اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ} (34)

قوله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } الآية{[31148]} . قرأ الأخوان{[31149]} هذا وما بعده{[31150]}«منسِكاً » بالكسر . والباقون بالفتح{[31151]} .

فقيل : هما بمعنى واحد ، والمراد بالمنسك مكان النسك أو المصدر{[31152]} . وقيل : المكسور مكان{[31153]} ، والمفتوح مصدر{[31154]} .

قال ابن عطية : والكسر في هذا من الشاذ ولا يسوغ فيه القياس ، ويشبه أن يكون الكسائي سمعه من العرب {[31155]} . قال شهاب الدين : وهذا الكلام منه غير مرضي ، كيف يقول : ويشبه أن يكون الكسائي سمعه . والكسائي يقول : قرأت به . فكيف يحتاج إلى سماع مع تمسكه بأقوى السماعات ، وهو روايته لذلك قرأنا متواتراً . وقوله : من الشاذ : يعني قياساً لا استعمالاً فإنه فصيح في الاستعمال ، وذلك أن فعل يفعُل بضم العين في المضارع قياس الفعل منه أن يفتح عينه مطلقاً ، أي : سواء أريد به الزمان أم المكان أم المصدر{[31156]} ، وقد شذت ألفاظ ضبطها النحاة في كتبهم{[31157]} مذكورة في هذا الكتاب{[31158]} .

فصل

«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ »{[31159]} ( أي : جماعة مؤمنة سلفت قبلكم من عهد إبراهيم عليه السلام «جَعَلْنَا مَنْسَكاً » ){[31160]} أي ضرباً من القربان ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه عند ذبحها ونحرها فقال : { لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } أي : عند الذبح والنحر لأنها لا تتكلم{[31161]} . وقال : «بَهِيمة الأَنْعَام » قيد{[31162]} بالنعم ، لأن من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير لا يجوز ذبحها في القرابين{[31163]} ، وكانت العرب تسمي ما تذبحه للصَّنَم العتر والعتيرة{[31164]} كالذبح والذبيحة .

قوله : { فإلهكم إله وَاحِدٌ } في كيفية النظم{[31165]} وجهان :

الأول : أن الإله واحد ، وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح .

والثاني : { فإلهكم إله وَاحِدٌ } لا تذكروا على ذبائحكم غير اسمه . «فَلَهُ أَسْلِمُوا » انقادوا{[31166]} وأطيعوا ، فمن انقاد لله كان مخبتاً فلذلك قال بعده «وَبَشِّر المُخْبِتِينَ » {[31167]} .

قال ابن عباس وقتادة : المخبت المتواضع الخاشع{[31168]} وقال مُجاهد : المطمئن إلى الله . والخبت المكان المطمئن من الأرض . قال أبو مسلم : حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض تقول : أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال : أنجد وأَتْهَمَ وأشَأم {[31169]} .

وقال الكلبي : هم{[31170]} الرقيقة قلوبهم{[31171]} . وقال عمرو بن أوس{[31172]} : هم الذين لا يظلمون وإذا ظُلِموا لم ينتصروا{[31173]} .


[31148]:الآية: سقط من ب.
[31149]:الكسائي وحمزة.
[31150]:وهو قوله تعالى: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه} من الآية (67) من السورة نفسها.
[31151]:السبعة (436) الكشف 2/119، النشر 2/326، الإتحاف (315).
[31152]:وذلك أن المصدر الميمي من الثلاثي يكون على مفعل بفتح العين إلا إذا كان مثالا واويا صحيح اللام وقد حذفت فاؤه في المضارع نحو وضع أو كان الواوي من باب فعل يفعل نحو وجل ووجل فالمصدر على مفعل الموحل وموضع واسم المكان من الثلاثي الذي يكون مضارعه على يفعل يكون على مفعل، فاسم المكان من خرج وكتب مخرج ومكتب. انظر شرح الشافية 1/168 – 170، 181.
[31153]:اسم المكان الذي على مفعل من الثلاثي الذي مضارعه يفعل خارج عن القياس إلا أنه قد جاء منه كلمات سمع في عينها الفتح والكسر، وهي المفرق والمحشر، والمسجد والمنسك. ولا يخفى أن الكسر وإن كان خارجا عن القياس إلا أنه فصيح الاستعمال. انظر شرح الشافية 1/181.
[31154]:انظر التبيان 2/941.
[31155]:يبدو أن ابن عادل نقل نص ابن عطية من البحر المحيط 6/368 -369، والنص كما في تفسير ابن عطية: (والكسر في هذا من الشاذ في اسم المكان أن يكون (مفعل) من فعل يفعل، مثل مسجد من سجد يسجد، ولا يسوغ فيه القياس ويشبه أن الكسائي سمعه من العرب) 10/278.
[31156]:انظر شرح الشافية 1/ 168 – 181.
[31157]:وهذه الألفاظ هي: المنسك، والمجزر، والمنبت، والمطلع، والمشرق، والمغرب، والمفرق، والمسقط، والمسكن، والمسجد، والمنخر، والقياس في هذه الألفاظ فتح العين لأن مضارع أفعالها يفعل بضم العين. انظر شرح الشافية 1/181.
[31158]:الدر المصون: 5/74.
[31159]:في ب: ولكل أمة جعلنا منسكا.
[31160]:ما بين القوسين سقط من ب.
[31161]:انظر الفخر الرازي 23/35.
[31162]:في ب: قد. وهو تحريف.
[31163]:انظر البغوي 5/584.
[31164]:العتر: العتيرة، وهي شاة كانوا يذبحونها في رجب لآلهتهم، مثل ذبح وذبيحة والعتيرة. أول ما ينتج، كانوا يذبحونها لآلهتهم. اللسان (عتر).
[31165]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/35.
[31166]:في ب: وانقادوا.
[31167]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/35.
[31168]:البغوي: 5/585.
[31169]:الفخر الرازي 23/35.
[31170]:في الأصل: هو.
[31171]:انظر البغوي 5/585.
[31172]:هو عمرو بن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي أخذ عن أبيه وعبد الله بن عمرو بن العاص وأخذ عنه النعمان بن سالم وعمرو بن دينار. مات سنة 75 هـ. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 2/280.
[31173]:انظر البغوي 5/585، الفخر الرازي 23/35، الدر المنثور 4/360.