تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}: يمن بها فإن ذلك أذى لصاحبها وكل صدقة يمن بها صاحبها على المعطى، فإن المن يبطلها، فضرب الله عز وجل مَثَلاً لذلك: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله}: ولا يصدق بأنه واحد لا شريك له. {واليوم الآخر}: ولا يصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن، فمثله، يعني مثل الذي يمن بصدقته، كمثل مشرك أنفق ماله في غير إيمان، فأبطل شركه الصدقة كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن، ثم أخبر عمن من بها على صاحبه، فلم يُعْطَ عَليها أجرًا ولا ثوابا، ثم ضرب الله عز وجل لهما مثلا فقال: في مثله:
{فمثله كمثل صفوان}: الصفا {عليه تراب فأصابه وابل}: المطر الشديد، {فتركه صلدا}: ترك المطر الصفا صلدا نقيا أجردَ، ليس عليه تراب، فكذلك المشرك الذي ينفق في غير إيمان، وينفق رئاء الناس،وكذلك صدقة المؤمن إذا منّ بها. وذلك قوله سبحانه: {لا يَقْدِرون على شيء مما كسبوا}: لا يقدرون على ثواب شيء مما أنفقوا يوم القيامة وذلك قوله عز وجل: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء مما كسبوا} ثواب {شيء} (إبراهيم: 18) يوم القيامة، كما لم يبق على الصفا شيء من التراب حين أصابه المطر الشديد.
{والله لا يهدي القوم الكافرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: صدّقوا الله ورسوله. {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ}: لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمنّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله {رِئَاءَ النّاسِ}، وهو مراءاته إياهم بعمله وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناس في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه وهو مريد به غير الله ولا طالب منه الثواب وإنما ينفقه كذلك ظاهرا ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخيّ كريم، وهو رجل صالح، فيحسنوا عليه به الثناء وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الاَخر.
{وَلاَ يُؤمِنُ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}: ولا يصدّق بوحدانية الله وربوبيته، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق وإنما قلنا إنه منافق، لأن المظهر كفره والمعلن شركه معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيا، لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه، والكافر لا يخيل على أحد أمره أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان إذا كان معلنا كفره لا لله، ومن كان كذلك فغير كائن مرائيا بأعماله.
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأصَابَهُ وَابِل فَتَرَكَهُ صَلْدا لاَ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللّه لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ}: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الاَخر. والهاء في قوله: {فَمَثَلُهُ} عائدة على «الذي». {كمثَل صَفْوَانٍ}: والصفوان هو الصفا، وهي الحجارة الملس. {عَلَيْهِ تُرَابٌ}: على الصفوان تراب، {فأصَابَهُ} يعني أصاب الصفوان، {وَابِلٌ}: وهو المطر الشديد العظيم. {فَتَرَكَهُ صَلْدا}: فترك الوابل الصفوان صلدا والصلد من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره، وهو من الأرضين ما لا ينبت فيه شيء، وكذلك من الرؤوس. ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثل لأعمالهم، فقال: فكذلك أعمالهم بمنزلة الصفوان الذي كان عليه تراب، فأصابه الوابل من المطر، فذهب بما عليه من التراب، فتركه نقيا لا تراب عليه ولا شيء يراهم المسلمون في الظاهر أن لهم أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان بما يراؤونهم به، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله اضمحل ذلك كله، لأنه لم يكن لله كما ذهب الوابل من المطر بما كان على الصفوان من التراب، فتركه أملس لا شيء عليه، فذلك قوله: لا يقدرون، يعني به الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر، يقول: لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا، لأنهم لم يعملوا لمعادهم ولا لطلب ما عند الله في الآخرة، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلب حمدهم، وإنما حظهم من أعمالهم ما أرادوه وطلبوه بها. ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا يهدي القوم الكافرين، يقول: لا يسددهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه تركهم في ضلالتهم يعمهون، فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفة أعمالهم، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس، وهو غير مؤمن بالله واليوم الاَخر عند الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كالذي ينفق ماله رياء الناس} قال بعضهم: هم المنافقون؛ كانوا ينفقون أموالهم رياء دليله قوله تعالى: {ولا يؤمن بالله واليوم الآخر}؛ شبه الصدقة التي فيها من وأذى بالصدقة التي فيها رياء؛ وذلك، والله أعلم، أن الصدقة التي فيها من وأذى ولم يبتغ بها وجه الله، فكانت كالصدقة التي ينفقها للرياء لا يبتغي بها وجه الله تعالى عز وجلا والدار الآخرة. ثم ضرب المثل للصدقة المبتغى بها الرياء والصدقة التي فيها المن والأذى بالصفوان الذي عليه التراب، وهو الحجر الأملس فقال: {فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا} قيل: الوابل المطر الشديد عظيم القطر...
وفي ضرب الأمثال تعريف ما غاب عن الأبصار بما هو محسوس، وذلك أن الصفوان الذي ضرب به المثل والتراب محسوس، ومن التراب جعل الأغذية للخلق والدواب، ثم الثواب الذي عود للصدقة ليس بمحسوس، بل هو غائب، فعرف الغائب بالمحسوس، فقال: لما كان التراب الذي به تكون الأغذية يذهب بالمطر الشديد حتى لا يبقى له أثر فكذلك الثواب الذي يكون للصدقة يذهب، ويتلاشى حتى [لا] يظفر بها بالمن والأذى والرياء كما أذهب المطر التراب الذي على الصفوان، فصار صلدا، لا شيء عليه من التراب. وقوله تعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين}...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
يريد به إبطال الفضل دون الثواب. ويحتمل وجهاً ثانياً: إبطال موقعها في نفس المُعْطَى...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما يُحْمَلُ جميلُ المنة من الحق سبحانه، فأمَّا من الخلْق فليس لأحد على غيره مِنَّةَ؛ فإنَّ تحمل المنن من المخلوقين أعظم محنة، وشهود المنة من الله أعظم نعمة. ويقال أفقرُ الخلْق مَنْ ظنَّ نفسَه موسِراً فيَبِين له إفلاسه، كذلك أقل الخلْق قدراً من ظن أنه على شيءٍ فيبدو له من الله ما لم يكن يحتسبه...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
المَنّ في الصدقة بمنزلة الحَدَثِ في الصلاة، يبطلها ويحبطها...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
عن عاصم بن عمر عن محمود بن لبيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال الرياء يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء"...
ثم إنه تعالى وصف هذين النوعين من الإنفاق أحدهما: الذي يتبعه المن والأذى والثاني: الذي لا يتبعه المن والأذى، فشرح حال كل واحد منهما، وضرب مثلا لكل واحد منهما...
قال القفال رحمه الله تعالى، وفيه احتمال آخر، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذرا في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته، ويجده وقت حاجته، والصفوان محل بذر المنافق، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر، والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذرا في صفوان صلد عليه غبار قليل، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعا بذره خاليا لا شيء فيه، ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة، والجنة ما يكون فيه أشجار ونخيل، فمن أخلص لله تعالى كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض، فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة، وأما عمل المان والمؤذي والمنافق، فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئا...
أما قوله تعالى: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} فاعلم أن الضمير في قوله {لا يقدرون} إلى ماذا يرجع؟ فيه قولان
أحدهما: أنه عائد إلى معلوم غير مذكور، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان، لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه، فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر... وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة
والثاني: أنه عائد إلى قوله {كالذي ينفق ماله} وخرج على هذا المعنى، لأن قوله {كالذي ينفق ماله} إنما أشير به إلى الجنس، والجنس في حكم العام،
قال القفال رحمه الله: وفيه وجه ثالث، وهو أن يكون ذلك مردودا على قوله {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم، فرجع عن الخطاب إلى الغائب، كقوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم} [يونس: 22]...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
هذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2]...
وقد يقال: إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها إلا أنه ليس في اللفظ ما يدل على هذا التقييد، والسياق يدل على إبطالها به مطلقا.
وقد يقال: تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياء وعدم الإيمان فإن الرياء لو تأخر عن العمل لم يبطله.
أحدهما: أن التشبيه وقع في الحال التي يحبط بها العمل، وهي حال المرائي، والمان المؤذي، في أن كل واحد منهما يحبط العمل.
الثاني: أن الرياء لا يكون إلا مقارنا للعمل لأنه فعال من الرؤية التي صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخيا. وهذا بخلاف المن والأذى فإنه يكون مقارنا ومتراخيا، وتراخيه أكثر من مقارنته.
وقوله تعالى: {كالذي ينفق} إما أن يكون المعنى: كإبطال الذي ينفق، فيكون شبه الإبطال بالإبطال. والمعنى: لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق.
وقوله: {فمثله} أي مثل هذا المنفق الذي قد بطل ثواب نفقته {كمثل صفوان} وهو الحجر الأملس وفيه قولان: أحدهما: أنه واحد. والثاني: جمع صفوة. {عليه تراب فأصابه وابل} وهو المطر الشديد {فتركه صلدا} وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره. وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن إيمان بالله واليوم الآخر بالحجر، لشدته وصلابته وعدم الانتفاع به وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علق بذلك الحجر، والوابل الذي أزال ذلك التراب عن الحجر، فأذهبه بالمانع الذي أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذي على الحجر فيتركه صلدا فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله. وفيه معنى آخر: وهو أن المنفق لغير الله هو في الظاهر عامل عملا يرتب عليه الأجر ويزكو له كما تزكو الحبة التي إذا بذرت في التراب الطيب أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه، كما أن تحت التراب حجرا يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه. فلا ينبت ولا يخرج شيئا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: فألحق عمل الإخلاص بآفة ما تعقبه بما بني على أصل الرياء... فقال: {كالذي ينفق ماله} لغير الله، إنما ينفقه {رئاء الناس} أي لقصد أن يروه. قال الحرالي: هو الفعل المقصود به رؤية الخلق غفلة عن رؤية الحق وعماية عنه... ولما شبه المانّ والمؤذي بالمرائي لأنه أسقط الناس وأدناهم همة وأسوؤهم نظراً وأعماهم قلباً فأولو الهمم العلية لا سيما العرب أشد شيء نفرة منه وأبعده عنه و كان لمن يرائي حالان ألحقه بأشدهما فقال: {ولا يؤمن بالله} أي الذي له صفة الكمال {واليوم الآخر} الذي يقع فيه الجزاء بعد نقد الأعمال جيدها من رديئها. قال الحرالي: ولما ضرب مثلاً لنماء النفقة بالحرث ضرب مثلاً لإبطالها بخطأ الحارث في الحرث فقال: {فمثله} في إنفاقه مقارناً لما يفسده، ومثل نفقته {كمثل صفوان} وما زرع عليه، وهو صيغة مبالغة من الصفا وهي الحجارة الملس الصلبة التي لا تقبل انصداعها بالنبات... {عليه تراب} فاغتر به بعض الجهلة فزرع عليه...
ولما بان بهذا بطلان العمل في المثل والممثول ترجمة بقوله: {لا يقدرون} أي الممثل لهم والممثل بهم {على شيء مما كسبوا} فالآية من الاحتباك
ولما كان الزارع على مثل هذا عجباً في الضلال والغباوة وكان التقدير: فإن الله لا يقبل عمل المؤذين كما لا يقبل عمل المرائين، عطف عليه معلماً أنه يعمي البصراء عن أبين الأمور إذا أراد ومهما شاء فعل قوله: {والله} الذي له الحكمة كلها {لا يهدي} أي لوجه مصلحة.
ولما كان كل من المؤذي والمرائي قد غطى محاسن عمله بما جره من السوء قال: {القوم الكافرين} وفي ذكره لهذه الجملة وحدها أشد ترهيب للمتصدق على هذا الوجه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... الكلام في إحباط المن والأذى للفائدة المقصودة من الصدفة وهي تخفيف بؤس المحتاجين وكشف أذى الفقر عنهم إذا كانت الصدقة على الأفراد، وتنشيط القائمين بخدمة الأمة ومساعدتهم إذا كانت الصدقة في مصلحة عامة. فإذا أتبعت الصدقة بالمن والأذى كان ذلك هدما لما بنته وإبطالا لما عملته. وكل عمل لا يؤدي إلى الغاية المقصودة منه فقد حبط وبطل، كأنه لم يكن. فكيف إذا أتبع بضد الغاية ونقيضها؟ كذلك تكون صلاة المرائي باطلة لأن الغرض منها لم يحصل وهو توجه القلب إلى الله تعالى واستشعار سلطانه والإذعان لعظمته والشكر لإحسانه، وقلب المرائي إنما يتوجه إلى من يرائيه. هذا هو معنى إبطال المن والأذى للصدقة... ووجه الشبه بين المانِّ والمؤذي بصدقته وبين المرائي بنفقته: أن كلا منهما غش نفسه فألبسها ثوب زور يوهم رائيه ما لا حقيقة له، كمن يلبس لبوس العلماء أو الجند وليس منهم، فلا يلبث أن يظهر أمره ويفتضح سره، فيكون ما تلبس به كالتراب على الصفوان يذهب به الوابل، كذلك تكشف الحوادث وما يبتلى به المؤمنون والمنافقون حقيقة هؤلاء وتفضح سرائرهم فهم {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} أي لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم ونفقاتهم ولا يجنون ثمراتها في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا فلأن المن والأذى مما ينافي غاية الصدقة كما تقدم ومن فعلهما كان أبغض إلى الناس من البخيل الممسك... فلا تكاد تجد منانا ولا مرائيا غير مذموم ممقوت. وأما في الآخرة فلأن المن والأذى كالرياء في منافاة الإخلاص ولا ثواب في الآخرة إلا للمخلصين في أعمالهم الذين يتحرون بها سنن الله تعالى في تزكية نفوسهم وإصلاح حال الناس. {والله لا يهدي القوم الكافرين} أي مضت سنته بأن الإيمان هو الذي يهدي قلب صاحبه إلى الإخلاص ووضع النفقات في مواضعها والاحتراس من الإتيان بما يذهب بفائدتها بعد وجودها. فكان الكافر بمقتضى هذه السنة محروما من هذه الهداية التي تجمع لصاحبها بين صلاح القلب والعمل وسعادة الدنيا والآخرة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي هذه الآية مع قوله تعالى {ولا تبطلوا أعمالكم} حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الإبطال: جعل الشيء باطلاً أي زائلاً غير نافع لما أُريدَ منه. فمعنى بطلان العمل عدم ترتّب أثره الشرعي عليه سواء [أكان] العمل واجباً أم كان متطوّعاً به، فإن كان العمل واجباً فبطلانه عدم إِجزائه بحيث لا تبرأ ذمة المكلّف من تكليفه بذلك العمل وذلك إذا اختلّ ركن أو شرط من العمل. وإن كان العمل متطوّعاً به رجع البطلان إلى عدم الثواب على العمل لمانع شرعي من اعتبار ثوابه وهو المراد هنا جمعاً بين أدلة الشريعة.
وقوله: {كالذي ينفق ماله رئاء الناس} الكاف ظرف مستقر هو حال من ضمير تبطلوا، أي لا تكونوا في إتْبَاع صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس وهو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنّما يعطي ليراه الناس وذلك عطاء أهل الجاهلية.
فالموصول من قوله: {كالذي ينفق ماله} مراد به جنس وليس مراد به معَيّناً ولا واحداً، والغرض من هذا التشبيه تفظيع المشبّه به وليس المراد المماثلة في الحكم الشرعي، جمعاً بين الأدلة الشرعية.
والرئاء –بهمزتين- فِعال مِن رأى، وهو أن يُكثر من إظهار أعماله الحسنة للناس، فصيغة الفعال فيه للمبالغة والكثرة، وأَولى الهمزتين أصلية والأخيرة مبدلة عن الياء بعد الألف الزائدة، ويقال رياء بياء بعد الراء على إبدال الهمزة ياء بعد الكسرة. والمعنى تشبيه بعض المتصدّقين المسلمين الذين يتصدّقون طلباً للثواب ويعقبون صدقاتهم بالمَنّ والأذى، بالمنفقين الكافرين الذين ينفقون أموالهم لا يطلبون من إنفاقها إلاّ الرئاء والمدحة إذ هم لا يتطلّبون أجر الآخرة. ووجه الشبه عدم الانتفاع مِمَّا أعطوا بأزيدَ من شفاء ما في صدورهم من حبّ التطاول على الضعفاء وشفاء خُلق الأذى المتطبعين عليه دون نفع في الآخرة. مثَّل حال الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس بحال صفوان عليه تراب يغشيه، يعني يَخاله الناظر تربة كريمة صالحة للبذر، فتقدير الكلام عليه تراب صالحٌ للزرع فحذفت صفة التراب إيجازاً اعتماداً على أنّ التراب الذي يرقب الناس أن يصيبه الوابل هو التراب الذي يبذرون فيه، فإذا زرعه الزارع وأصابه وابل وطمع الزارع في زكاء زرعه، جرفه الماء من وجه الصفوان فلم يترك منه شيئاً وبقي مكانُه صلداً أملس فخاب أمل زارعه. وهذا أحسن وأدّق من أن نجعل المعنى تمثيل إنفاق الكافر بحال تراب على صفوان أصابه وابل فجرفه، وأنّ وجه الشبه هو سرعة الزوال وعدم القرار كقوله تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف} [إبراهيم: 18] فإنّ مورد تلك الآية مقام آخر. ولك أن تجعل كاف التشبيه في قوله تعالى: {كالذي ينفق ماله} صفة لمصدر محذوف دل عليه ما في لفظ صدقاتهم من معنى الإنفاق وحذف مضاف بين الكاف وبين اسم الموصول، والتقدير إنفاقاً كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس.
وقد روعي في هذا التمثيل عكس التمثيل لمن ينفق مالَه في سبيل الله بحبّة أغَلَّتْ سبعمائة حَبَّة. فالتشبيه تشبيه مركب معقول بمركب محسوس. ووجه الشبه الأمل في حالة تغر بالنفع ثم لا تلبث ألاّ تأتي لآملها بما أمَّله فخاب أمله. ذلك أنّ المؤمنين لا يخلون من رجاء حصول الثواب لهم من صدقاتهم، ويكثر أن تعرض الغفلة للمتصدّق فيُتبع صدقته بالمنّ والأذى اندفاعاً مع خواطر خبيثة.
وقوله: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} أوقع موقعاً بديعاً من نظم الكلام تنهال به معانٍ كثيرة فهو بموقعه كان صالحاً لأن يكون حالاً من الذي ينفق ماله رئاء الناس فيكون مندرجاً في الحالة المشبّهة، وإجراء ضمير كسبوا ضمير جمع لتأويل الذي ينفق بالجماعة، وصالحاً لأن يكون حالاً من مثل صفوان باعتبار أنّه مثل على نحو ما جوّز في قوله تعالى: {أو كصيب من السماء} [البقرة: 19] إذ تقديره فيه كمثل ذوي صيّب فلذلك جاء ضميره بصيغة الجمع رعياً للمعنى وإن كان لفظ المعاد مفرداً، وصالحاً لأن يجعل استئنافاً بيانياً لأنّ الكلام الذي قبله يثير سؤال سائل عن مغبة أمر المشبّه، وصالحاً لأن يجعل تذييلاً وفذلكة لضرب المثل فهو عود عن بدء قوله: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} [البقرة: 264] إلى آخر الكلام. وصالحاً لأن يجعل حالاً من صفوان أي لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا منه وحذف عائد الصلة لأنّه ضمير مجرور بما جرّ به اسم الموصول.
ومعنى {لا يقدرون} لا يستطيعون أن يسترجعوه ولا انتفعوا بثوابه فلم يبق لهم منه شيء. ويجوز أن يكون المعنى لا يحسنون وضع شيء ممّا كسبوا موضعه، فهم يبذلون ما لهم لغير فائدة تعود عليهم في آجلهم، بدليل قوله: {الله لا يهدي القوم الكافرين}. والمعنى فتركه صلداً لا يحصدون منه زرعاً كما في قوله: {فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها} [الكهف: 42].
وجملة {والله لا يهدي القوم الكافرين} تذييل والواو اعتراضية وهذا التذييل مسوق لتحذير المؤمنين من تسرّب أحوال الكافرين إلى أعمالهم فإنّ من أحوالهم المنّ على من ينفقون وأذاه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الغنى والفقر أمران لا يخلو الوجود منهما، ولا يمكن أن تخلو أمة من غني وفقير، ما دامت القوى متفاوتة، والفرص لا تواتي الجميع بقدر واحد، والأقدار لا تسعف الجميع في زمن واحد، وما دامت تلك حقيقة مقررة، فعمل الشرائع هو تخفيف ويلات الفقر، ومنع استطالة الغني، ولقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (إن الله امتحن بعض عباده بالفقر، وأمرهم بالصبر، وامتحن الأغنياء بالمال، وأمرهم بالعطاء). و لقد شبه سبحانه وتعالى المن والأذى بالرياء في الصدقة... فشبه سبحانه حال قاصد الخير المنان في إبطال عمله، بحال من لم يقصد خيرا قط، بل الرياء والسمعة، وهو من فعل الشرك الخفي، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك"...
و لهذا الفارق الجوهري بين المنفق المنان، والمنفق رئاء الناس، ذكر الله عمل الأول بأنه صدقة، فقال سبحانه: [يأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى] ولم يصف عمل الثاني بأنه صدقة، ولا في سبيل الله، ولذا قال سبحانه: [كالذي ينفق ماله رئاء الناس] فما الصدقة ابتغاها ولا الخير أراده، بل الشر كل الشر ما عمله...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وفي الآية الثانية من هذا الربع نداء كريم من الرحمن الرحيم إلى عباده المؤمنين بأعز صفاتهم وأكرمها عند الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}. ثم إرشاد لهم إلى أن يتفادوا الأثر السيئ الذي ينشأ عن امتنان المتصدقين بصدقتهم وأذاهم للمتصدق عليهم، حيث يحبط الله عملهم، ولا يقبل صدقتهم، بل تكون وبالا على صاحبها، بدلا من أن تكون بركة وخيرا له وللمنتفع بها {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}. وفي نفس الوقت نبه القرآن الكريم إلى أن الصدقة الحقيقية التي يقبلها الله هي الصدقة التي تنبعث عن مجرد الإخلاص والإيمان بدافع قلبي صادق، بحيث لا يبتغي من بذلها من ورائها إلا طاعة الله وامتثال أمره في الإحسان إلى إخوانه مما رزقه الله، ابتغاء مرضاة الله بالخصوص، وبحيث لا ينتظر عنها أي تعويض مادي أو أدبي، لا شكرا ممن أعطيت له، ولا ذكرا بين بقية الناس، وإن كان صانع الخير بنية صالحة مع الله لا يلقى من ربه ومن عباده إلا الخير {إِنَّ الذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجعَلُ لَهُم الرَّحمَانُ وُداًّ}. وهذا التوجيه الإسلامي هو المقصود من التنظير الذي جاء في الآية الكريمة {كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}. بعد قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى}...
إن الله غني بقدرته المطلقة، غني وقادر أن يستبدل بالقوم البخلاء قوما يسخون بما أفاء الله عليهم من رزق في سبيل الله. فالذي يمسك عن العطاء إنما منع عن نفسه باب رحمة...
فالذي يتصدق ويتبع صدقته بالمن والأذى، إنما يُبطل صدقته، وخسارته تكون خسارتين:
الخسارة الأولى أنه أنقص ماله بالفعل؛ لأن الله لن يعوّض عليه؛ لأنه أتبع الصدقة بما يبطلها من المن والأذى،
والخسارة الأخرى هي الحرمان من الثواب؛ فالذي ينفق ليقول الناس عنه إنه ينفق، عليه أن يعرف أن الحق يوضح لنا: أنه يعطي الأجر على قاعدة أن الذي يدفع الأجر هو من عملت له العمل...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المنّ والأذى عند إنفاقهم في سبيل الله، لأنّ ذلك يحبط أعمالهم. ثمّ يضرب القرآن مثلاً للإنفاق المقترن بالمنّ والأذى، ومثلاً آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية. يقول تعالى في المثال الأوّل: {فمثله كمثل صفوان عليه تراب...}.
تصوّر قطعة حجر صلد تغطّيه طبقة خفيفة من التراب، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة، ثمّ عرّض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئاً سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور، وهذا ليس لأنّ أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سيء، بل لأنّ البذر لم يزرع في المكان المناسب، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه. قشرة خارجية من التربة لا تعين على نموّ النبات الذي يتطلّب الوصول إلى الأعماق لتتغذّى الجذور. ويشبّه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنّة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة من التربة التي تغطّي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها، بل أنّها بمظهرها تخدع الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح. هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية الأولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المنّ والأذى.
وفي نهاية الآية يقول تعالى: {والله لا يهدي القوم الكافرين} وهو إشارة إلى أنّ الله تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية، لأنّهم أقدموا على الرياء والمنّة والأذى بإقدامهم، واختاروا طريق الكفر باختيارهم، ومثل هذا الشخص لا يليق بالهداية، وبذلك وضع القرآن الكريم الإنفاق مع الرياء والمنّة والأذى في عرض واحد.