قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } . قال الحسن : اصبروا على دينكم ولا تدعوه لشدة ولا رخاء ، وقال قتادة : اصبروا على طاعة الله . وقال الضحاك ومقاتل بن سليمان : على أمر الله . وقال مقاتل بن حيان : على أداء فرائض الله تعالى ، وقال زيد بن أسلم : على الجهاد . وقال الكلبي : على البلاء ، وصابروا يعني : الكفار ، ورابطوا يعني المشركين ، قال أبو عبيدة ، أي دافعوا واثبتوا ، والربط الشد ، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، ثم قيل : ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن بشير ، أنه سمع أبا النصر ، أنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وما عليها ، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها ، لروحة يروحها العبد في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي ، أنا يونس بن عبد الله بن مسلم أبو بكر الجوربردي ، أنا يونس بن عبد الأعلى ، أنا ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن الحارث ، أنا أبو عبيدة بن عقبة عن شرحبيل بن السمط ، أنا سلمان الخير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان له أجر صيام شهر مقيم ، ومن مات مرابطاً جرى له مثل ذلك الأجر ، وأجري عليه من الرزق ، وأمن من الفتان " .
وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه الصلاة بعد الصلاة ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو مصعب أنا مالك ، أخبرنا العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بما يمحو الله الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط فذلكم الرباط " .
قوله تعالى : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } . قال بعض أرباب اللسان : اصبروا على النعماء ، وصابروا على البأساء والضراء ، ورابطوا في دار الأعداء ، واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بنداء جامع للمؤمنين ، دعاهم فيه إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى فقال : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
والصبر معناه : حبس النفس عن أهوائها وشهواتها وترويضها على تحمل المكره وتعويدها على أداء الطاعات .
والمصابرة : هى المغالبة بالصبر : بأن يكون المؤمن أشد صبراً من عدوه .
ورابطوا : من المرابطة وهى القيام على الثغور الإسلامية لحمياتها من الأعداء ، فهى استعداد ودفاع وحماية لديار الإسلام من مهاجمة الأعداء .
والمعنى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا } على طاعة الله وعلى تحمل المكاره والآلام برضا لا سخط معه ؛ فإن الصبر جماع الفضائل وأساس النجاح والظفر .
و { وَصَابِرُواْ } أى قابلوا صبر أعدائكم بصبر أشد منه وأقوى في كل موطن من المواطن التى تستلزم الصبر وتقتضيه .
قال صاحب الكشاف : { وَصَابِرُواْ } أعداء الله فى الجهاد ، أى غالبوهم فى الصبر على شدائد الحرب ، ولا تكونوا أقل منهم صبراً وثباتاً فالمصابرة باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصاً لشدته وصعبوته " .
و { وَرَابِطُواْ } أى أقيموا على مرابطة الغزو فى نحر العدو بالترصد له ، والاستعداد لمحاربته وكونوا دائما على حذر منه حتى لا يفاجئكم بما تكرهون .
ولقد كان كثير من السلف الصالح يرابطون فى سبيل الله نصف العام ، ويطلبون قوتهم بالعمل فى النصف الآخر .
ولقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التى وردت فى فضل المرابطة من أجل حماية ديار الإسلام ، ومن ذلك ما رواه البخاري فى صحيحه عن سهل ابن سعد الساعدى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " .
وروى مسلم فى صحيحه عن سلمان الفارسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذى كان يعمله ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن الفتان " .
وبعضهم جعل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة مستدلا بالحديث الذى رواه مسلم والنسائي عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة . فذلكم الرباط " .
قال القرطبى : بعد أن ساق هذا الحديث - : " والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة فى سبيل الله - وأصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطا فارسا كان أو راجلا . واللفظ مأخوذ من الرب . وقول النبى صلى الله عليه وسلم " فذلكم الرباط " إنما هو تشبيه بالرباط فى سبيل الله " .
ومما يدل على أن المرابطة فى سبيل الله م أجل الديار الإسلامية من أفضل الأعمال وأن الصالحين الأخيار من المسلمين كانوا لا ينقطعون عنها ، مما يدل على ذلك ما كتبه عبد الله بن المبارك - وهو يرابط بطرسوس - إلى صديقه الفضيل بن عياض - وكان الفضيل معتكفا بالمسجد الحرام - كتب إليه عبد الله يقول :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا . . . لعلمت أنك فى العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه . . . فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله فى باطل . . . فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا . . . رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا . . . قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوى غبار خيل الله فى . . . أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا . . . ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وقال : صدق عبد الله .
وقوله { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أى اتقوا الله بأن تصونوا أنفسكم عن محارمه وعن مخالفة أمره ، ورجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر فى الدنيا ، والثواب الحسن فى الآخرة .
وبعد : فهذه سورة آل عمران ، وهذا تفسير مفصل لما اشتملت عليه من توجيهات نافعة وعظات بليغة ، وآداب عالية وتشريعات سامية و تربية رشيدة وعبادات قويمة وحجج تثبت الحق وتدحض الباطل .
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ونافعا لعباده .
والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتّقُواْ اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : اصبروا على دينكم ، وصابروا الكفار ورابطوهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن أنه سمعه يقول في قول الله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال : أمرهم أن يصبروا على دينهم ، ولا يدعوه لشدّة ولا رخاء ، ولا سرّاء ولا ضرّاء ، وأمرهم أن يصابروا الكفار ، وأن يرابطوا المشركين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } : أي اصبروا على طاعة الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله ، { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكمْ تُفْلِحُونَ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } يقول : صابروا المشركين ، ورابطوا في سبيل الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج : { اصْبِرُوا } على الطاعة ، { وَصَابِرُوا } أعداء الله ، { وَرَابِطُوا } في سبيل الله .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال : اصبروا على ما أمرتم به ، وصابروا العدوّ ورابطوهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على دينكم ، وصابروا وعدي إياكم على طاعتكم لي ، ورابطوا أعداءكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي ، أنه كان يقول في هذه الاَية : { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } يقول : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوّي وعدوّكم ، حتى يترك دينه لدينكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوّكم ورابطوهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم في قوله : { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال : اصبروا على الجهاد ، وصابروا عدوّكم ، ورابطوا على عدوّكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مطرف بن عبد الله المرّي ، قال : حدثنا مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، قال : كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب ، فذكر له جموعا من الروم وما يتخوّف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله يقول في كتابه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
وقال آخرون : معنى : { وَرَابِطُوا } : أي رابطوا على الصلوات : أي انتظروها واحدة بعد واحدة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ، قال : ثني داود بن صالح ، قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي هل تدري في أيّ شيء نزلت هذه الاَية { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قال : قلت لا . قال : إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جدّه ، عن شرحبيل عن عليّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أدُلّكُمْ على ما يُكَفّرُ اللّهُ بِهِ الذّنُوبَ والخَطايا ؟ إسْباغُ الوُضُوءِ على المَكارِهِ ، وانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ ، فَذَلِكَ الرّباطُ » .
حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا محمد بن مهاجر ، قال : ثني يحيى بن زيد ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن شرحبيل ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أدُلكُمْ على ما يَمْحُو اللّهَ بِهِ الخطايا ويُكَفّرُ بِهِ الذّنُوبَ ؟ » قال : قلنا بلى يا رسول الله ! قال : «إسْباغُ الوضُوءِ فِي أماكِنِها ، وكَثْرَةُ الخَطا إلى المَساجِدِ ، وَانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ ، فَذَلِكُمُ الرّباطُ » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا خالد بن مخلد ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا أدُلّكُمْ على ما يَحُطّ اللّهُ بِهِ الخَطايا وَيَرْفَعُ بِهِ الدّرَجاتِ ؟ » قالوا : بلى يا رسول الله . قال : «إسْباغُ الُوضُوءِ عِنْدَ المَكارِهِ ، وكَثْرَةُ الخُطا إلى المَساجِدِ ، وَانْتِظارُ الصّلاةِ بَعْدَ الصّلاةِ ، فَذَلِكُمُ الرّباطُ فَذَلِكُمُ الرّباطُ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
وأولى التأويلات بتأويل الاَية ، قول من قال في ذلك : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، اصبروا على دينكم ، وطاعة ربكم ، وذلك أن الله لم يخصص من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئا فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل . فلذلك قلنا إنه عنى بقوله : { اصْبِرُوا } الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى ، صعبها وشديدها ، وسهلها وخفيفها . { وَصَابِرُوا } يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المعروف من كلام العرب في المفاعلة ، أن تكون من فريقين ، أو اثنين فصاعدا ، ولا تكون من واحد إلا قليلاً في أحرف معدودة ، وإذ كان ذلك كذلك ، فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم ، حتى يظفرهم الله بهم ، ويعلي كلمته ، ويخزي أعداءهم ، وأن لا يكن عدوّهم أصبر منهم . وكذلك قوله { وَرَابِطُوا } معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك في سبيل الله . وأرى أنّ أصل الرباط : ارتباط الخيل للعدوّ ، كما ارتبط عدوّهم لهم خيلهم ، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر ، يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء ، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ، ممن بغاهم بشرّ كان ذا خيل قد ارتبطها ، أو ذا رُجْلة لا مركب له .
وإنما قلنا : معنى { وَرَابِطُوا } : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم ، لأن ذلك هو المعنى المعروف من معاني الرباط . وإنما توجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه دون الخفيّ ، حتى يأتي بخلاف ذلك ما يوجب صرفه إلى الخفيّ من معانيه حجةٌ يجب التسليم لها من كتاب أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع من أهل التأويل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : واتقوا الله أيها المؤمنون ، واحذروه أن تخالفوا أمره ، أو تتقدّموا نهيه ، { لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } يقول : لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد ، وتنجحوا في طلباتكم عنده . كما :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في قوله : { وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } : واتقوا الله فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني .
ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كي لا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة ، فأمَرَهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر ، وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل ، ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قِرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه ، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً ، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً ، كما قال زُفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام :
سَقَيْنَاهُم كَأساً سقَوْنا بِمِثْلِها *** ولكنَّهم كانوا على الموت أَصْبَرا
فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه :
لا أنت معتادُ في الهيجا مُصابَرةٍ *** يَصْلى بها كلّ من عاداك نيراناً
وقوله : { ورابطوا } أمر لهم بالمرابطة ، وهي مفاعلة من الرّبْط ، وهو ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدوّ ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائماً على حذر من عدوّهم تنبيهاً لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غِرّة بعد وقعة أُحُد كما قدّمناه آنفاً ، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلمّا أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظاً من عدوّهم . وفي كتاب الجهاد من « البخاري » : بابُ فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } إلخ . وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدوّ الوصول منها إلى الحيّ مثل الشعاب بين الجبال . وما رأيت مَن وصف ذلك مثل لبيد في معلّقته إذ قال :
ولَقد حَمَيْتُ الحَيّ تَحْمِل شِكَّتي *** فُرُط وِشَاحِي إذْ غَدَوْتُ لجامُها
فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبَا على ذي هَبْوَةٍ *** حَرِج إلى إعلامهن قَتَامُـــها
حَتَّى إذا ألْقَتْ يداً في كافــر *** وأجَنّ عَوْرَاتِ الثُّغورِ ظلامُها
فذكر أنّه حرس الحيّ على مكان مرتقَب ، أي عال بربط فرسه في الثغر . وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس والشام والأندلس في البَرّ ، ثم لمّا اتّسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البخار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدوّ منها : مثل رباط المنستير بتونس بإفريقية ، ورباط سلا بالمغرب ، ورُبط تونس ومحارسها : مثل مَحْرس علي بن سالم قرب صفاقس . فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى وقد خفي على بعض المفسّرين فقال بعضهم : أراد بقوله : { ورابطوا } إعداد الخيل مربوطة للجهاد ، قال : ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو في الثغور . وقال بعضهم : أراد بقوله : { ورابطوا } انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها ، لما روى مالك في « الموطأ » ، عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وقال : " فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " ونُسب هذا لأبي سلمة بن عبد الرحمن . قال ابن عطية : والحقّ أن معنى هذا الحديث على التشبيه ، كقوله : " ليس الشديد بالصرعة " وقوله : " ليس المسكين بهذا الطّواف الذي تردّه اللقمة واللقمتان " ، أي وكقوله صلى الله عليه وسلم " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " .
وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح .