تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

الآية 92 وقوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } قيل : القرآن { أنزلناه مبارك } سماه مرة مباركا ، ومرة هدى ورحمة ، ومرة شفاء ، ومجيدا ، وكريما ، وحكيما ، وليس يوصف هو في الحقيقة ب : نور ولا مبارك ولا رحمة ولا هدى ولا شفاء ، ولا مجيد ولا كريم ولا حكيم لأنه صفة ، ولا يكون للصفة صفة توصف بها ، ولو كان هو في الحقيقة نورا ورحمة وهدى أو ما ذكر .

فلما ذكر أنه { عمى } على بعض{[7438]} ، وأخبر أنه يزيدهم{[7439]} بذلك رجسا إلى رجسهم ، دل أنه ليس هو في الحقيقة كذلك ، لأنه لو كان كذلك لكان لكل أحد . لكن سماه بهذه الأسماء ؛ سماه نورا لما يصير نورا للمسترشدين ، ويصير شفاء ورحمة للمتقين{[7440]} ليشفوا الداء الذي يحل في الدين ، وسماه روحا لما يحيي به الدين ، وسماه حكيما لما يصير من عرف بواطنه ، واتبعه ، حكيما ، وكذلك سماه مجيدا كريما لما يدعو الخلق إلى المجد والكرم ؛ فمن اتبعه تخلق بأخلاق حميد ، فيصير مجيدا كريما . وسماه مباركا لما به تنال كل بركة ، والبركة اسم لكل ما يثمر ، وينمو في الحادث ؛ فمن اتبعه نال به كل بر وخير وكل ثمرة ، ونما في الحادث . هذا وجه الوصف بما ذكرنا .

وقوله تعالى : { مصدق الذي بين يديه } من الكتب لأنه كان يدعو الخلق إلى ما كانت تدعو سائر الكتب التي أنزلها [ الله ]{[7441]} على الرسل من توحيد الله والنهي عن إشراك غيره في الألوهية والربوبية ، وتدعو إلى كل عدل وإحسان ، وتنهى عن كل فاحشة ومنكر ، وكذلك سائر الكتب دعت الخلق إلى دعاء هذا ؛ لم يخالف بعضهم بعضا ، بل كانت موافقة بعضها البعض . لذلك قال : { مصدق الذي بين يديه } [ والله أعلم ]{[7442]} .

وقوله تعالى : { ولتنذر أم القرى ومن حولها } قيل{[7443]} : أم القرى مكة ، وسميت أم القرى لوجهين :

أحدهما : لأنها متقدمة ، ومنها دحيت الأرض على ما ذكر أهل التأويل .

والثاني : سميت أم القرى لأنها مقصد الخلق في الحج ؛ وفيها تقضى{[7444]} المناسك ، وإليها يقصدون ، ويؤمون ، وإليها يتوجهون في الصلوات . وهي مقصد أهل القرى . وقوله عز وجل { ولتنذر أم القرى } أي أهل أم القرى .

وقوله تعالى : { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } فإن قيل : أخبر أن من آمن بالبعث يؤمن بهذا الكتاب ، وأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ، ولا يؤمنون به ، فما معناه ؟ قيل : يحتمل هذا وجوها :

أحدها : أن يكون هذا من قوم مخصوصين ؛ إذا آمنوا بالبعث آمنوا به كقوله تعالى : { أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [ البقرة : 6 ويس : 10 ] هذا من قوم مخصوصين ، لأنه قد آمن كثير منهم بالإنذار ، فعلى ذلك الأول .

والثاني : قوله تعالى : { والذين يؤمنون بالآخرة } بالعلم والحجج آمنوا بالقرآن لأن القرآن جاء في تأييد حجج البعث وتأكيده فلا يجوز أن يؤمنوا بما يؤيده القرآن ، ولا يؤمنوا بالقرآن .

والثالث : يحتمل أن يكون إخبارا عن أوائلهم أنهم كانوا مؤمنين بالبعث بالآيات والحجج راغبين فيه . فلما جاء آمنوا به ، وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين [ لأنه ]{[7445]} أخبر أنهم آمنوا بالآخرة ، وآمنوا بالقرآن . ألا ترى أنه قال : { وهم على صلاتهم يحافظون } ؟

ويحتمل { والذين يؤمنون بالآخرة } يحق لهم أن يؤمنوا بالقرآن لأنه به يتزود للآخرة . ويحتمل ما ذكرنا من الوجوه .


[7438]:- إشارة إلى قوله تعالى: {وهو عليهم عمى} [فصلت: 44].
[7439]:- إشارة إلى قوله تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إن رجسهم وماتوا وهم كافرون} [التوبة: 125]، في الأصل وم: يزداد.
[7440]:- من م، في الأصل للمتبعين.
[7441]:- ساقطة من الأصل وم.
[7442]:- ساقطة من الأصل.
[7443]:- في الأصل وم: وقيل.
[7444]:- من م، في الأصل تقتضي.
[7445]:- ساقطة من الأصل وم.