مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (200)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون } .

واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع ، أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما ، ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان : منها ما يتعلق به وحده ، ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره ، أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر ، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة .

أما الصبر فيندرج تحته أنواع : أولها : أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد ، وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين . وثانيها : أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات . وثالثها : أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات . ورابعها : الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف ، فقوله : { اصبروا } يدخل تحته هذه الأقسام ، وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها ، وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير ، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب ، ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء إليك كما قال :

{ وأعرض عن الجاهلين } وقال : { وإذا مروا باللغو مروا كراما } ويدخل فيه الإيثار على الغير كما قال : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال : { وأن تعفوا أقرب للتقوى } ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن المقدم عليه ربما وصل إليه بسببه ضرر ، ويدخل فيه الجهاد فإنه تعريض النفس للهلاك ، ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين ، وحل شكوكهم والجواب عن شبههم ، والاحتيال في إزالة تلك الأباطيل عن قلوبهم ، فثبت أن قوله { اصبروا } تناول كل ما تعلق به وحده { وصابروا } تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره .

واعلم أن الإنسان وأن تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص ، والإنسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الإتيان بالصبر والمصابرة ، فلهذا قال : { ورابطوا } ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للإنسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض ، وجب أن يكون للإنسان في هذه المجاهدة غرض وباعث ، وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح ، فلهذا قال : { واتقوا الله لعلكم تفلحون } وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى ، فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة ، وذلك عبارة عن الإتيان بالأفعال الحسنة ، والاحتراز عن الأفعال الذميمة ، ولما كانت الأفعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الأفعال الذميمة ، وذلك هو المراد بالمرابطة ، ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات ، وذلك هو تقوى الله ، ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والأخلاق ، وهو الفلاح ، فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والإسرار الروحانية ، وإنها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه .

ولنذكر ما قاله المفسرون : قال الحسن : اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع ، وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد ، وقال الفراء : اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم ، وقال الأصم : لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها ، ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء .

وأما قوله : { ورابطوا } ففيه قولان : الأول : أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضا ، بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعدا لقتال الآخر ، قال تعالى :

{ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } وعن النبي صلى الله عليه وسلم «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة » الثاني : أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان : الأول : ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال : لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة . الثاني : ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال : «فذلكم الرباط » ثلاث مرات .

واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل ، وأصل الرباط من الربط وهو الشد ، يقال : لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه ، وقال آخرون : الرباط هو اللزوم والثبات ، وهذا المعنى أيضا راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس ، ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد ، ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم .

قال الإمام رضي الله تعالى عنه : تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة .