روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

{ وهذا كتاب أنزلناه } تحقيق لإنزال القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما بشر به من التوراة وتكذيب لكلمتهم الشنعاء إثر تكذيب ، وتنكير { كِتَابٌ } للتفخيم ، وجملة { أنزلناه } في موضع الرفع صفة له وقوله سبحانه : { مُّبَارَكٌ } أي كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة . قال الإمام : «جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة » ولقد شاهدنا والحمد لله عز وجل ثمرة خدمتنا له في الدنيا فنسأله أن لا يحرمنا سعادة الآخرة إنه البر الرحيم . وقوله جل وعلا : { مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } صفة أخرى ، والإضافة على ما نص عليه أبو البقاء غير محضة ، والمراد بالموصول إما التوراة لأنها أعظم كتاب نزل قبل ولأن الخطاب مع اليهود ، وأما ما يعمها وغيرها من الكتب السماوية وروي ذلك عن الحسن ، وتذكير الموصول باعتبار الكتاب أو المنزل أو نحو ذلك ، ومعنى كونها بين يديه أنها متقدمة عليه فإن كل ما كان بين اليدين كذلك وتصديقه للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ .

{ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى } قيل : عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار . واختار العلامة الثاني كونه عطفاً على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار ، وادعى أنه لاحاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فإن عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير ، ودعوى أن الداعي إليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه ، والأولى ما يقال : إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه ، أما المعنى فلأن الإنذار علة لإنزاله كما يدل عليه { وأوحى الي هذا القرآن لأنذركم به } [ الأنعام : 19 ] ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد ، ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية . فإنه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني وهو كما ترى . ومنه يعلم الداعي اللفظي وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخراً أو مقدماً أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلناه لتنذر ، وتقديم الجار للاهتمام أو للحصر الإضافي ، وأن يكون عطفاً على مقدر أي لتبشر ولتنذر ، وأياً ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى ، والمراد بها مكة المكرمة ، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الأولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضاً تعظيم الأم ، ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي ، ولأنها أعظم القرى شأناً فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل .

وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس . ونقل ذلك عن السدي وقرأ أبو بكر عن عاصم { لّيُنذِرَ } بالياء التحتية على الإسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به .

{ وَمَنْ حَوْلَهَا } من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثه صلى الله عليه وسلم الصادع بها القرآن في غير آية ، واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلى الله عليه وسلم مرسل للعرب خاصة ، على أنه يمكن أن يقال : خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بإنذاره عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين } [ الشعراء : 214 ] ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه { والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة } وبما فيها من الثواب والعقاب ، ومن اقتصر على الثاني في البيان لاحظ سبق الإنذار { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي بالكتاب ، قيل : أو بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يرهبون من العذاب ويرغبون في الثواب ولا يزال ذلك يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } يحتمل أن يراد بالصلاة مطلق الطاعة مجازاً أو اكتفى ببعضها الذي هو عماد الدين وعلم الإيمان ولذا أطلق على ذلك الإيمان مجازاً كقوله تعالى : { مَّا كَانَ الله * لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 341 ] .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ } لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون . { مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه { وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى } وهي القلب { وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الأنعام : 92 ] من القوى