معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

قوله تعالى : { فإذا انسلخ } . انقضى ومضى .

قوله تعالى : { الأشهر الحرم } . قيل : هي الأشهر الأربعة رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم . وقال مجاهد ، وابن إسحاق : هي شهور العهد ، فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم ، خمسون يوما ، وقيل لها حرم : لأن الله تعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم . فإن قيل : هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } ؟ قيل : لما كان هذا القدر متصلا بما مضى أطلق عليه اسم الجمع ، ومعناه : مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم .

وقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } . في الحل والحرم .

قوله تعالى : { وخذوهم } . وأسروهم .

قوله تعالى : { واحصروهم } . أي احبسوهم ، قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد أن تحصنوا فاحصروهم ، أي امنعوهم من الخروج . وقيل : امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام .

قوله تعالى : { واقعدوا لهم كل مرصد } ، أي على كل طريق ، والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو ، من رصدت الشيء أرصده : إذا ترقبته ، يريد : كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من أي وجه توجهوا . وقيل : اقعدوا لهم بطريق مكة ، حتى لا يدخلوها .

قوله تعالى : { فإن تابوا } . من الشرك .

قوله تعالى : { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } . يقول : دعوهم فليتصرفوا في أمصارهم ويدخلوا مكة

قوله تعالى : { إن الله غفور } . لمن تاب .

قوله تعالى : { رحيم } . به ، وقال الحسين بن الفضل : هذه الآية نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى الأعداء .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

وبعد أن قررت السورة الكريمة براءة الله ورسوله من عهود المشركين الخائنين ، وأمرت بالوفاء بمن وفى بعهده منهم . . بعد كل ذلك أخذت في بيان كيفية معاملة المشركين بعد انتهاء المهلة الممنوحة هلم فقال - تعالى - : { فَإِذَا انسلخ الأشهر . . . . } .

وقوله : { انسلخ } من السلخ بمعنى الكشط ، يقال : سلخ الإِهاب عن الشاة يسلخه ويسلخه سلخا إذا كشطه ونزعه عنها . أو بمعنى الإِخراج من قولهم : سلخت الشاة عن الإِهاب إذا أخرجتها منه ، ثم استعير للانقضاء والانتهاء فانسلاخ الأشهر إستعارة لانقضائها والخروج منها .

قال الآلوسى : والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة ، وذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمل الجلد على الحيوان ، وكذا كل جزء من أجزاءه الممتدة كالأيام والشهور والسنين ، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه ، وفى ذلك ميزد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزاً لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدى المسلمين فنيط قتالهم بزوالها .

والمراد بالأشهر الحرم : أشهر الأمان الأربعة التي سبق ذكرها في قوله ، تعالى ، { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } وعليه فتكون أى في قوله { الأشهر الحرم } للعهد الذكرى .

وسميت حرما لأنه . سبحانه . جعلها فترة أمان للمشركين ، ونهى المؤمنين عن التعرض لهم فيها .

ووضع - سبحانه - المظهر موضع المضمر حيث لم يقل فإذا انسلخت ، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيداً لما ينبئ عنه إباحة السياة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من ميزيد الاعتناء بشأنها .

وقيل المراد بالأشهر الحرم هنا : الأشهر المعروفة وهى رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روى ذلك عن ابن عباس والضحاك والباقر واختاره ابن جرير .

قال ابن كثير : وفيه نظر ، والذى يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفى عنه وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، وابن إسحاق ، وقتادة والسدى وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن المراد بها أشهر التيسير الأربعة المنصوص عليها بقوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ثم قال { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } أى : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرنما عليكم فيها قتالهم ، وأجلناهم فيها حيثما وجدتموهم فاقتلوهم ، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتى بيان حكمها في آية أخرى وهى قوله - تعالى - { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً . . . } والمراد بالمشركين في قوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أولئك الخائنون الذين انتهت مدة الأمان لهم ، أما الذين لم يخونوا ولهم عهود مؤقتة بمدة معينة فلا يحل للمسلمين قتالهم ، إلا بعد انتهاء هذه المدة ، كما سبق أن بينا قبل قليل تفسير قوله - تعالى - : { إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } والمعنى : فإذا انتهت هذه الأشهر الأربعة التي جعلها مهلة للخائنين ، فاقتلوا - أيها المؤمنون - أعداءكم المشركين { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أى : في أى مكان تجدونهم فيه { وَخُذُوهُمْ } وهو كناية عن السر ، وكانت العرب تعبر عن الأسير بالأخيذ ، { واحصروهم } أى : وامنعوهم من الخروج إذا كانت مصحلتكم في ذلك { واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } والمرصد الموضع الذي يقعد فيه للعدو لمراقبته ، يقال : رصدت الشئ أرصده رصدا ورصَدا إذا ترقبته .

والمعنى : واقعدوا لهم في كل موضع يجتازون منه في أسفارهم ، حتى تسد السبل في وجوههم ، وتضعف شوكتهم ، وتذهب ريحهم ، فيستسلموا لكم .

والمتدبر لهذه الآية الكريمة يرى أن هذه الوسائل الأربع - القتل والأسر والمحاصرة والمراقبة - هي الوسائل الكفيلة بالقضاء على الأعداء ، ولا يخلو عصر من العصور من استعمال بعضها أو كلها عند المهاجمة .

هكذا نرى تعاليم الإِسلام تحض المسلمين على استعمال كل الوسائل المشروعة لكيد أعدائهم ، والعمل على هزيمتهم . . ما دام هؤلاء الأعداء مستمرين في ضغانيهم وعدوانهم وانتهاكهم لحدود الله - تعالى - .

أما إذا فتحوا قلوبهم للحق واستجابوا له ، فإن الآية الكريمة ترفع عنهم السيف ، وتأمر المؤمنين بإخلاء سبيلهم .

استمع إلى بقيتها حيث تقول : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

أى : عليكم - أيها المؤمنون - إذا ما انتهت أشهر الأمان الأربعة أن تقتلوا المشركين الناكثين لعهودهم أينما وجدتموهم وأن تأسروهم وتبسوهم وتراقبوهم على كل طريق حتى تضعف شوكتهم فيناقدوا لكم . . { فَإِن تَابُواْ } عن الشرك بأن دخلوا في الإِسلام فاتركوا التعرض لهم ، وكفوا عن قتالهم ، وافتحوا المسالك والطرق في وجوههم .

واكتفى - سبحانه - بذكر الصلاة والزكاة عن ذكر بقية العبادات ، لكونهما الأساسين للعبادات البدنية والمالية .

وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به التعليل لوجوب إخلاء سبيلهم أى ، إن فعلوا ذلك فخلوا سبيلهم ، ولا تعاملوهم بما كان منهم من شرك ، فإن الإِسلام يجُب ما قبله ، وإن الله قد غفر لهم ما سلف من الكفر والغدر بفضله ورحمته .

قال الإِمام ابن كثير : وقد اعتمد الصديق - رضى الله عنه - في قتال ما نعى الزكاة على هذه الآية وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهى الدخول في الإِسلام والقيام بأداء واجباته ، ونبه بأعلاها على ادناها فإن أشرف أركان الإِسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله - تعالى - وبعدها الزكاة هي نفع متعد إلى الفقراء ، وهى أشرف الأفعال المتعلقة بالخلوقين ، ولهذا كثيرا ما يقرن الله الصلاة والزكاة .

وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " .

وروى الإِمام أحمد عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أمرت أن أقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم "

ورواه البخارى وغيره .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ثم قال : يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه .

وبذلك ترى هذه الآية قد جمعت في إرشادها بين الترغيب والترهيب ؛ فقد أمرت المؤمنين بأن يستعملوا مع أعدائهم كل الوسائل المشروعة لإِرهابهم ثم أمرتهم في الوقت نفسه بإخلاء سبيلهم متى تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة . .