قوله تعالى : { ولكل أمة } يعني : جماعة مؤمنة سلفت قبلكم { جعلنا منسكاً } قرأ حمزة و الكسائي بكسر السين هاهنا وفي آخر السورة ، على معنى الاسم مثل المجلس والمطلع ، أي : مذبحاً وهو موضع القربان ، وقرأ الآخرون بفتح السين على المصدر ، مثل المدخل والمخرج ، يعني : إراقة الدماء وذبح القرابين { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } عند نحرها وذبحها ، وسماها بهيمة لأنها لا تتكلم ، وقال : بهيمة الأنعام وقيدها بالنعم ، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير ، لا يجوز دخلها في القرابين . { فإلهكم إله واحد } أي : سموا على الذبائح اسم الله وحده ، فإن إلهكم إله واحد ، { فله أسلموا } انقادوا وأطيعوا ، { وبشر المخبتين } قال ابن عباس و قتادة : المتواضعين . وقال مجاهد : المطمئين إلى الله عز وجل ، والخبت : المكان المطمئن من الأرض . وقال الأخفش : الخاشعين . وقال النخعي : المخلصين . وقال الكلبي : هم الرقيقة قلوبهم . وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا .
ثم بين - سبحانه - أنه قد شرع لكل أمة الذبائح التى ينتفعون بها ، لكى يذكروه - سبحانه - ويشكروه ويخلصوا له العبادة ، ولكى يطعموا منها السائل والمحتاج ، فقال - تعالى - : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا . . . } .
المنسك - بفتح السين وكسرها - مأخوذ من النسك بمعنى العبادة ، فيجوز أن يراد به النسك نفسه ، ويجوز أن يراد به مكانه أو زمانه .
ويبدو أن المراد به هنا عبادة خاصة وهى الذبح تقربا إلى الله - تعالى - .
قال الآلوسى : والمنسك موضع النسك إذا كان اسم مكان ، أو النسك إذا كان مصدرا . وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه - تعالى - فجعله مصدرا ، وحمل النسك على عبادة خاصة ، وهو أحد استعمالاته وإن كان فى الأصل بمعنى العبادة مطلقا ، وشاع فى أعمال الحج . .
وجملة { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ . . . } معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } والمعنى : جعلنا لكم - أيها المؤمنون - منافع كثيرة فى هذه الأنعام إلى وقت معين ، ثم تكون نهايتها وذبحها عند البيت الحرام ، كما جعلنا وشرعنا لمن قبلكم من الأمم شعيرة الذبح ليتقربوا بها إلينا ، وأرشدناهم إلى المكان الذى يذبحون فيه ، وإلى أفضل الطرق التى تجعل ، ذبائحهم مقبولة عندنا .
وفى هذه الجملة الكريمة { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } ، تحريك لنفوسهم نحو افقدام على إرقاة الدم تقربا إلى الله ، لأن هذه الذبائح ليست من شعائر هذه الأمة وحدها ، وإنما هى من شعائرها ومن شعائر الأمم التى سبقتها .
وقوله - تعالى - : { لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } بيان للعلة التى من أجلها شرعت تلك الذبائح .
أى : شرعناها لكم وللأم السابقة عليكم للإكثار من ذكر الله عند ذبحها فهو - سبحانه - الذى رزقكم إياها بفضله وإحسانه ، فعليكم أن تكثروا من ذكره وشكره ، ليزيدكم من خيره ورزقه .
وفى هذه الجملة الكريمة تقريع وتوبيخه لمن يذكرون غير اسم الله - تعالى - عند الذبح ، وتأكيد لوجوب ذكر اسمه - تعالى - ، حتى لكأن المقصود الأعظم من ورائ ذبح هذه الأنعام ، هو المداومة على ذكر اسم الله - عز وجل - و على شكره - سبحانه - على نعمه ، أما ما سوى ذلك كالأكل منها ، والانتفاع بها . . . فهى مقاصد فرعية .
ثم عقب - سبحانه - على ذلك بتقرير وحدانيته ، وبوجوب إسلام الوجه إليه ، فقال : { فإلهكم إله وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ } .
أى : شرعنا لكم ذلك لأن إلكم إله واحد لا شريك له لا فى ذاته ولا فى صفاته ، فله وحده أسلموا وجوهكم ، وأخلصوها لعبادته وطاعته .
فجملة { فإلهكم إله وَاحِدٌ } بمثابة العلة لما قبلها من تخصيص اسمه الكريم بالذكر عند الذبح ، لأن تفرده - سبحانه - بالألوهية يستلزم هذا التخصيص .
وقوله - تعالى - : { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } مرتب على ما قبله ، لأنه متى ثبت أن المستحق للعبادة والطاعة هو الله الواحد الأحد ، فعليهم أن يسلموا وجوههم إليه .
ثم أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين برضاه - سبحانه - وبمثوبته فقال : { وَبَشِّرِ المخبتين } أى : المتواضعين لله - تعالى - المطمئنين إلى عدالة قضائه فيهم ، ولفظ { المخبتين } من الإخبات . وهو فى الأصل نزول الخَبْت - بفتح الخاء وسكون الباء .
أى : المكان المنخفض ، ثم استعمل فى اللين والواضع . يقال : فلان مخبت ، أى : متواضع خاشع لله رب العالمين .
وحذف - سبحانه - المبشر به لتهويله وتعظيمه ، أى : وبشر - أيها الرسول الكريم - هؤلاء المتواضعين لله - تعالى - بالثواب العظيم ، والأجر الكبير الذى لا تحيط بوصفه عبارة .
هذه الذبائح يذكر القرآن الكريم أنها شعيرة معروفة في شتى الأمم ؛ إنما يوجهها الإسلام وجهتها الصحيحة حين يتوجه بها إلى الله وحده دون سواه :
( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام . فإلهكم إله واحد . فله أسلموا وبشر المخبتين ، الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، والصابرين على ما أصابهم ، والمقيمي الصلاة ، ومما رزقناهم ينفقون ) . .
والإسلام يوحد المشاعر والاتجاهات ، ويتوجه بها كلها إلى الله . ومن ثم يعنى بتوجيه الشعور والعمل ، والنشاط والعبادة ، والحركة والعادة ؛ إلى تلك الوجهة الواحدة . وبذلك تصطبغ الحياة كلها بصبغة العقيدة .
وعلى هذا الأساس حرم من الذبائح ما أهل لغير الله به ؛ وحتم ذكر اسم الله عليها ، حتى ليجعل ذكر اسم الله هو الغرض البارز ، وكأنما تذبح الذبيحة بقصد ذكر اسم الله . ( ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) . .
ويعقب بتقرير الوحدانية : ( فإلهكم إله واحد ) . . وبالأمر بالإسلام له وحده : ( فله أسلموا ) . . وليس هو إسلام الإجبار والاضطرار ، إنما هو إسلام التسليم والاطمئنان : ( وبشر المخبتين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.