معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } ، أي : القرآن كتاب مبارك أنزلناه .

قوله تعالى : { مصدق الذي بين يديه ولتنذر } ، يا محمد ، قرأ أبو بكر عن عاصم { ولينذر } بالياء ، أي : ولينذر الكتاب .

قوله تعالى : { أم القرى } ، يعني : مكة ، سميت أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها ، فهي أصل الأرض كلها ، كالأم أصل النسل ، وأراد أهل أم القرى .

قوله تعالى : { ومن حولها } ، أي : أهل الأرض كلها شرقاً وغرباً .

قوله تعالى : { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } ، بالكتاب .

قوله تعالى : { وهم على صلاتهم } ، يعني : الصلوات الخمس .

قوله تعالى : { يحافظون } ، يداومون ، يعني : المؤمنين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

وبعد أن أبطل - سبحانه - بالدليل قول من قال { مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } أتبعه ببيان أن هذا القرآن من عند الله وأنه مصدق للكتب السماوية السابقة ومهيمن عليها فقال - تعالى - :

{ وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } .

والمعنى : وهذا القرآن كتاب أنزلناه على قلبك يا محمد وهذا الكتاب من صفاته أنه مبارك أى : كثير الفوائد لاشتماله على منافع الدين والدنيا .

والمبارك اسم مفعول من باركه وبارك فيه ، إذا جعل له البركة ، ومعناها كثرة الخير ونماؤه .

وقدم هنا وصفه بالإنزال على وصفه بالبركة بخلاف قوله " وهذا ذكر مبارك أنزلناه " لأن الأهم هنا وصفه بالإنزال ، إذ جاء عقيب إنكارهم أن ينزل الله على بشر من شىء بخلافه هناك .

ووقعت الصفة الأولى جملة فعلية لأن الإنزال يتجدد وقتا فوقتا ، والثانية اسمية لأن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار وهو مقصود هنا أى : أن بركته ثابتة مستقرة .

قال الإمام الرازى : العلوم إما نظرية وإما عملية ، أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ، ولا ترى فى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده فى هذا الكتاب ، وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح ، وإما أعمال القلب ، وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ، ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده فى هذا الكتاب ، ثم قد جرت سنة الله بأن الباحث فيه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة .

وقوله { مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } أى أن هذا القرآن موافق ومؤيد للكتب التى قبله فى إثبات التوحيد ونفى الشرك ، وفى سائر أصول الشرائع التى لا تنسخ .

وقوله : { وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا } أى : ولتنذر بهذا الكتاب أم القرى أى مكة ، ومن حولها من أطراف الأرض شرقا وغربا لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم قال - تعالى - { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } وقال - تعالى - { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } وسميت مكة بأم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم ، ولأنها أعظم القرى شأنا وغيرها كالتبع لها كما يتبع الفرع الأصل ، وفى ذكرها بهذا الاسم المبنىء عما ذكر إشعار بأن إنذار أهلها مستتبع لإنذار أهل الأرض كافة .

ووجه الاقتصار على مكة ومن حوهلا فى هذه الآية أنهم الذين جرى الكلام والجدال معهم فى قوله - تعالى - قبل ذلك

{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق } قال الآلوسى : ويمكن أن يقال خصهم بالذكر لأنهم الأحق بإنذاره صلى الله عليه وسلم فهو كقوله - تعالى - : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه " .

وقال صاحب المنار " وزعم بعض اليهود المتقدمين وغيرهم أن المراد بمن حولها بلاد العرب فخصه بمن قرب منها عرفا ، واستدلوا به على أن بعثة النبى صلى الله عليه وسلم خاصة بقومه العرب .

والاستدلال باطل وإن سلم التخصيص المذكور ، فإن إرساله إلى قومه لا ينافى إرساله إلى غيرهم ، وقد ثبت عموم بعثته صلى الله عليه وسلم من آيات أخرى كقوله - تعالى - { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } وقوله : { والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ } .

أى : والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يؤمنون بهذا الكتاب الذى أنزله الله هداية ورحمة لأن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ، وحرص على العمل الصالح الذى ينفعه .

ثم ختمت الآية بهذا الثناء الجميل عليهم فقالت { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أى يؤدونها فى أوقاتها مقيمين لأركانها وآدابها فى خشوع واطمئنان ، وخصت الصلاة بالذكر لكونها أشرف العبادات وأعظمها خطراً بعد الإيمان .

قال الإمام الرازى : " ويكفيها شرفا أنه لم يقع اسم الإيمان على شىء من العبادات الظاهرة إلا عليها كما فى قوله - تعالى - { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } إى صلاتكم ، ولم يقع اسم الكفر على شىء من المعاصى إلا على ترك الصلاة ، ففى الحديث الشريف " من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر " فلا اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر فى هذا المقام " .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهََذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مّصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَىَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَىَ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } . .

يقول تعالى ذكره : وَهَذَا القرآن يا محمد كِتابٌ وهو اسم من أسماء القرآن قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته . ومعناه : مكتوب ، فوضع الكتاب مكان المكتوب . أنْزَلْناهُ يقول : أوحيناه إليك ، مُبارَكٌ وهو مفاعل من البركة ، مُصَدّقٌ الّذِي بينَ يَدَيْهِ يقول : صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه قبلك ، لم يخالفها ولا بنبأ ، وهو معنى «نورا وهدى للناس » ، يقول : هو الذي أنزل إليك يا محمد هذا الكتاب مباركا مصدّقا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله ، ولكنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عنه ، إذ كان قد تقدّم الخبر عن ذلك ما يدلّ على أنه به متصل ، فقال : وهذا كتاب أنزلناه إليك مبارك ، ومعناه : وكذلك أنزلت إليك كتابي هذا مباركا ، كالذي أنزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورا .

وأما قوله : وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا فإنه يقول : أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب مصدّقا ما قبله من الكتب ، ولتنذر به عذاب الله وبأسه من في أمّ القرى وهي مكة ومن حولها شرقا وغربا من العادلين بربهم غيره من الاَلهة والأنداد ، والجاحدين برسله وغيرهم من أصناف الكفار .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا يعني بأمّ القرى : مكة ومن حولها من القرى إلى المشرق والمغرب .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وأمّ القرى : مكة ، ومَنْ حَوْلَها : الأرض كلها .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى قال : هي مكة . وبه عن معمر ، عن قتادة ، قال : بلغني أن الأرض دُحِيت من مكة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلِتُنْذِرَ أُمّ القُرَى وَمَن حَوْلَهَا كنا نحدّث أن أمّ القرى : مكة ، وكنا نحدّث أن منها دُحيت الأرض .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِتُنْذِرَ أُم القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا أما أمّ القرى : فهي مكة وإنما سميت أمّ القرى ، لأنها أول بيت وضع بها . وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة أمّ القرى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

القول في تأويل قوله تعالى : والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالاَخِرةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ .

يقول تعالى ذكره : ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعاد في الاَخرة إلى الله ويصدق بالثواب والعقاب ، فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزلناه إليك يا محمد ويصدّق به ويقرّ بأن الله أنزله ، ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمره الله بإقامتها لأنه منذر من بلغه وعيد الله على الكفر به وعلى معاصيه ، وإنما يجحد به وبما فيه ويكذب أهل التكذيب بالمعاد والجحود لقيام الساعة ، لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابا ، ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك } كثير الفائدة والنفع . { مصدق الذي بين يديه } يعني التوراة أو الكتب التي قبله . { ولتنذر أم القرى } عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات ولتنذر أو علة لمحذوف أي ولتنذر أهل أم القرى أنزلناه ، وإنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأنا . وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها ، أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس . وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء " ولينذر " الكتاب . { ومن حولها } أهل الشرق والغرب . { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون } فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب ، والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

{ وهذا كتاب } عطف على جملة { قل الله } [ الأنعام : 91 ] ، أي وقل لهم الله أنزل الكتاب على موسى وهذا كتاب أنزلناه . والإشارة إلى القرآن لأنّ المحاولة في شأنه من ادّعائهم نفي نزوله من عند الله ، ومن تبكيتهم بإنزال التّوراة ، يجعل القرآن كالحاضر المشاهد ، فأتي باسم الإشارة لزيادة تمييزه تقوية لحضوره في الأذهان .

وافتتاح الكلام باسم الإشارة المفيد تمييز الكتاب أكمل تمييز ، وبناءُ فعل { أنزلنا } على خبر اسم الإشارة ، وهو { كتاب } الّذي هو عينه في المعنى ، لإفادة التّقوية ، كأنّه قيل : وهَذا أنزلناه .

وجَعْل { كتاب } الّذي حقّه أن يكون مفعول { أنزلنا } مسنداً إليه ، ونصب فعل { أنزلنا } لضميره ، لإفادة تحقيق إنزاله بالتّعبير عنه مرّتين ، وذلك كلّه للتّنويه بشأن هذا الكتاب .

وجملة : { أنزلناه } يجوز أن تكون حالاً من اسم الإشارة ، أو معترضة بينه وبين خبره . و { مبارك } خبر ثان . والمبارك اسم مفعول من بَاركه ، وبارك عليه ، وبارك فيه ، وبارك له ، إذا جعل له البركة . والبركة كثرة الخير ونماؤه يقال : باركه . قال تعالى : { أن بُورك من في النّار ومن حولها } [ النمل : 8 ] ، ويقال : بارك فيه ، قال تعالى : { وبارك فيها } [ فصلت : 10 ] .

ولعلّ قولهم ( بارك فيه ) إنّما يتعلّق به ما كانت البركة حاصلة للغير في زمنه أو مكانه ، وأمّا ( باركه ) فيتعلّق به ما كانت البركة صفة له ، و ( بَارك عليه ) جعل البركة متمكّنة منه ، ( وبارك له ) جعل أشياء مباركة لأجله ، أي بارك فيما له .

والقرآن مبارَك لأنّه يدلّ على الخير العظيم ، فالبركة كائنة به ، فكأنّ البركة جعلت في ألفاظه ، ولأنّ الله تعالى قد أودع فيه بركة لقارئه المشتغل به بركة في الدّنيا وفي الآخرة ، ولأنّه مشتمل على ما في العمل به كمال النّفس وطهارتها بالمعارف النّظريّة ثمّ العمليّة . فكانت البركة ملازمة لقراءته وفهمه . قال فخر الدّين « قد جرت سنّة الله تعالى بأنّ الباحث عنه ( أي عن هذا الكتاب ) المتمسّك به يحصل له عزّ الدّنيا وسعادة الآخرة . وأنا قد نقلت أنواعاً من العلوم النّقليّة والعقليّة فلم يَحْصُل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السّعادات في الدّنيا مثلُ ما حصل لي بسبب خدمة هذا العلم ( يعني التّفسير ) .

و { مصدّق } خبر عن { كتاب } بدون عطف . والمُصدّق تقدّم عند قوله تعالى : { مُصدّقاً لما بين يَديه } في سورة [ البقرة : 97 ] ، وقوله { ومصدّقاً لما بين يدي } وفي سورة [ آل عمران : 50 ] . والّذي } من قوله : { الّذي بين يديه } اسم موصول مراد به معنى جَمع . وإذ قد كان جمع الّذي وهو لا يستعمل في كلام العرب إلاّ إذا أريد به العَاقل وشِبهه ، نحو { إنّ الّذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم } [ الأعراف : 194 ] لتنزيل الأصنام منزلة العاقل في استعمال الكلام عرفاً . فلا يستعمل في جمع غير العاقل إلاّ الّذي المفرد ، نحو قوله تعالى : { والّذي جاء بالصّدق وصدّق به أولئك هم المتّقون } [ الزمر : 33 ] .

والمراد ب { الّذي بين يديه } ما تقدّمه من كتب الأنبياء ، وأخصّها التّوراة والإنجيل والزّبور ، لأنّها آخر ما تداوله النّاس من الكتب المنزّلة على الأنبياء ، وهو مصدّق الكتب النّازلة قبل هذه الثّلاثة وهي صحف إبراهيم وموسى .

ومعنى كون القرآن مصدّقها من وجهين ، أحدهما : أنّ في هذه الكتب الوعد بمجيء الرّسول المقفّى على نبوءة أصحاب تلك الكتب ، فمجيء القرآن قد أظهر صدق ما وعدت به تلك الكتب ودلّ على أنّها من عند الله .

وثانيهما : أنّ القرآن مصدّق أنبيائها وصدّقها وذكر نورها وهداها ، وجاء بما جاءت به من أصول الدّين والشّريعة . ثم إنّ ما جاء به من الأحكام الّتي لم تكن ثابتة فيها لا يخالفها . وأمّا ما جاء به من الأحكام المخالفة للأحكام المذكورة فيها من فروع الشّريعة فذلك قد يبيّن فيه أنّه لأجل اختلاف المصالح ، أو لأنّ الله أراد التّيسير بهذه الأمّة .

ومعنى : { بين يديه } ما سبقه ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { فإنّه نزّله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه } في سورة [ البقرة : 97 ] ، وعند قوله : { ومصّدقاً لما بين يديّ من التّوراة } في سورة [ آل عمران : 50 ] .

وأمّا جملة { ولتنذر أمّ القرى } فوجود واو العطف في أوّلها مانع من تعليق { لتنذر } بفعل { أنزلناه } ، ومِن جعْل المجرور خبراً عن { كتاب } خلافاً للتفتزاني ، إذ الخبر إذا كان مجروراً لا يقترن بواو العطف ولا نظير لذاك في الاستعمال ، فوجود لام التّعليل مع الواو مانع من جعلها خبراً آخر ل { كتاب } ، فلا محيص عند توجيه انتظامها مع ما قبلها من تقدير محذوف أو تأويل بعض ألفاظها ، والوجه عندي أنّه معطوف على مقدّر ينبىء عنه السّياق . والتّقدير : ليُؤمن أهل الكتاب بتصديقه ولتنذر المشركين . ومثل هذا التّقدير يطّرد في نظائر هذه الآية بحسب ما يناسب أن يقدّر . وهذا من أفانين الاستعمال الفصيح . ونظيره قوله تعالى : { هذا بلاغ للنّاس ولِينْذروا به وليعلموا أنّما هو إله واحد وليذّكّر أولوا الألباب } في سورة [ إبراهيم : 52 ] .

ووقع في « الكشاف » أنّ { ولتنذر } معطوف على ما دلّت عليه صفة الكتاب ، كأنّه قيل : أنزلناه للبركات وتصديققِ ما تقدّمَه والإنذارِ اه . وهذا وإن استتبّ في هذه الآية فهو لا يحسن في آية سورة إبراهيم ، لأنّ لفظ « بلاغ » اسم ليس فيه ما يشعر بالتّعليل ، و« للنّاس » متعلّق به واللاّم فيه للتّبليغ لا للتّعليل ، فتعيّن تقدير شيء بعده نحو لينتبهوا أو لئلاّ يؤخذوا على غفلة وليُنْذَروا به .

والإنذار : الإخبار بما فيه توقّع ضرّ ، وضدّه البشارة . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { إنّا أرسلناك بالحقّ بشيراً ونذيراً } في سورة [ البقرة : 119 ] . واقتُصر عليه لأنّ المقصود تخويف المشركين إذ قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] .

وأمّ القرى : مَكّة ، وأمّ الشيء استعارة شائعة في الأمر الّذي يُرجع إليه ويلتفّ حوله ، وحقيقة الأمّ الأنثى الّتي تلد الطفل فيرجع الولد إليها ويلازمها ، وشاعت استعارة الأمّ للأصل والمرجع حتّى صارت حقيقة ، ومنه سمّيت الراية أمّاً ، وسُمّي أعلى الرأس أمّ الرأس ، والفاتحة أمّ القرآن .

وقد تقدّم ذلك في تسمية الفاتحة . وإنّما سمّيت مكّة أمّ القرى لأنّها أقدم القرى وأشهرها وما تقرّت القرى في بلاد العرب إلاّ بعدها ، فسمّاها العرب أمّ القرى ، وكان عرب الحجاز قبلها سكّان خيام .

وإنذار أمّ القرى بإنذار أهلِها ، وهذا من مجاز الحذف كقوله تعالى : { واسألْ القرية } [ يوسف : 82 ] ، وقد دلّ عليه قوله { ومن حولها } ، أي القبائل القاطنة حول مكّة مثل خُزاعة ، وسعد بن بَكْر ، وهوازن ، وثقيف ، وكنانة .

ووجه الاقتصار على أهل مكّة ومن حولها في هذه الآية أنّهم الّذين جرى الكلام والجدال معهم من قوله : { وكذّب به قومك وهو الحقّ } [ الأنعام : 66 ] ، إذ السّورة مكّية وليس في التّعليل ما يقتضي حصر الإنذار بالقرآن فيهم حتّى نتكلّف الادّعاء أنّ { من حولها } مراد به جميع أهل الأرض .

وقرأ الجمهور { ولتنذر أمّ القرى } بالخطاب ، وقرأه أبو بكر وحده عن عاصم { ولينذر } بياء الغائب على أن يكون الضّمير عائداً إلى { كتاب } .

وقوله : { والّذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } احتراس من شمول الإنذار للمؤمنين الّذين هم يومئذٍ بمكّة وحولها المعروفون بهذه الصّلة دون غيرهم من أهل مكّة ، ولذلك عبّر عنهم بهذا الموصول لكونه كاللّقب لهم ، وهو مميّزهم عن أهل الشّرك لأنّ أهل الشّرك أنكروا الآخرة . وليس في هذا الموصول إيذان بالتّعليل ، فإنّ اليهود والنّصارى يؤمنون بالآخرة ولم يؤمنوا بالقرآن ولكنّهم لم يكونوا من أهل مكّة يومئذٍ .

وأخبر عن المؤمنين بأنّهم يؤمنون بالقرآن تعريضاً بأنّهم غير مقصودين بالإنذار فيعلم أنّهم أحقّاء بضدّه وهو البشارة .

وزادهم ثناء بقوله : { وهم على صلاتهم يحافظون } إيذاناً بكمال إيمانهم وصدقه ، إذ كانت الصّلاة هي العمل المختصّ بالمسلمين ، فإنّ الحجّ كان يفعله المسلمون والمشركون ، وهذا كقوله : { هدى للمتّقين الّذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصّلاة } [ البقرة : 2 ، 3 ] ولم يكن الححّ مشروعاً للمسلمين في مدّة نزول هذه السّورة .