قوله : " هذا " إشارة إلى القرآن ، أي : القرآن كتاب مبارك " أنزلناه مصدق الذي بين يديه " .
وفيه دليل على تَقْدِيمِ الصِّفةِ غير الصريحة على الصريحة ، وأجيب عنه بأن " مُبَارَكٌ " خبر مبتدأ مضمر ، وقد تقدم تحقيق هذا في قوله { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ } [ المائدة :54 ] .
وقال الواحدي : " مبارك " : خبر الابتداء فصل بينهما بالجملة ، والتقدير : هذا [ كتاب ]{[14495]} مبارك أنزلناه ، كقوله : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاه } [ الأنبياء :50 ] .
قال شهاب الدين{[14496]} : وهذا الذي ذكره لا يَتَمَشَّى إلا على أن قوله : " مبِارك " خبر ثانٍ ل " هذا " وهذا بعيد جداً وإذا سلّم له ذلك ، فيكون " أنزلناه " عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته ، ولكن لا يحتاج إلى ذلك ، بل يجعل " أنزلناه " صفة ل " كتاب " ولا محذور حينئذ على هذا التقدير ، وفي الجملة فالوَجْهُ ما تقدَّمَ فيه من الإعراب .
وقدَّم وَصْفَهُ بالإنزال على وَصْفِهِ بالبركة ، بخلاف قوله تعالى :
{ وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاه } .
قالوا [ لأن الأهم ]{[14497]} هنا وَصْفُهُ بالإنزال إذا جاء عقيب إنكارهم أن يُنْزِلَ الله على بَشَرٍ شيء ، بخلاف هناك ، ووقعت الصفة الأولى جُمْلَةً فعلية ؛ لأن الإنزال يَتَجَدَّدُ وقْتاً فوقْتاً والثانية اسماً صريحاً ؛ لأن الاسم يَدُلُّ على الثبوت والاسْتِقْرارِ ، وهو مقصود هنا أي : [ بركته ]{[14498]} ثابتةٌ مستقرة .
قال القرطبي{[14499]} رحمه الله : " ويجوز نصب " مبارك " في غير القرآن العظيم على الحال ، وكذا : مصدق الذي بين يديه " .
قوله : " أنزلناه " المقصود أن يُعْلم أنه من عند الله لا من عند الرسول ، وقوله تعالى : " مبارك " قال أهل المعاني أي : كثير خيره دائم منفعته يبشر بالثواب والمغفرة ، ويزجر عن القبيح والمعصية .
قوله : " مُصَدّق " صِفَةٌ أيضاً ، أو خبر بعد خبر على القول بأن " مبارك " خبر لمبتدأ مضمر وقع صِفَةً لنكرة ؛ لأنه في نِيَّةِ الانفصال ، كقوله تعالى : { هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف :24 ] وكقول القائل في ذلك : [ البسيط ]
يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُكُمْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[14500]}
وقال مكي : " مُصَدّق الذي " نعت ل " الكتاب " على حذف التنوين لالتقاء الساكنين و " الذي " في موضع نصب وإن لم يقدر حذف التنوين كان " مصدق " خبراً و " الذي " في موضع خفض ، وهذا الذي قاله غَلَطٌ فاحش ؛ لأن حَذْفَ التنوين إنما هو الإضافة اللفظية ، وإن كان اسم الفاعل في نِيَّةِ الانفصال ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين إنما يكون في ضرورة أو نُدُورٍ ؛ كقوله : [ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَلاَ ذَاكِرِ اللَّه إلاَّ قَلِيلا{[14501]}
والنحويون كلهم يقولون في " هذا ضارب الرجل " : إن حَذْفَ التنوين للإضافة تَخْفِيفاً ؛ ولا يقول أحد منهم في مثل هذا : إنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين .
معنى كونه " مصدقاً لما قبله " من الكتب المنزلة قبله أنها [ توافقنا في نفي الشرك وإثبات التوحيد ]{[14502]} .
قوله : " ولتنذر " قرأ الجمهور{[14503]} بتاء الخطاب للرَّسول عليه الصلاة والسلام ، وأبو بكر{[14504]} عن عاصم بياء الغَيْبَةِ ، والضمير للقرآن الكريم ، وهو ظاهر أي : ينذر بمَواعِظِهِ وَزَواجِرِهِ ويجوز أن يعود على الرسول - عليه الصلاة والسلام - للعلم به .
أحدهما : هي متعلّقة ب " أنزلنا " عطف على مُقدَّرٍ قدَّرهُ أبو البقاء : " ليؤمنوا ولتنذر " ، وقدَّرهَا الزمخشري{[14505]} ، فقال : " ولتنذرَ " معطوف على ما دَلَّ عليه صفة الكتاب ، كما قيل : أنزلناه للبركات وليصدق ما تقدَّمَهُ من الكتب والإنذار .
والثاني : أنها متعلِّقة بمحذوف متأخّر ، أي ولتنذر أنزلناه .
قوله : " أمّ القُرَى " يجوز أن يكون من باب الحَذْفِ ، أي : أهل أم القُرَى ، وأن يكون من باب المَجَازِ أطلق لِلْحَمْلِ إلى المحلِّ على الحال ، وإنهما أولى أعني المجاز والضمير في المسألة ثلاثة أقوال ، تقدم بَيَانُهَا ، وهذا كقوله تعالى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف :82 ] وهناك وَجْهٌ لا يمكن هنا ، وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حَقِيقَةً ، ويكون ذلك مُعْجِزَةً للنبي ، وهنا لا يتأتى ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تَتَكلَّمُ إلا أن الإنْذارَ لا يقعُ لعدَمِ فائدته .
وقوله : " ومَنْ حَوْلَهَا " عطف على " أهل " المحذوف ، أي : ولتنذر مَنْ حول أمِّ القرى ، ولا يجوز أن يعطف على " أم القرى " ، إذ يلزم أن يكون معنى " ولتنذر " أهل من حولها ولا حَاجَةَ تدعو إلى ذلك ؛ لأن " من حولها " يقبلون الإنذار .
قال أبو حيان{[14506]} : ولم يحذف " من " ، فيعطف حول على " أم القرى " ، وإنّه لا يصح من حيث المعنى ؛ لأن " حول " ظَرْفٌ لا ينصرف ، فلو عطف على " أم القرى " لصار مفعولاً به لعطفه على المفعول به ، وذلك لا يجوز ؛ لأن العرب لا تستعمله إلاَّ ظرفاً .
اتفقوا على أن أم القرى " مكّة " سميت بذلك ؛ قال ابن عباس : لأن الأرضين دحيت{[14507]} من تحتها ، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل [ النسل .
قال الأصم : سميت بذلك ؛ لأنها قِبْلَةُ أهل الدنيا ، فصارت هي كالأصل ]{[14508]} وسائر البلاد والقرى تابعة .
وأيضاً من أصول عبادات أهل الدنيا الحَجُّ وهو إنما يكون في هذه البَلْدَةِ ، فلهذا السبب يجتمع الخَلْقُ إليها ، كما يجتمع الأولاد إلى الأم .
وأيضاً فلما كان أهْلُ الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحجِّ لا جَرَمَ يحصل هناك أنواعٌ من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد ، ولا شكَّ أن الكَسْبَ والتجارة من أصول المنافع ، فلهذا السبب سميت " مكة " بأم القرى .
وقيل{[14509]} : " مكة " المشرفة أوَّلُ بلدة سُكِنَتْ في الأرض .
قوله : " من حولها " يدخل فيه سائر البلدان والقُرَى .
قال المفسرون{[14510]} : المراد أهل الأرض شَرْقاً وغرباً .
قوله : " والذين يؤمنون بالآخرة " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره " يؤمنون " ولم يتّحد المبتدأ والخبر لِتَغَايُرِ متعلقيهما ، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ ، وإلا فيمتنع أن تقول : " الذي يقوم يقوم " ، و " الذين يؤمنون يؤمنون " ، وعلى هذا فذكر الفضلة هنا واجب ، ولم يتعرَّضِ النحويون لذلك ، ولكن تعرضوا لِنَظَائِرِهِ .
والثاني : أنه مَنْصُوبٌ عَطْفاً على " أم القرى " أي : لينذر الذين أمنوا ، فيكون " يؤمنون " حالاً من الموصول ، وليست حالاً مؤكدة ؛ لما تقدم من تَسْويغ وقوعه خبراً ، وهو اختلاف المُتَعَلّق ، و " الهاء " في " به " تعود على القرآن ، أو على الرسول .
ذكر العلماء في [ معنى ]{[14511]} قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : الذي يؤمن بالآخرة ، وهو الذي يؤمن بالوَعْدِ والوعيد ، والثواب والعقاب ، ومن كان كذلك فإنه تعظم{[14512]} رغبته في تَحْصيلِ الثواب ، ورَهْبَتُهُ عن حُلُولِ العقاب ، ويبالغ في النظر في دلائل التوحيد والنبوة ، فيصل إلى العلم والإيمان{[14513]} .
وقال بعضهم : إن دين محمد عليه الصلاة والسلام [ مبني على الإيمان بالبعث والقيامة ، وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين ]{[14514]} .
قوله : { وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } حال ، وقدّم " على صلاتهم " لأجْلِ الفاصلة ، وذكر أبو علي في " الروضة " ، أنَّ أبا بكر{[14515]} قرأ " على صَلَواتِهِمْ " جمعاً والمراد بالمُحَافَظَةُ على الصلوات الخمس .
فإن قيل : الإيمان بالآخرة يحمل على كُلِّ الطاعات ، فما الفائدة في تخصيص الصَّلاةِ ؟ فالجواب : أن المَقْصُودَ التَّنْبيه على أن الصَّلاة أشْرَفُ العبادات بعد الإيمان بالله تعالى ، ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شَيءٍ من العبادات الظاهرة ، إلاَّ على الصلاة ، كما قال تبارك وتعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }
[ البقرة :143 ] أي : صلاتكم ، ولم يقع اسم الكُفْرِ على شيء من المَعَاصِي إلاَّ على تَرْكَ الصلاة ، قال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ تَرَكَ الصَّلاة مُتَعَمِّداً فَقَدْ كَفَرَ " .
فما اخْتُصَّت الصلاة بهذا النوع من التشريف خصها الله -تبارك وتعالى- بالذِّكْرِ هاهنا .