فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ} (34)

{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } هي الجماعة المجتمعة على مذهب واحد { جَعَلْنَا مَنسَكًا } مصدر من نسك ينسك إذا ذبح القربان ، والذبيحة نسيكة ، قال الأزهري : إن المراد بالمنسك في الآية موضع النحر ، ويقال منسك بكسر السين وفتحها لغتان . قال الفراء المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير أو شر ، وقال ابن عرفة : منسكا أي مذهبا من طاعة الله .

وروي عن الفراء أن المنسك العيد ، وبه قال ابن عباس وقيل هو الحج . وقال مجاهد في الآية : إهراق الدماء ، وعن عكرمة قال : ذبحا ، وعن زيد بن أسلم قال : مكة ، لم تجعل الله لأمة قط منسكا غيرها ، والأول أولى لقوله :

{ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ } والمعنى جعلنا لكل أهل دين من الأديان أو لجماعة مسلمة سلفت قبلكم ذبحا يذبحونه ودما يريقونه أو متعبدا أو طاعة أو عيدا أو حجا يحجونه ليذكروا اسم الله وحده ويجعلوا نسكهم خاصا به { على } ذبح { مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } سماها بهيمة لأنها لا تتكلم ، وقيد بالأنعام لأن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها وإن أجاز أكله ، وفي القاموس البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء ، أو كل حي لا يميز ، والجمع بهائم ، والأبهم الأعجم ، واستبهم استعجم فلم يقدر على الكلام .

وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه ، وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضوع ذكرها . ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالإلهية وأنه لا شريك له فقال :

{ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ثم أمرهم بالإسلام والانقياد لطاعته وعبادته فقال : { فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي انقادوا وأخلصوا وأطيعوا وتقديم الظرف على الفعل للقصر ، والفاء كالفاء التي قبلها .

{ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } من عباده ، أي المتواضعين الخاشعين المخلصين . وقال مجاهد : أي المطمئنين ، وقال عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون الناس ، وإذا ظلموا لم ينتصروا ، وهو مأخوذ من الخبت وهو المنخفض من الأرض ، والمعنى بشرهم يا محمد بما أعد الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه ، ولا يخفى حسن التعبير بالمخبتين هنا من حيث أن نزول الخبت مناسب للحجاج لما فيهم من صفات المتواضعين ، كالتجرد عن اللباس وكشف الرأس والغربة عن الأوطان ،