قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم } . أي أجور صدقاتكم .
قوله تعالى : { بالمن } . على السائل ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بالمن على الله تعالى .
قوله تعالى : { والأذى } . لصاحبها ثم ضرب لذلك مثلاً فقال :
قوله تعالى : { كالذي ينفق ماله } . أي كإبطال الذي ينفق ماله .
قوله تعالى : { رئاء الناس } . أي مراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقولوا إنه كريم سخي .
قوله تعالى : { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } . يريد أن الرياء يبطل الصدقة ولا تكون النفقة مع الرياء من قبل المؤمنين وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن بكفره غير مراء .
قوله تعالى : { فمثله } . أي مثل هذا المرائي .
قوله تعالى : { كمثل صفوان } . وهو الحجر الأملس ، وهو واحد وجمع ، فمن جعله جمعاً فواحده صفوانة ، ومن جعله واحدا فجمعه صفى .
قوله تعالى : { عليه } . أي على الصفوان .
قوله تعالى : { تراب فأصابه وابل } . وهو المطر الشديد العظيم القطر .
قوله تعالى : { فتركه صلداً } . أي أملس ، والصلد الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه ، فهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق والمرائي ، والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي ، ويرى الناس في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً ، كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة بطل كله واضمحل ، لأنه لم يكن لله كما أذهب الوابل ما على الصفوان من التراب فتركه صلداً .
قوله تعالى : { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } . أي على ثواب شيء مما كسبوا عملوا في الدنيا .
قوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الكافرين } .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أخبرنا أبو الحسن الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أخبرنا أحمد بن علي الكشهميني ، أخبرنا علي بن حجر ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرنا عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا : يا رسول الله ، وما الشرك الأصغر ؟ قال الرياء يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء " . أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد الحارثي ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن محمود ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أخبرنا عبد الله بن المبارك عن حيوة بن شريح ، أخبرني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدائني أن عقبة بن مسلم حدثه أن سفيان الأصبحي حدثه ، أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس فقال : من هذا ؟ قال : أبو هريرة ، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس . فلما سكت وخلا قلت له : أنشدك الله بحقي ، لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية ، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ فقال : بلى يا رب قال : فماذا عملت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله له : كذبت وتقول له الملائكة : كذبت ويقول الله تعالى : بل أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك ، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فما عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق . فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله تعالى : بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذلك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له : فيما ذا قتلت ؟ فيقول : يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله تعالى : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك ، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة " .
وقوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } نداء منه - سبحانه - للمؤمنين يكرر فيه نهيهم عن المن والأذى ، لأنهما يؤديان إلى ذهاب الأجر من الله - تعالى - وإلى عدم الشكر من الناس ولذا جاء في الحديث الشريف : " إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويحق الأجر " .
والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - لا تبطلوا صدقاتكم بأن تحبطوا أجرها ، وتمحقوا ثمارها ، بسبب المن والأذى ، فيكون مثلكم في هذا الإِبطال لصدقاتكم بسبب ما ارتكبتم من آثام ، كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل أن يرى الناس منه ذلك ولا يبغي به رضاء الله ولا ثواب الآخرة ، لأنه كفر بالله ، وكفر بحساب الآخرة .
وفي هذا التشبيه تنفير شديد من المن والأذى لأنه - سبحانه - شبه حال المتصدق المتصف بهما في إبطال علمه بسببها بحال هذا المنافق المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر .
وقوله : { كالذي } الكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي : لا تبطلوها إبطالا كابطال الذي ينفق ماله رئاء الناس . . . أو في محل نصب على الحال من فاعل { تُبْطِلُواْ } أي لا تبطلوا مشابهين الذي ينفق ماله رئاء الناس .
وقوله : { رِئَآءَ } منصوب على أنه مفعول لأجله أي : كالذي ينفق ماله من أجل رئاء الناس .
وأما المثال الثاني فقال - سبحانه - : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } .
{ صَفْوَانٍ } اسم جنس جمعي واحد صفوانه كشجر وشجرة وهو الحجر الكبير الأملس ، مأخوذ من الصفاء وهو خلوص الشء مما يشوبه . يقال : يوم صفوان أي صافي الشمس . وقيل هو مفرد كحجر . و ( الوابل ) المطر الشديد . يقال : وبلت السماء تبل وبلا ووبولا . اشتد مطرها ( الصلد ) هو الشيء الأجرد النقي من التراب الذي كان عليه . ومنه رأس أصلد إذا كان لا ينبت شعراً ، والأصلد الأجرد الذي لا ينبت شيئاً مأخوذ من صلد يصلد صلدا فهو صلد .
والمعنى : يأيها المؤمنون لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فيكون مثلكم كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء لا من أجل رضا الله ، وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياء وحباً للهور مثل حجر أملس لا ينبت شيئاً ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب ، فانكشف حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد لا يصلح لإِنبات أي شيء عليه .
فالتشبيه في الجملة الكريمة بين الذي ينفق ماله رياء وبين الحجر الكبير الأملس الذي عليه قد رقيقه من التراب ستر حاله ، ثم ينزل المطر فيزيل التراب وتنكشف حقيقته ويراه الرائي عارياً من أي شيء يستره . وكذلك المنافق المرائي في إنفاقه يتظاهر بمظهر السخاء أمام الناس ثم لا يلبث أن ينكشف أمره لأن ثوب الرياء يشف دائماً عما تحته ، وإن لم يكشفه فإن الله كاشفه .
ومن المفسرين من يرى أن التشبيه في الجملة الكريمة بين المنفق الذي يبطل صدقته بالمن والأذى وبين الحجر الأملس ، وأن الضمير في قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } يعود إلى هذا المبطل لصدقته بالمن والأذى . فيكون المعنى : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والّى فيكون مثلكم كمثل الحجر الأملس الذي عليه تراب كان يرجى أن يكون منبتاً للزرع فنزل المطر فأزال التراب فبطل إنتاجه ، فالمن والأذى يبطلان الصدقات ويزيلان أثرها النافع ، كما يزيل المطر التراب الذي يؤمل منه الإِنبات من فوق الحجر الأملس .
والذي نراه أن عودة الضمير في قوله : { فَمَثَلُهُ } على الذي ينفق ماله رثاء الناس أظهر لأنه أقرب مذكور ، ولأن التشبيه في قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } قد جاء بلفظ المفرد وهو المناسب للذي ينفق ماله رئاء الناس لأنه مفرد مثله ، بخلاف قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } فإن الضمير فيه بلفظ الجمع ، فمن الأولى أن يعود الضمير في قوله : { فَمَثَلُهُ } إلى المرائي لتوافقهما في الأفراد .
ثم قال - تعالى - : { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أي أن الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى ، والذين يتصدقون رياء ومفاخرة لا يقدرون على تحصيل شيء من ثواب ما عملوا لأن ما صاحب أعمالهم من رياء ومن أذى محق بركتها ، وأذهب ثمرتها ، وأزال ثوابها .
أو المعنى : أو أولئك المنانين والمرائين ليس عندهم قدرة على شيء من المال الذي أنعم به عليهم ، فعليهم أن يشكروه على هذه النعمة ، وأن ينفقوه بدون من أو أذى أو مراءاة ، حتى يظفروا بحسن المثوبة منه - سبحانه - .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } أي لا يهديهم إلى ما ينفعهم لأنهم آثروا الكفر على الإِيمان .
والجملة الكريمة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ، وفيها إشارة إلى أن الإِنفاق المصحوب بالمن والأذى والرياء ليس من صفات المؤمنين وإنما هو من صفات الكافرين ، فعلى المؤمنين أن يجتنبوا هذه الصفات التي لا يليق بهم .
والذي ينظر في هذه الآيات الكريمة يرى أن الله - تعالى - قد حذر المنفقين من المن والأذى في ثلاث آيات متواليات ، كما حذرهم من الرياء ، وساق أكثر من تشبيه لتقبيح الصدقات التي لا تكون خالصة لوجه الله فلماذا كل هذا التشديد في النهي ؟
والجواب عن ذلك : أن المن والأذى في الإِنفاق كثيراً ما يحصلان بسبب استعلاء كاذب ، أو رغبة في إذلال المحتاج وإظهاره بمظهر الضعيف : وكلا الأمرين لا يليق بالنفس المؤمنة المخلصة ، ولا يتلاقى مطلقا مع الحكم التي من أجلها شرعت الصدقات بل إنه ليتنافر معها تننافراً تاماً لأن الصدقات شرعها الله لتهذيب النفوس وتطهير القلوب ولتربط بين الأغنياء والفقراء برباط المحبة والمودة والإخاء ، فإذا ما صاحبها المن والأذى أثمرت نقيض ما شرعت له ، لأنها تثير في نفس المعطى بسبب ذلك الكبر والخيلاء وغير ذلك من الصفات الذميمة ، وتثير في نفس الآخذ شعوراً بالحقد والانتقام ممن أعطاه ثم آذاه وبذلك تنقطع الروابط ، ويتمزق المجتمع ، ويتحول المحبة إلى عداوة .
ولقد تحدث الإِمام الرازي عن الآثار السيئة للمن والأذى فقال ما ملخصه :
وإنما كان المن مذموماً لوجوه :
الأول : أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة ، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار الإِنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة ، وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه .
والثاني : أن إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريق ذلك .
الثالث : أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله - تعالى - عليه - وأن يعتقد أن لله عليه نعما عظيمة حيث وفقه لهذا العمل ومتى كان الأمر كذلك امتنع عن أن يجعل ما ينفقه منه على الغير .
الرابع : أن المعطي في الحقيقة هو الله ، ومتى اعتقد العبد ذلك استنار قلبه ، أما إذا اعتقد غير ذلك فإنه يكون في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول ، وعن الآثار إلى المؤثر . . . وأما الأذى فيتناول كل ذلك وغيره مما يسيئ إلى الفقير بأن يقول له : فرج الله عني منك ، وأنت أبدا تأتي بما يؤلم . إلخ .
هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عدداً من الأحاديث الشريفة التي نهت عن المن والأذى ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يدخل الجنة مدمن خمر ، ولا عاق لوالديه ، ولا منّان " .
{ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأذَىَ كَالّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاّ يَقْدِرُونَ عَلَىَ شَيْءٍ مّمّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا } صدّقوا الله ورسوله ، { لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ } ، يقول : لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمنّ والأذى ، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله { رِئَاءَ النّاسِ } ، وهو مراءاته إياهم بعمله¹ وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناس في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه وهو مريد به غير الله ولا طالب منه الثواب وإنما ينفقه كذلك ظاهرا ليحمده الناس عليه فيقولوا : هو سخيّ كريم ، وهو رجل صالح ، فيحسنوا عليه به الثناء وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق ، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الاَخر .
وأما قوله : { وَلاَ يُوءْمِنُ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ } فإن معناه : ولا يصدّق بواحدنية الله وربوبيته ، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله ، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده . وهذه صفة المنافق¹ وإنما قلنا إنه منافق ، لأن المظهر كفره والمعلن شركه معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيا ، لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه ، والكافر لا يخيل على أحد أمره أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان إذا كان معلنا كفره لا لله ، ومن كان كذلك فغير كائن مرائيا بأعماله .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال أبو هانىء الخولاني ، عن عمرو بن حريث ، قال : إن الرجل يغزو ، لا يسرق ولا يزني ، ولا يغلّ ، لا يرجع بالكفاف ! فقيل له : لم ذاك ؟ قال : فإن الرجل ليخرج فإذا أصابه من بلاء الله الذي قد حكم عليه سبّ ولعن إمامه ، ولعن ساعة غزا ، وقال : لا أعود لغزوة معه أبدا ! فهذا عليه ، وليس له مثل النفقة في سبيل الله يتبعها منّ وأذى ، فقد ضرب الله مثلها في القرآن : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ والأذَى } حتى ختم الآية .
( القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأصَابَهُ وَابِل فَتَرَكَهُ صَلْدا لاَ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله واليوم الاَخر . والهاء في قوله : { فَمَثَلُهُ } عائدة على «الذي » . { كمثَل صَفْوَانٍ } والصفوان واحد وجمع ، فمن جعله جمعا فالواحدة صفوانة بمنزلة تمرة وتمر ونخلة ونخل ، ومن جعله واحدا جمعه صفوان وصِفِيّ وصُفِيّ ، كما قال الشاعر :
***مَوَاقِعُ الطّيْرِ على الصّفِيّ ***
والصفوان هو الصفا ، وهي الحجارة الملس . وقوله : { عَلَيْهِ تُرَابٌ } يعني على الصفوان تراب ، { فأصَابَهُ } يعني أصاب الصفوان ، { وَابِلٌ } : وهو المطر الشديد العظيم ، كما قال امرؤ القيس :
ساعَةً ثم انْتحاها وابلٌ *** ساقِطُ الأكْنافِ واهٍ مُنْهَمِرْ
يقال منه : وَبلت السماء فهي تَبِلُ وَبْلاً ، وقد وُبِلَت الأرض فهي تُوبَل .
وقوله : { فَتَرَكَهُ صَلْدا } يقول : فترك الوابل الصفوان صلدا والصلد من الحجارة : الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره ، وهو من الأرضين ما لا ينبت فيه شيء ، وكذلك من الرءوس ، كما قال رؤبة :
لما رأتْنِي خَلَقَ المُمَوّهِ *** بَرّاقَ أصْلادِ الجبين الأجْلَهِ
ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي : قِدْرٌ صَلود ، وقد صَلدت تَصْلُدُ صُلُودا ، ومنه قول تأبط شرّا :
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ لَيْلٍ وقِرّةٍ *** ولا بصفَا صَلْدٍ عن الخير مَعْزِلِ
( ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثل لأعمالهم ، فقال : فكذلك أعمالهم بمنزلة الصفوان الذي كان عليه تراب ، فأصابه الوابل من المطر ، فذهب بما عليه من التراب ، فتركه نقيا لا تراب عليه ولا شيء يراهم المسلمون في الظاهر أن لهم أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان بما يراءونهم به ، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله اضمحل ذلك كله ، لأنه لم يكن لله كما ذهب الوابل من المطر بما كان على الصفوان من التراب ، فتركه أملس لا شيء عليه ، فذلك قوله : لا يقدرون ، يعني به الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر ، يقول : لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا ، لأنهم لم يعملوا لمعادهم ولا لطلب ما عند الله في الاَخرة ، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلب حمدهم ، وإنما حظهم من أعمالهم ما أرادوه وطلبوه بها . ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا يهدي القوم الكافرين ، يقول : لا يسددهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها فيوفقهم لها ، وهم للباطل عليها مؤثرون ، ولكنه تركهم في ضلالتهم يعمهون ، فقال تعالى ذكره للمؤمنين : لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفة أعمالهم ، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم ، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس ، وهو غير مؤمن بالله واليوم الاَخر عند الله . )
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنّ والأذَى } فقرأ حتى بلغ : { عَلَى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا } فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول : لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذٍ ، كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس عليه شيء أنقى ما كان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ } إلى قوله : { وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ } هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة ، يقول : لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذٍ ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيا لا شيء عليه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ وَالأذَى } إلى قوله : { عَلَى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا } أما الصفوان الذي عليه تراب فأصابه المطر ، فذهب ترابه فتركه صلدا ، فكذا هذا الذي ينفق ماله رياء الناس ذهب الرياء بنفقته ، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيا ، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم¹ فقال للمؤمنين : { لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمنّ والأذَى } فتبطل كما بطلت صدقة الرياء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : أن لا ينفق الرجل ماله ، خير من أن ينفقه ثم يتبعه منّا وأذى . فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الاَخر ، فضرب الله مثلهما جميعا { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا } فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منّا وأذى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ والأذَى } إلى : { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدا } ليس عليه شيء ، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج في قوله : { لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ والأذَى } قال : يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ثُمّ لاَ يُتْبِعُون ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى } فقرأ : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ والأذَى } حتى بلغ : { لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا } ثم قال : أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئا ؟ فكذلك منّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئا . وقرأ قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بالمَنّ وَالأذَى } وقرأ : { وَمَا أنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ } . فقرأ حتى بلغ : { وأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { صَفْوَانٍ } قد بينا معنى الصفوان بما فيه الكفاية ، غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } كمثل الصفاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } والصفوان : الصفا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما صفوان ، فهو الحجر الذي يسمى الصفاة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { صفوان } يعني الحجر .
القول في تأويل قوله تعالى : { فأصَابَهُ وَابِلٌ } .
قد مضى البيان عنه ، وهذا ذكر من قال قولنا فيه :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما وابل : فمطر شديد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { فأصَابَهُ وَابِلٌ } والوابل : المطر الشديد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، مثله .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَرَكَهُ صَلْدا } .
ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { فَتَرَكَهُ صَلْدا } يقول نقيا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { فَتَرَكَهُ صَلْدا } قال : تركها نقية ليس عليها شيء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس قوله : { فَتَرَكَهُ صَلْدا } قال : ليس عليه شيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { صَلْدا } فتركه جردا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : { فَتَرَكَهُ صَلْدا } ليس عليه شيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { فَتَرَكَهُ صَلْدا } ليس عليه شيء .
وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } الآية ، والعقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات( {[2584]} ) ، فقال جمهور العلماء في هذه الآية : إن الصدقة التي يعلم الله في صاحبها أنه يمن أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة ، وقيل بل جعل الله للملك عليها أمارة فلا يكتبها( {[2585]} ) .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ، لأن ما نتلقى نحن عن المعقول من بني آدم فهو أن المن المؤذي ينص على نفسه أن نيته لم تكن لله عز وجل على ما ذكرناه قبل( {[2586]} ) ، فلم تترتب له صدقة ، فهذا هو بطلان الصدقة بالمنّ والأذى ، والمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها ، إذ لم يكشف ذلك على النية في السليمة ولا قدم فيها ، ثم مثل الله هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي { ينفق رئاء } لا لوجه الله ، والرياء مصدر من فاعل من الرؤية . كأن الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا خير فيه من الناس . قال المهدوي والتقدير كإبطال الذي ينفق رئاء ، وقوله تعالى : { ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } يحتمل أن يريد الكافر الظاهر الكفر( {[2587]} ) ، إذ قد ينفق ليقال جواد وليثنى عليه بأنواع الثناء ولغير ذلك . ويحتمل أن يريد المنافق الذي يظهر الإيمان . ثم مثل هذا المنفق رئاء ب { صفوان عليه تراب } فيظنه الظانُّ أرضاً منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر أو معنى ، فإذا أصاب الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك التراب وبقي صلداً ، فكذلك هذا المرائي إذا كان يوم القيامة وحصلت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقته ولا معنى . فالمن والأذى والرياء يكشف عن النية . فيبطل الصدقة كما يكشف الوابل الصفا فيذهب ما ظن أرضاً . وقرأ طلحة بن مصرف «رياء الناس » بغير همز .
ورويت عن عاصم . والصفوان الحجر الكبير الأملس . قيل هو جمع واحدته صفوانة . وقال قوم واحدته صفواة ، وقيل هو إفراد وجمعه صفى ، وأنكره المبرد( {[2588]} ) وقال : إنما هو جمع صفا ، ومن هذا المعنى الصفواء( {[2589]} ) والصفا . قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
كميت يزل اللبد عن حال متنه . . . كما زلت الصفواء بالمتنزل( {[2590]} )
حتى كأني للحوادث مروة . . . بصفا المشقَّرِ كلَّ يومٍ تقرع( {[2591]} )
وقرأ الزهري وابن المسيب «صفَوان » بفتح الفاء ، وهي لغة ، والوابل الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل على وجه الأرض ، والصلد من الحجارة الأملس الصلب الذي لا شيء فيه ، ويستعار للرأس الذي لا شعر فيه ، ومنه قول رؤبة : [ الرجز ]
بَرَّاق أصْلادِ الْجَبينِ الأجْلَهِ . . . ( {[2592]} ) قال النقاش : الصلد الأجرد بلغة هذيل ، وقوله تعالى : { لا يقدرون } يريد به الذين ينفقون رئاء ، أي لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم ، وجاءت العبارة ب { يقدرون } على معنى الذي . وقد انحمل الكلام قبل على لفظ الذي ، وهذا هو مهيع( {[2593]} ) كلام العرب ولو انحمل أولاً على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ ، وقوله تعالى : { والله لا يهدي القوم الكافرين } إما عموم يراد به الخصوص في الموافي على الكفر ، وإما أن يراد به أنه لم يهدهم في كفرهم بل هو ضلال محض ، وإما أن يريد أنه لا يهديهم في صدقاتهم وأعمالهم وهم على الكفر ، وما ذكرته في هذه الآية من تفسير لغة وتقويم معنى فإنه مسند عن المفسرين وإن لم تجىء ألفاظهم ملخصة في تفسيره إبطال المن والأذى للصدقة .
الإبطال جعل الشيء باطلاً أي زائلاً غير نافع لما أُريدَ منه . فمعنى بطلان العمل عدم ترتّب أثره الشرعي عليه سواء كان العمل واجباً أم كان متطوّعاً به ، فإن كان العمل واجباً فبطلانه عدم إِجزائه بحيث لا تبرأ ذمة المكلّف من تكليفه بذلك العمل وذلك إذا اختلّ ركن أو شرط من العمل . وإن كان العمل متطوّعاً به رجع البطلان إلى عدم الثواب على العمل لمانع شرعي من اعتبار ثوابه وهو المراد هنا جمعاً بين أدلة الشريعة .
وقوله : { كالذي ينفق ماله رئاء الناس } الكاف ظرف مستقر هو حال من ضمير تبطلوا ، أي لا تكونوا في إتْبَاع صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس وهو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وإنّما يعطي ليراه الناس وذلك عطاء أهل الجاهلية .
فالموصول من قوله : { كالذي ينفق ماله } مراد به جنس وليس مراد به جنس وليس مراد به معَيّناً ولا واحداً ، والغرض من هذا التشبيه تفظيع المشبّه به وليس المراد المماثلة في الحكم الشرعي ، جمعاً بين الأدلة الشرعية .
والرئاء بهمزتين فِعال مِن رأى ، وهو أن يُكثر من إظهار أعماله الحسنة للناس ، فصيغة الفعال فيه للمبالغة والكثرة ، وأَولى الهمزتين أصلية والأخيرة مبدلة عن الياء بعد الألف الزائدة ، ويقال رياء بياء بعد الراء على إبدال الهمزة ياء بعد الكسرة .
والمعنى تشبيه بعض المتصدّقين المسلمين الذين يتصدّقون طلباً للثواب ويعقبون صدقاتهم بالمَنّ والأذى ، بالمنفقين الكافرين الذين ينفقون أموالهم لا يطلبون من إنفاقها إلاّ الرئاء والمدحة إذ هم لا يتطلّبون أجر الآخرة .
ووجه الشبه عدم الانتفاع مِمَّا أعطوا بأزيدَ من شفاء ما في صدورهم من حبّ التطاول على الضعفاء وشفاء خُلق الأذى المتطبعين عليه دون نفع في الآخرة .
ومُثّل حال الذي ينفق ماله رئاء الناس المشبِه به تمثيلاً يسري إلى الذين يُتبعون صدقاتهم بالمنّ والأذى بقوله : { فمثله كمثل صفوان } إلخ وضمير مثله عائد إلى الذي ينفق ماله رئاء للناس ، لأنّه لما كان تمثيلاً لحال المشبّه به كان لا محالة تمثيلاً لحال المشبّه ، ففي الكلام ثلاثة تشبيهات .
مثَّل حال الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس بحال صفوان عليه تراب يغشيه ، يعني يَخاله الناظر تربة كريمة صالحة للبذر ، فتقدير الكلام عليه تراب صالحٌ للزرع فحذفت صفة التراب إيجازاً اعتماداً على أنّ التراب الذي يرقب الناس أن يصيبه الوابل هو التراب الذي يبذرون فيه ، فإذا زرعه الزارع وأصابه وابل وطمع الزارع في زكاء زرعه ، جرفه الماء من وجه الصفوان فلم يترك منه شيئاً وبقي مكانُه صلداً أملس فخاب أمل زارعه .
وهذا أحسن وأدّق من أن نجعل المعنى تمثيل إنفاق الكافر بحال تراب على صفوان أصابه وابل فجرفه ، وأنّ وجه الشبه هو سرعة الزوال وعدم القرار كقوله تعالى : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف } [ إبراهيم : 18 ] فإنّ مورد تلك الآية مقام آخر .
ولك{[194]} أن تجعل كاف التشبيه في قوله تعالى : { كالذي ينفق ماله } صفة لمصدر محذوف دل عليه ما في لفظ صدقاتهم من معنى الإنفاق وحذف مضاف بين الكاف وبين اسم الموصول ، والتقدير إنفاقاً كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس .
وقد روعي في هذا التمثيل عكس التمثيل لمن ينفق مالَه في سبيل الله بحبّة أغَلَّتْ سبعمائة حَبَّة .
فالتشبيه تشبيه مركب معقول بمركب محسوس . ووجه الشبه الأمل في حالة تغر بالنفع ثم لا تلبث ألاّ تأتي لآملها بما أمَّله فخاب أمله . ذلك أنّ المؤمنين لا يخلون من رجاء حصول الثواب لهم من صدقاتهم ، ويكثر أن تعرض الغفلة للمتصدّق فيُتبع صدقته بالمنّ والأذى اندفاعاً مع خواطر خبيثة .
وقوله : { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } أوقع موقعاً بديعاً من نظم الكلام تنهال به معانٍ كثيرة فهو بموقعه كان صالحاً لأن يكون حالاً من الذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون مندرجاً في الحالة المشبّهة ، وإجراء ضمير كسبوا ضمير جمع لتأويل الذي ينفق بالجماعة ، وصالحاً لأن يكون حالاً من مثل صفوان باعتبار أنّه مثل على نحو ما جوّز في قوله تعالى : { أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] إذ تقديره فيه كمثل ذوي صيّب فلذلك جاء ضميره بصيغة الجمع رعياً للمعنى وإن كان لفظ المعاد مفرداً ، وصالحاً لأن يجعل استينافاً بيانياً لأنّ الكلام الذي قبله يثير سؤال سائل عن مغبة أمر المشبّه ، وصالحاً لأن يجعل تذييلاً وفذلكة لضرب المثل فهو عود عن بدء قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] إلى آخر الكلام .
وصالحاً لأن يجعل حالاً من صفوان أي لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا منه وحذف عائد الصلة لأنّه ضمير مجرور بما جرّ به اسم الموصول . ومعنى { لا يقدرون } لا يستطيعون أن يسترجعوه ولا انتفعوا بثوابه فلم يبق لهم منه شيء .
ويجوز أن يكون المعنى لا يحسنون وضع شيء ممّا كسبوا موضعه ، فهم يبذلون ما لهم لغير فائدة تعود عليهم في آجلهم ، بدليل قوله : { الله لا يهدي القوم الكافرين } .
والمعنى فتركه صلداً لا يحصدون منه زرعاً كما في قوله : { فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها } [ الكهف : 42 ] .
وجملة { والله لا يهدي القوم الكافرين } تذييل والواو اعتراضية وهذا التذييل مسوق لتحذير المؤمنين من تسرّب أحوال الكافرين إلى أعمالهم فإنّ من أحوالهم المنّ على من ينفقون وأذاه .