السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

{ فإذا انسلخ } أي : انقضى وخرج { الأشهر الحرم } التي حرم الله تعالى عليهم فيها قتالهم ، وضربت أجلاً لسياحتهم والتعريف مثله في { فأرسلنا إلى فرعون رسولاً 15 فعصى فرعون الرسول } ( المزمل ، 15 –16 ) والمراد بكونها حرماً أنّ الله تعالى حرم القتل والقتال فيها . وقيل : هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، قال البيضاويّ : وهذا يخل بالنظم أي : نظم الآية إذ نظمها يقتضي توالي الأشهر المذكورة . { فاقتلوا المشركين } أي : الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً { حيث وجدتموهم } أي : في حل أو حرم أو في شهر حرام أو غيره . { وخذوهم } أي : بالأسر { واحصروهم } أي : بالحبس عن إتيان المسجد الحرام والتصرّف في بلاد الإسلام في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى الإسلام أو القتل { واقعدوا لهم } أي : لأجلهم خاصة ، فإن ذلك من أفضل العبادات { كل مرصد } أي : طريق يسلكونه لئلا ينبسطوا في البلاد . وانتصاب كل على الظرفية كقوله : { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } ( الأعراف ، 16 ) وقيل : بنزع الخافض ، قال الحسن بن الفضل : نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء . { فإن تابوا } أي : عن الكفر بالإيمان { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم ، فوصلوا ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق . { فخلوا سبيلهم } أي : فدعوهم ولا تتعرّضوا لهم بشيء من ذلك ، وفي هذه الآية دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله ؛ لأنه إن كان جاحداً لوجوبهما فهو مرتدّ وإلا قتل بترك الصلاة وأخذت منه الزكاة قهراً وقوتل على ذلك كما نقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : لما توفي النبيّ صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر كفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله ) فقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية : عقالاً كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم على منعها ، قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أنّ الله شرح صدر أبي بكر إلى القتال ، فعرفت أنه الحق . { إنّ الله غفور } أي : بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها { رحيم } به .