحَّاكُ : من غضبهم هذا ؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر .

قوله : { مُسَوِّمِينَ } كقوله : { مُنزَلِينَ } ، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو ، على اسم الفاعل ، والباقون بفتحها على اسم المفعول ، فأما القراءة الأولى ، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى : أنهم سَوَّموا خَيْلَهم ، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان ، وتركوها كذلك ، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى .

ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم ، أو خيلهم .

روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ{[5899]} ، قال عروة بن الزبير : كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ ، عليهم عمائمُ بِيضٌ ، قد أرسلوها بين أكتافهم{[5900]} .

وقال هشام بن عروة : عمائم صفر{[5901]} .

وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ ، إلا جبريل فبعمامة صفراء ، على مثال الزبير بن العوام .

قال قتادةُ والضَّحَّاكُ : كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها{[5902]} .

ورُوِيَ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر : " تسوموا ، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم{[5903]} " وأما القراءة الثانية ، فواضحة بالمعنيين المذكورين ، فمعنى السوم فيها : أن الله أرسلهم ، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين .

قال أبو زيد : سوم الرجل خَيْلَه ، أي أرسلها .

وحكى بعضهم : سومت غلامي ، أي : أرسلته ، ولهذا قال الأخفش : معنى " مُسَوَّمِينَ " مُرْسَلِين .

ومعنى السومة فيها : أن الله - تعالى - سومهم ، أي جعل عليهم علامة ، وهي العمائم ، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم .

فصل

قال القُرْطُبِيُّ : " وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة ، والعلامة للقبائل ، والكتائب ، يجعلها السلطان لهم ؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب ، وعلى فضل الخيل البُلْق ؛ لنزول الملائكة عليها " .

قال القرطبي : " ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد ؛ فإنه كان أبلق ، ولم يكن له فرس غيره ، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق ، إكراماً للمقداد ، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير " .


[5899]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/187) عن قتادة والربيع وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/125) وزاد نسبته لعبد بن حميد.
[5900]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/188) عن عروة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/125) وزاد نسبته لعبد الرزاق وعبد بن حميد.
[5901]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/187- 188) عن أبي أسيد وعباد بن حمزة.
[5902]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/187) عن مجاهد وقتادة.
[5903]:أخرجه الطبري في تفسيره" (7/186) وابن أبي شيبة (14/358) والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/125) وعزاه للطبري وابن أبي شيبة. وينظر تفسير "زاد المسير" (1/452).