البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَهَٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ مُبَارَكٞ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَاۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۖ وَهُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ يُحَافِظُونَ} (92)

{ وهذا كتاب أنزلناه مبارك } أي وهذا القرآن لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة ، ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا : { ما أنزل الله } ، وقيل : { قل من أنزل الكتاب } كان تقديم وصفه بالإنزال آكد من وصفه بكونه مباركاً ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعاً فصارت الصفة بكونه مباركاً ، كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها ، فأما قوله : { وهذا ذكر مبارك أنزلناه } فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئاً بل جاء عقب قوله تعالى : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين } ذكر أن الذي آتاه الرسول هو ذكر مبارك ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل ، ولما كان وصفه بالبركة وصفاً لا يفارق عبر بالاسم الدال على الثبوت .

{ مصدق الذي بين يديه } أي من كتب الله المنزلة ، وقيل التوراة ، وقيل البعث ، قال ابن عطية : وهذا غير صحيح لأن القرآن هو بين يدي القيامة .

{ ولتنذر أم القرى ومن حولها } { أم القرى } مكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين ودحو الأرض منها ولأنها وسط الأرض ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضع للناس ، والمعنى : { ولتنذر } أهل { أم القرى ومن حولها } وهم سائر أهل الأرض قاله ابن عباس ، وقيل : العرب وقد استدل بقوله : { أم القرى ومن حولها } طائفة من اليهود زعموا أنه رسول إلى العرب فقط ، قالوا : { ومن حولها } هي القرى المحيطة بها وهي جزيرة العرب ، وأجيب بأن { ومن حولها } عام في جميع الأرض ولو فرضنا الخصوص لم يكن في ذكر جزيرة العرب دليل على انتفاء الحكم عن ما سواها إلا بالمفهوم وهو ضعيف ، وحذف أهل الدلالة المعنى عليه لأن الأبنية لا تنذر كقوله : { واسأل القرية } لأن القرية لا تسأل ولم تحذف من فيعطف { حولها } على { أم القرى } وإن كان من حيث المعنى كان يصح لأن حول ظرف لا يتصرف فلو عطف على أم القرى لزم أن يكون مفعولاً به لعطفه على المفعول به وذلك لا يجوز لأن في استعماله مفعولاً به خروجاً عن الظرفية وذلك لا يجوز فيه لأنه كما قلنا لم تستعمله العرب إلاّ لازم الظرفية غير متصرف فيه بغيرها ، وقرأ أبو بكر لينذر أي القرآن بمواعظه وأوامره ، وقرأ الجمهور { ولتنذر } خطاباً للرسول والمعنى { ولتنذر } به أنزلناه فاللام تتعلق بمتأخر محذوف دل عليه ما قبله ، وقال الزمخشري : { ولتنذر } معطوف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل : أنزلنا للبركات وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار .

{ والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } الظاهر أن الضمير في { به } عائد على الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشراً ونشراً وجزاءً تؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد ، إذ ليس فيه كتاب من الكتب الإلهية ولا في شريعة من الشرائع ما في هذا الكتاب ولا ما في هذه الشريعة من تقدير يوم القيامة والبعث ، والمعنى : يؤمنون به الإيمان المعتضد بالحجة الصحيحة وإلا فأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون بالقرآن واكتفى بذكر الإيمان بالبعث وهو أحد الأركان الستة التي هي واجب الوجود والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر لأن الإيمان به يستلزم الإيمان بباقيها ولإسماع كفار العرب وغيرهم ممن لا يؤمن بالبعث ، أن من آمن بالبعث آمن بهذا الكتاب وأصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن ، وقيل : يعود الضمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم .

{ وهم على صلاتهم يحافظون } خص الصلاة لأنها عماد الدين ومن حافظ عليها كان محافظاً على أخواتها ومعنى المحافظة المواظبة على أدائها في أوقاتها على أحسن ما توقع عليه والصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله ولذلك لم يوقع اسم الإيمان على شيء من العبادات إلا عليها قال تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم ولم يقع الكفر على شيء من المعاصي إلا على تركها .

روي : « من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر » وقرأ الجمهور { على صلاتهم } بالتوحيد والمراد به الجنس وروى خلف عن يحيى عن أبي بكر صلواتهم بالجمع ذكر ذلك أبو علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي في كتاب الروضة من تأليفه وقال تفرد بذلك عن جميع الناس .