البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (264)

الرئاء : فعال مصدر من راء من الرؤية ، ويجوز إبدال همزته ياء لكسرة ما قبلها ، وهو أن يرى الناس ما يفعله من البر حتى يثنوا عليه ويعظموه بذلك لا نية له غير ذلك .

الصفوان : الحجر الكبير الأملس ، وتحريك فائه بالفتح لغة ، وقيل : هو اسم جنس واحده صفوانة .

وقال الكسائي : الصفوان واحده صفي ، وانكره المبرد ، وقال : صفي جمع صفا نحو : عصا وعصي ، وقفا وقفي .

وقال الكسائي أيضاً : صفوان واحد ، وجمعه صِفوان بكر الصاد .

وقاله النحاس : يجوز أن يكون المكسور الصاد واحداً .

وما قاله الكسائي غير صحيح ، بل صِفوان جمع لصفا .

كورل وورلان ، وإخ وإخوان .

وكرى وكروان .

التراب : معروف ويقال فيه توراب ، وترب الرجل افتقر ، واترب استغنى ، الهمزة فيه للسلب ، أي : زال عنه الترب وهو القر ، وإذا زال عنه كان غنياً .

الوابل : المطر الشديد ، وبلت السماء تبل ، والأرض موبولة .

وقال النضر : أول ما يكون المطر رشاً ، ثم طساً ، ثم طلاًّ ، ورذاذاً ، ثم نضحاً وهو قطرتين قطرتين ، ثم هطلاً وتهتاناً ثم وابلاً وجوداً .

والوبيل : الوخيم ، والوبيل : العصي الغليظة ، والبيلة حزمة الحطب .

الصلد : الأجرد الأملس النقي من التراب الذي كان عليه ، ومنه صلد جبين الأصلع برق .

يقال : صلد يصلد صلداً .

بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان .

وقال النقاش : الصلد الأجرد بلغة هذيل .

وحكى أبان بن تغلب : أن الصلد هو اللين من الحجارة .

وقال علي بن عيسى : الصلد ، الخالي من الخير من الحجارة والأرضين وغيرهما ، ومنه : قدر صلود : بطيئة الغليان .

{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } لما شرط في الإنفاق أن لا يتبع مناً ولا أذىً ، لم يكتفِ بذلك حتى جعل المن والأذى مبطلاً للصدقة ، ونهى عن الإبطال بهما ليقوي اجتناب المؤمن لهما ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان .

ولما جرى ذكر المن والأذى مرتين ، أعادهما هنا بالألف واللام ، ودلت الآية على أن المن والأذى مبطلان للصدقة ، ومعنى إبطالهما أنه لا ثواب فيها عند الله .

والسُّدي يعتقد أن السيئات لا تبطل الحسنات ، فقال جمهور العلماء : الصدقة التي يعلم الله من صاحبها انه يمن ويؤذى لا تتقبل ، وقيل : جعل الله للملك عليها إمارة ، فهو لا يكتبها إذ نيته لم تكن لوجه الله .

ومعنى قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم } أي : لا تأتوا بهذا العمل باطلاً ، لأنه إذا قصد به غير وجه الله فقد أتى به على جهة البطلان .

وقال القاضي عبد الجبار : معلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدّمت ، فلا يصح أن تبطل .

فالمراد إذن إبطال أجرها ، لأن الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصير إبطاله بما يأتيه من المن والأذى .

انتهى كلامه .

والمعنيان تحملهما الآية ، ولتعظيم قبح المن أعاد الله ذلك في معارض الكلام ، فأثنى على تاركه أولاً وفضل المنع على عطية يتبعها المن ثانياً .

وصرح بالنهي عنها ثالثاً ، وخص الصدقة بالنهي إذ كان المن فيها أعظم وأشنع .

والظاهر أن قوله : بالمن ، معناه على الفقير ، وهو قول الجمهور .

وقال ابن عباس : بالمن على الله تعالى بسبب صدقته ، والأذى للسائل .

و : الكاف ، قيل في موضع نعت لمصدر محذوف تقديره إبطالاً ، كابطال صدقة الذي ينفق ، وقيل : الكاف في موضع الحال ، أي : لا تبطلوا مشبهين الذي ينفق ماله بالرياء .

وفي هذا المنافق قولان :

أحدهما : أنه المنافق ، ولم يذكر الزمخشري غيره ينفق للسمعة وليقال إنه سخي كريم ، هذه نيته ، لا ينفق لرضا الله .

وطلب ثواب الآخرة ، لأنه في الباطن لا يؤمن بالله واليوم الآخر .

وقيل : المراد به الكافر المجاهر ، وذلك بإنفاقه لقول الناس : ما أكرمه وأفضله ولا يريد بإنفاقه إلاَّ الثناء عليه ، ورجح مكي القول الأول بأنه أضاف إليه الرياء ، وذلك من فعل المنافق الساتر لكفره ، وأما الكافر فليس عنده رياء لأنه مناصب للدّين مجاهر بكفره .

وانتصاب رئاء على أنه مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال .

وقرأ طلحة بي مصرف : رياءً بابدال الهمزة الأولى ياءً لكسر ما قبلها ، وهي مروية عن عاصم .

{ فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا } هذا تشبيه ثان ، واختلف في الضمير في قوله : { فمثله } فأظاهر أنه عائد على { الذي ينفق ماله رئاء الناس } لقربه منه ، ولإفراده ضرب الله لهذا المنافق المرائي ، أو الكافر المباهي ، المثل بصفوان عليه تراب ، يظنه الظان أرضاً منبتة طيبة ، فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب ، فيبقى صلداً منكشفاً ، وأخلف ما ظنه الظان ، كذلك هذا المنافق يرى الناس أن له أعمالاً كما يُرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحلت وبطلت ، كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب .

وقيل : الضمير في { فمثله } عائد على المانِّ المؤذي ، وأنه شبه بشيئين أحدهما : بالذي ينفق ماله رئاء الناس ، والثاني : بصفوان عليه تراب ، ويكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى افراد .

قال القاضي عبد الجبار : ذكر تعالى لكيفية إبطال الصدقة بالمنّ والأذى مثلين ، فمثله أولاً بمن ينفق ماله رئاء الناس ، وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، لأن إبطال نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها بالمنّ والأذى .

ثم مثله ثانياً بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار .

ثم إذا أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما عليه تراب ولا غبار أصلاً ، قال : فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان ، فكذا المنّ والأذى يجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريح القول في الإحاطة والتكفير .

انتهى كلامه .

وهو مبني على ما قدّمناه عنه في القول في الإحباط والتكفير في قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم } من أن الصدقة وقعت صحيحة ثم بطلت بالمنّ والأذى ، وتقدّم القول بأن المعنى : لا توقعوها باطلة ، ويدل على هذا المعنى التشبيه بقوله : كالذي ينفق ، فان نفقته وقعت باطلة لمقارنة الكفر لها ، فيمتنع دخولها صحيحة في الوجود .

وأما التمثيل الثاني فإنه عند عبد الجيار وأصحابه ، جعل الوابل مزيلاً لذلك التراب بعد كينونته عليه ، فكذلك المنّ والأذى مزيلان للأجر بعد حصول استحقاقه ، وعند غيرهم أن المشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو الصدقة المقترنة بالنية الفاسدة التي لولاها لكانت الصدقة مرتباً عليها حصول الأجر والثواب .

قيل : والحمل على هذا المعنى أولى ، لأن التراب إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقاً به ، ولا غائصاً فيه ، فهو في مرأى العين متصل ، وفي الحقيقة منفصل .

فكذا الإنفاق المقرون بالمنّ والأذى ، يرى في الظاهر أنه عمل بر وفي الحقيقة ليس كذلك ، وعلى هذين القولين يكون التقدير : لا تبطلوا أجور صدقاتكم ، أو : لا تبطلوا أصل صدقاتكم .

وقرأ ابن المسيب ، والزهري : صفوان بفتح الفاء ، قيل : وهو شاذ في الأسماع .

إنما بابه المصادر : كالغليان والتروان ، وفي الصفات نحو : رجل صيمان ، وتيس عدوان .

وارتفع تراب على الفاعلية ، أي : استقر عليه تراب ، فأصابه وابل .

و : فأصابه ، معطوف على ذلك الفعل الرافع للتراب ، والضمير في : فأصابه ، عائد على الصفوان ، ويحتمل أن يعود على التراب ، وفي : فتركه ، عائد على الصفوان .

وهذه الجملة جعل فيها العمل الظاهر : كالتراب ، والمانّ المؤذي ، أو المنافق كالصفوان ، ويوم القيامة كالوابل ، وعلى قول المعتزلة : المنّ والأذى كالوابل .

وقال القفال : وفيه احتمال آخر ، وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة ، فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض طيبة ، فهو يتضاعف له وينمو ، ألا ترى أنه ضرب المثل في ذلك بجنة فوق ربوة ؟ فهو يجده وقت الحاجة إليه .

وأما المان والمؤذي والمنافق ، فكمن بذر في الصفوان لا يقبل بذراً ولا ينمو فيه شيء ، عليه غبار قليل أصابه جود فبقي مستودع بذر خالياً ، فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً .

انتهى ما لخص من كلامه .

وحاصله : أن التشبيه انطوى من حيث المعنى على بذر وزرع .

{ لا يقدرون على شيء مما كسبوا } اختلف في الضمير في : يقدرون ، فقيل : هو عائد على المخاطبين في قوله : { لا تبطلوا صدقاتكم } ويكون من باب الالتفات ، إذ هو رجوع من خطاب إلى غيبة ، والمعنى : أنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على الانتفاع بشيء مما كسبتم ، وهذا فيه بعد .

وقيل : هو عائد على { الذي ينفق } لأن : كالذي جنس ، فلك أن تراعي لفظه كما في قوله : { ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن } فأفرد الضمير ، ولك أن تراعي المعنى ، لأن معناه جمع ، وصار هذا { كمثل الذي استوقدج ناراً فلما أضاءت ما حوله } ثم قال : { ذهب الله بنورهم }

قال ابن عطية : وقد انحمل الكلام قبل على لفظ : الذي ، وهذا هو مهيع كلام العرب ، ولو انحمل أولاً على المعنى لقبح بعد أن يحمل على اللفظ .

انتهى كلامه .

وقد تقدّم لنا الكلام معه في شيء من هذا ، وفي الحمل على اللفظ أو المعنى تفصيل لا يوجد إلاَّ في مبسوطات النحو .

وقيل : هو عائد على معلوم غير مذكور المعنى لا يقدر أحد من الخلق على الانتفاع بذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي على الصفوان ، لأنه زال ذلك التراب وزال ما كان فيه ، فكذلك المان والمؤذي والمنافق ، لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة .

وقيل : هو عائد على المرائي الكافر أو المنافق ، أو على المان ، أي : لا يقدرون على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم ، وهو كسبهم ، عند حاجتهم إليه ، وعبروا عن النفقة بالكسب لأنهم قصدوا بها الكسب ، وهذا كقوله تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وقوله : { أعمالهم كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف } الآية .

وقوله : { أعمالهم كسراب بقيعة } ويكفي من ذكر العمل لغير وجه الله حديث الثلاثة الذين هم أوّل الناس يقضى عليه يوم القيامة ، وهو : المستشهد والعالم والجواد .

{ والله لا يهدي القوم الكافرين } يعني الموافقين على الكفر ، ولا يهديهم في كفرهم بل هو ضلال محض .

أو : لا يهديهم في أعمالهم وهم على الكفر ، وفي هذا ترجح لمن قال : إن ضرب المثل عائد على الكافر .