فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (200)

{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } عن محمد ابن كعب القرظي : اصبروا على دينكم وصابروا على الوعد الذي وعدتكم ورابطوا عدوي وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم ؛ وعن زيد بن أسلم : صبروا على الجهاد وصابروا عدوكم ورابطوا على عدوكم ، ومما يقول أبو جعفر ابن محمد الطبري : عنى بقوله : { اصبروا } الأمر بالصبر على جميع معاني طاعة الله فيما أمر ونهى ، صعبها وشديدها ، وسهلها وخفيفها ؛ { وصابروا } يعني : وصابروا أعداءكم من المشركين . لأن المعروف من كلام العرب في المفاعلة أن تكون من فريقين أو اثنين فصاعدا ولا تكون من واحد إلا قليلا . . . وإذ كان ذلك كذلك فإنما أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم حتى يظفرهم الله بهم ، ويعلي كلمتهم ويخزي أعداءهم ، وإلا يكن عدوهم أصبر منهم ؛ وكذلك قوله { ورابطوا } معناه : ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك في سبيل الله ؛ وأرى أن أصل الرباط : ارتباط الخيل للعدو كما ارتبط لهم عدوهم لهم خيلهم ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء : ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر كان ذا خيل قد ارتبطها ، أو ذا رجلة لا مركب له . 1ه .

يقول علماء الأحكام : المرابط في سبيل الله هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، وأما سكان الثغور دائما بأهلهم الذين يعمرون ويكتسبون هنالك فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين ، وقال بعضهم للرباط حالتان : حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد ، وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إن كان من أهل القتال ، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسرق والله أعلم . في صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها ) وفي صحيح مسلم عن سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ){[1286]} ؛ وفي هذا دليل على أن الرباط أفضل الأعمال الذي يبقى ثوابها بعد الموت{[1287]} ، كما جاء في فضل الرباط حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه قال : قال رسول الله صلى الله عيه وسلم ( تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة{[1288]} إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش{[1289]} طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة {[1290]} وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع ) والأحاديث في ذلك كثيرة {[1291]} ، { واتقوا الله لعلكم تفلحون } توقوا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة بما أمرتم به من الصبر والمصابرة والمرابطة كي تسلموا مما منه هربتم وتدركوا أفضل ما طلبتم .

ختام السورة:

ومما صح في فضل هذه السورة الكريمة : ما روى الإمام مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان الكلابي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران -وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد ، قال كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق{[1]} أو كأنهما حزقان{[2]} من طير صواف تحاجان عن صاحبهما ) . وأخرج أيضا عن أبي أمامة الباهلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان{[3]} أو كأنهما غيايتان{[4]} أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ) قال معاوية{[5]} : وبلغني أن البطلة : السحرة . وفي فضل خواتيمها جاءت الأحاديث النبوية الشريفة ومن أجمعها ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن عائشة من طريق عطاء ؛ وما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .


[1]:- سورة يونس، الآية 24.
[2]:- ما بين العارضتين من روح المعاني.
[3]:- يتعبد.
[4]:- فضمني إلى صدره.
[5]:- سورة الأنعام. من الآية 148.
[1286]:رويت بفتح الفاء أي الشيطان لأنه يفتن الناس عن الدين ورويت بالضم جمع فاتن يعاون بعضهم بعضا على إضلال الناس وفتنتهم.
[1287]:أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن ما استدل به على أفضلية الرباط فنقل من سنن أبي داود عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر). ثم أورد حديث العلاء بن أبي عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان -وفي رواية ابن آدم- انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة -وفي رواية إلا من ثلاثة صدقة- جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) وهو حديث صحيح انفرد بإخراجه مسلم ثم قال القرطبي: فإن الصدقة الجارية والعلم المنتفع به والولد الصالح الذي يدعو لأبويه ينقطع ذلك بنفاد الصدقات وذهاب العلم وموت الولد والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة وهذا لأن أعمال البر كلها لا يتمكن منها إلا بالسلامة من العدو والتحرز منه بحراسة بيضة الدين وإقامة شعائر الإسلام.1هـ.
[1288]:الثوب المخطط؛ وروى: القطيفة، وهي الأقمشة ذات المحمل.
[1289]:أي إذا أصابته الشوكة فلا وجد من يخرجها منه بالمنقاش.
[1290]:قال بن الجوزي: المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو والرفعة.
[1291]:روى أبو داود عن سهل بن الحنظلة أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (تلك غنيمة المسلمين غدا إنشاء الله) ثم قال (من يحرسنا الليلة) ؟ قال أنس بن أبي مرشد: أنا يا ر سول الله قال " فاركب " فركب فرسا فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا تعز من قبلك الليلة) فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركعنا ركعتين فقال (هل أحسستم فارسكم)؟ فقال رجل يا رسول الله ما أحسسناه، فثوب بالصلاة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته قال (أبشروا فقد جاءكم فارسكم) فجعلنا ننظر من خلال الشجرة في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى الشعب حيث أمرتني فلما أصبحنا طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (هل نزلت الليلة ؟) قال لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال له (أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها) وروى النسائي مرفوعا (حرمت النار على عين دمعت أو بكيت من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله) وروى الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله).