الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{بَلَىٰٓۚ إِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأۡتُوكُم مِّن فَوۡرِهِمۡ هَٰذَا يُمۡدِدۡكُمۡ رَبُّكُم بِخَمۡسَةِ ءَالَٰفٖ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (125)

وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت ، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهيد بدر : لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشِّعْب{[3439]} الذي خرجت منه الملائكة ، لا أشك ولا أمتري . رواه عقيل عن الزهري عن أبي حازم سلمة بن دينار . قال ابن أبي حاتم : لا يعرف للزهري عن أبي حازم غير هذا الحديث الواحد ، وأبو أسيد يقال إنه آخر من مات من أهل بدر ، ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره . وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تَهْلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعْبَد في الأرض ) فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين " {[3440]} [ الأنفال : 9 ] فأمده الله تعالى بالملائكة . قال أبو زُمَيْل{[3441]} : فحدثني ابن عباس قال : بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول : أقدِمْ حيزوم{[3442]} ، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا ، فنظر إليه فإذا هو قد خُطِم أنفه وشق وجهه كضربة السوط{[3443]} فاخضر ذلك أجمع . فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة ) فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين . وذكر الحديث . وسيأتي تمامه في آخر " الأنفال " {[3444]} إن شاء الله تعالى .

فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور ، والحمد لله . وعن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : ( من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم ) ؟ فقال جبريل : ( يا محمد ما كل أهل السماء أعرف ) . وعن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : بينا أنا أمتح{[3445]} من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط ، ثم ذهبت ، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها . قال : وأظنه ذكر : ثم جاءت ريح شديدة ، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر عن يمينه ، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة . وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال : لقد رأيتنا يوم بدر وأن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه . وعن الربيع بن أنس قال : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به ، ذكر جميعه البيهقي رحمه الله . وقال بعضهم : إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة ؛ لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع ، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود : أنت قتلتني ؟ ! إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سُنْبُك فرسه{[3446]} وإن اجتهدت . وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين ، ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة ، فكل عسكر صبر واحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم . وقال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عددا أو مددا . وقال بعضهم : إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة أنهم كانوا يدعون ويسبحون ، ويكثرون{[3447]} الذين يقاتلون يومئذ ، فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر{[3448]} وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت ، والأول أكثر . قال قتادة : كان هذا يوم بدر ، أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف ، فذلك قوله تعالى : " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين " {[3449]} وقوله : " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " [ آل عمران : 124 ] وقوله : " بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " [ آل عمران : 125 ] فصبر المؤمنون يوم بدر واتقوا الله فأمدهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم ، فهذا كله يوم بدر . وقال الحسن : فهؤلاء الخمسة آلاف رِدْءٌ{[3450]} للمؤمنين إلى يوم القيامة . قال الشعبي : بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ، فأنزل الله تعالى : " ألن يكفيكم إلى قوله : مسومين " فبلغ كرزا الهزيمة فلم يمدهم ورجع ، فلم يمدهم{[3451]} الله أيضا بالخمسة آلاف ، وكانوا قد مدوا بألف . وقيل : إنما وعد الله المؤمنين يوم بدر إن صبروا على طاعته ، واتقوا محارمه أن يمدهم أيضا في حروبهم كلها ، فلم يصبروا ولم يتقوا محارمه إلا في يوم الأحزاب ، فأمدهم حين حاصروا قريظة . وقيل : إنما كان هذا يوم أحد ، وعدهم الله المدد إن صبروا ، فما صبروا فلم يمدهم بملك واحد ، ولو أمدوا لما هزموا ، قاله عكرمة والضحاك . فإن قيل : فقد ثبت عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن يساره يوم بدر{[3452]} رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ، ما رأيتهما قبل ولا بعد . قيل له : لعل هذا مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، خصه بملكين يقاتلان عنه ، ولا يكون هذا إمدادا للصحابة . والله أعلم .

الثانية : نزول الملائكة سبب من أسباب النصر لا يحتاج إليه الرب تعالى ، وإنما يحتاج إليه المخلوق فليعلق القلب بالله وليثق به ، فهو الناصر بسبب وبغير سبب ، " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " {[3453]} [ يس : 82 ] . ولكن أخبر بذلك ليمتثل الخلق ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل ، " ولن تجد لسنة الله تبديلا " {[3454]} [ الأحزاب : 62 ] ، ولا يقدح ذلك في التوكل . وهو رد على من قال : إن الأسباب إنما سنت في حق الضعفاء لا للأقوياء ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا الأقوياء وغيرهم هم الضعفاء ، وهذا واضح . و " مد " في الشر و " أمد " في الخير . وقد تقدم في البقرة{[3455]} . وقرأ أبو حيوة " منزلين " بكسر الزاي مخففا ، يعني منزلين النصر . وقرأ ابن عامر مشددة الزاي مفتوحة على التكثير . ثم قال : " بلى " وتم الكلام . " إن تصبروا " شرط ، أي على لقاء العدو . " وتتقوا " عطف عليه ، أي معصيته . والجواب " يمددكم " . ومعنى " من فورهم " من وجههم . هذا عن عكرمة وقتادة والحسن والربيع والسدي وابن زيد . وقيل : من غضبهم ؛ عن مجاهد والضحاك . كانوا قد غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا . وأصل الفور القصد إلى الشيء والأخذ فيه بجد ، وهو من قولهم : فارت القدر تفور فورا وفورانا إذا غلت . والفور الغليان . وفار غضبه إذا جاش . وفعله من فوره أي قبل أن يسكن . والفوّارة ما يفور من القدر . وفي التنزيل " وفار التنور " {[3456]} { هود : 40 ] . قال الشاعر : تفور علينا قدرهم فنديمها

الثالثة : قوله تعالى : " مسومين " بفتح الواو اسم مفعول ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ونافع . أي معملين بعلامات . و " مسومين " بكسر الواو اسم فاعل ، وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير وعاصم ، فيحتمل من المعنى ما تقدم ، أي قد أعلموا أنفسهم بعلامة ، وأعلموا خيلهم . ورجح الطبري وغيره هذه القراءة . وقال كثير من المفسرين : مسومين أي مرسلين خيلهم في الغارة . وذكر المهدوي هذا المعنى في " مسومين " بفتح الواو ، أي أرسلهم الله تعالى على الكفار . وقاله ابن فورك أيضا . وعلى القراءة الأولى اختلفوا في سيما الملائكة ، فروى عن علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أن الملائكة اعتمت بعمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم ، ذكره البيهقي عن ابن عباس وحكاه المهدوي عن الزجاج . إلا جبريل فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام ، وقاله ابن إسحاق . وقال الربيع : كانت سمياهم أنهم كانوا على خيل بُلْق .

قلت : ذكر البيهقي عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال : لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون . فقوله : " معلمين " دل على أن الخيل البلق ليست السيما . والله أعلم . وقال مجاهد : كانت خيلهم مجزوزة الأذناب والأعراف معلمة النواصي والأذناب بالصوف والعهن{[3457]} . وروي عن ابن عباس : تسومت الملائكة يوم بدر بالصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها . وقال عباد بن عبد الله بن الزبير وهشام بن عروة والكلبي : نزلت الملائكة في سيما الزبير عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم . وقال ذلك عبد الله وعروة ابنا الزبير . وقال عبد الله : كانت ملاءة صفراء اعتم بها الزبير رضي الله عنه . قلت : ودلت الآية

وهي الرابعة : على اتخاذ الشارة{[3458]} والعلامة للقبائل والكتائب يجعلها السلطان لهم ؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب ، وعلى فضل الخيل البلق لنزول الملائكة عليها . قلت : - ولعلها نزلت عليها موافقة لفرس المقداد ، فإنه كان أبلق ولم يكن لهم فرس غيره ، فنزلت الملائكة على الخيل البلق إكراما للمقداد ، كما نزل جبريل معتجرا{[3459]} بعمامة صفراء على مثال الزبير . والله أعلم . دلت الآية أيضا-

وهي الخامسة : على لباس الصوف وقد لبسه الأنبياء والصالحون . وروى أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن أبي بردة عن أبيه قال : قال لي أبي : لو شهدتنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابتنا السماء لحسبت أن ريحنا ريح الضأن . ولبس صلى الله عليه وسلم جبة رومية من صوف ضيقة الكمين ، رواه الأئمة . ولبسها يونس عليه السلام ، رواه مسلم . وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في " النحل " {[3460]} إن شاء الله تعالى .

السادسة : قلت : وأما ما ذكره مجاهد من أن خيلهم كانت مجزوزة الأذناب والأعراف فبعيد ؛ فإن في مصنف أبي داود عن عتبة بن عبدٍ السلمي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تقصوا نواصي الخيل ولا معارفها ولا أذنابها فإن أذنابها مذابها ومعارفها دفاؤها ونواصيها معقود فيها الخير ) . فقول مجاهد يحتاج إلى توقيف من أن خيل الملائكة كانت على تلك الصفة . والله أعلم .

ودلت الآية على حسن الأبيض والأصفر من الألوان لنزول الملائكة بذلك ، وقد قال ابن عباس : من لبس نعلا أصفر قضيت حاجته . وقال عليه السلام : ( البسوا من ثيابكم البياض فإنه من خير ثيابكم وكفنوا فيه موتاكم وأما العمائم فتيجان العرب ولباسها ) . وروى ركانة - وكان صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم - قال ركانة : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس ) أخرجه أبو داود . قال البخاري{[3461]} : إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضه من بعض .


[3439]:- الشعب (بالكسر): الطريق في الجبل.
[3440]:- راجع جـ7 ص 370.
[3441]:- أبو زميل (بالتصغير) هو سماك بن الوليد. (تهذيب التهذيب).
[3442]:- حيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة.
[3443]:- زيادة عن صحيح مسلم، واخضر: اسود.
[3444]:- جـ8 ص 48.
[3445]:- متح: جذب الدلو من البئر مستقيا، والماتح: المستقي.
[3446]:- في د: قدميه. وسنبك الدابة طرف حافرها.
[3447]:- في د وهـ وب: والثواب للذين يقاتلون..
[3448]:- في هـ و د: إلا يوم بدر.
[3449]:- راجع جـ7 ص 370.
[3450]:- الردء: العون والناصر.
[3451]:- في جـ و ا: فأمدهم. والمثبت هو ما في باقي الأصول وهو التحقيق قال الألوسي: ولم يمدوا بها بناء على تعليق الإمداد بها بمجموع الأمور الثلاثة إلخ.
[3452]:- في ب و هـ: يوم أحد.
[3453]:- راجع جـ15 ص 60.
[3454]:- راجع جـ14 ص 247.
[3455]:- راجع جـ1 ص 209.
[3456]:- راجع جـ9 ص 33.
[3457]:- العهن: الصوف المصبوغ ألوانا.
[3458]:- من د وفي هـ: الإشارة، والشارة: الهيئة.
[3459]:- الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه، وفي ب: معتما.
[3460]:- جـ10 ص 154.
[3461]:- كذا في د وهـ و ب. وفي ا و حـ: النحاس.