الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱصۡبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (200)

خَتَمَ اللَّه سُبْحانه السُّورة بهذه الوَصَاةِ التي جَمَعَتِ الظُّهورَ في الدنيا علَى الأعداء ، والفَوْزَ بنعيمِ الآخرةِ ، فحضَّ سبحانه على الصبْرِ على الطاعات ، وعنِ الشهواتِ ، وأَمَرَ بالمصابرةِ ، فقيل : معناه مصابرةُ الأعداء ، قاله زيدُ بْنُ أسلم ، وقيل : معناه مصابَرَةَ وعْدِ اللَّهِ فِي النَّصْر ، قاله محمدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ ، أي : لا تسأَمُوا وانتظروا الفَرَجَ ، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم : ( انتظار الفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ ) . قال الفَخْر : والمصابرةُ عبارةٌ عن تحمُّل المكارِهِ الواقعة بَيْن الإنسان ، وبَيْن الغَيْر ، انتهى .

وقوله : { وَرَابِطُواْ }[ آل عمران :200 ] معناه عند الجُمْهُور : رَابِطُوا أعداءكم الخَيْلَ ، أي : ارتبطوها ، كما يرتبطها أعداؤكم .

قلْتُ : وروى مسلمٌ في «صحيحه » ، عن سلمانَ ، قال : سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ ، وَقِيَامِهِ ، وإنْ مَاتَ جرى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ ، وأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ، وَأَمِنَ الفَتَّان ) وخَرَّجَ الترمذيُّ ، عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ على عَمَلِهِ إلاَّ الَّذِي مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فإنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ ) ، قال أبو عيسى : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ، وخرَّجه أبو داود بمعناه ، وقال : ( ويُؤْمَنُ مِنْ فَتَّانِي القَبْرِ ) ، وخرَّجه ابنُ ماجة بإسناد صحيحٍ ، عن أبي هُرَيْرَةَ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : ( مَنْ مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَجْرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ ، وأجرى عَلَيْهِ رِزْقَهُ ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ ، وَيَبْعَثُهُ اللَّهُ آمناً مِنَ الفَزَعَ ) ، وروى مسلم ، والبخاريُّ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ، ومَا فِيهَا ) ، انتهى .

وجاء في فَضْل الرباطِ أحاديثُ كثيرةٌ يطُولُ ذكْرها .

قال صاحبُ «التَّذْكرة » : وروى أبيُّ بن كَعْب ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ المُسْلِمِينَ مُحْتَسِباً مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، أَعْظَمُ أجْراً مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ ، صِيَامِهَا ، وقِيَامِهَا ، وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْظَمُ أَجْراً )

أُرَاهُ قَالَ : ( مِنْ عِبَادَةِ أَلْفَيْ سَنَةٍ ، صِيَامِهَا ، وقِيَامِهَا ) الحديثَ ذكره القرطبيُّ مسنداً ، انتهى .

والرباط : هو الملازمةُ في سَبيلِ اللَّهِ ، أصلها مِنْ رَبَاطَ الخَيْلَ ، ثم سُمِّيَ كلُّ ملازمٍ لثَغْرٍ من ثُغُور الإسلام مرابطاً ، فارساً كان أو راجلاً ، واللفظةُ مأخوذةٌ من الرَّبْط .

قلْتُ : قال الشيخُ زيْنُ الدينِ العِرَاقِيُّ في «اختصاره لغريب القرآن » ، لأبي حَيَّان : معنى : رَابِطُوا : دُومُوا واثبتوا ، ومتى ذكَرْتُ العِرَاقِيَّ ، فمرادِي هذا الشيخُ ، انتهى .

وروى ابنُ المبارك في «رقائقه » ، أنَّ هذه الآيةَ : { اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } ، إنما نزلَتْ في انتظار الصَّلاةِ خَلْفَ الصلاة ، قاله أبو سَلَمَةَ بْنُ عبدِ الرحمنِ ، قال : ولم يكُنْ يومئذٍ عَدُوٌّ يرابَطُ فيه ، انتهى .

وقوله سبحانه : { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ترجٍّ في حقِّ البَشَر ، والحمدُ للَّه حَقَّ حمده .